الإمام الجواد (ع): "ولا هدْمَ للدينِ مثلُ البِدَعِ .." -1

 

أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله ربِّ العالمين نحمدُك يا مَنْ سَما فِي العِزِّ فَفاتَ نَواظِرَ الاَبْصارِ وَدَنا فِي اللُّطْفِ فَجازَ هَواجِسَ الاَفْكارِ يا مَنْ تَوَحَّدَ بِالمُلْكِ فَلا نِدَّ لَهُ فِي مَلَكُوتِ سُلْطانِهِ وَتَفَرَّدَ بِالآلاِء وَالكِبْرِياءِ فَلا ضِدَّ لَهُ فِي جَبَرُوتِ شَأْنِهِ، يا مَنْ حارَتْ فِي كِبْرياءِ هَيْبَتِهِ دقائِقُ لَطائِفِ الاَوْهامِ وَانْحَسَرَتْ دُونَ إدْراكِ عَظَمَتِهِ خَطائِفُ أَبْصارِ الاَنامِ، يا مَنْ عَنَتِ الوُجُوهُ لِهَيْبَتِهِ وَخَضَعَتِ الرِّقابُ لِعَظَمَتِهِ وَوَجِلَتِ القُلُوبُ مِنْ خِيفَتِهِ صلِّ على محمد وآل محمد وَاغْفِرْ لَنا ما تَعْلَمُ مِنَّا وَما لا نَعْلَمُ وَاعْصِمْنا مِنَ الذُّنُوِب خَيْرَ العِصَمِ واكْفِنا كَوافِيَ قَدَرِكَ وَامْنُنْ عَلَيْنا بِحُسْنِ نَظَرِكَ وَلا تَكِلْنا إِلى غَيْرِكَ وَلا تَمْنَعْنا مِنْ خَيْرِكَ وَبارِكْ لَنا فِيما كَتَبْتَهُ لَنا مِنْ أَعْمارِنا وَأَصْلِحْ لَنا خَبِيئَةَ أَسْرارِنا وَأَعْطِنا مِنْكَ الاَمانَ وَاسْتَعْمِلْنا بِحُسْنِ الاِيمانِ وَبَلِّغْنا شَهْرَ الصِّيامِ وَما بَعْدَهُ مِنَ الاَيَّامِ وَالاَعْوامِ يا ذا الجَلالِ وَالاِكْرامِ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً (ص) عَبْدُه ورَسُولُه.

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾(1).

﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾(2).

 

أُبارك لكم أيُّها المؤمنون ذكرى مولدِ أبي جعفرٍ الثاني الإمام محمدٍ بن علي التقيِّ الجواد حجَّةِ الله على خلقِه وصفوتِه من عباده ودليلِه على دينه والمرشدِ إلى أحكامه، وأستثمرُ هذه المناسبة المباركة لأقفَ معكم على واحدٍ من غُررِ حِكَمه المأثورةِ عنه يقول (ع) فيما أُثر عنه:

 

"من وثِقَ بالله أراهُ السرور، ومن توكَّل عليه كفاهُ الأمور، والثقةُ بالله حِصنٌ لا يَتحصَّنُ فيه إلا مؤمنٌ أمين، والتوكُّلُ على اللهِ نجاةٌ من كلِّ سوءٍ وحِرزٌ من كلِّ عدوٍّ. والدينُ عِزٌّ، والعلمُ كنزٌ، والصمتُ نور، وغايةُ الزهدِ الورعُ، ولا هدْمَ للدينِ مثلُ البِدَع.."(3).

 

والحديثُ حول الفقرةِ الأخيرة، وهي قولُه (ع): "ولا هدْمَ للدِّين مثلُ البِدَعِ" ويقعُ ذلك في محاور:

 

روايات تُحذِّر من البدعةِ وأهلِها:

المحور الأول: نتيمَّنُ فيه بقراءة عددٍ من الروايات الواردةِ عن الرسول الكريم (ص) وأهلِ بيته(ع) والمتصدِّيةِ للتحذير من البِدَع وأهلِها، والتأكيدِ على ضلالِهم وسوءٍ عاقبتِهم، وضرورةِ التصدِّي لتحصينِ المؤمنينَ من أراجيفِهم ومخاريقِهم وضلالاتِهم، وهي رواياتٌ كثيرة تفوقُ حدَّ التواتر، وذلك ما يُعبِّر عن عظيمِ خطرِهم على الدِّين وأهلِه.

 

فمِن ذلك: ما ورد عن الرسولِ الكريم (ص) أنَّه قال: مَنْ أَتَى ذَا بِدْعَةٍ فَعَظَّمَه فَإِنَّمَا يَسْعَى فِي هَدْمِ الإِسْلَامِ"(4).

 

ومنها: ما ورد عنه (ص) أنَّه: "إِذَا ظَهَرَتِ الْبِدَعُ فِي أُمَّتِي فَلْيُظْهِرِ الْعَالِمُ عِلْمَه فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْه لَعْنَةُ اللَّه"(5).

 

ومنها: ما ورد عن أمير المؤمنين عليٍّ (ع) أنَّه قال: "مَن مشى إلى صاحب بدعةٍ فوقَّره فقد مشى في هدمِ الاسلام"(6).

 

ومنها: ما ورد عن الصادِقِينَ (ع) أنَّهم قالوا: "إذا ظهرت البدعُ فعلى العالمِ أنْ يُظهرَ علمَه فإنْ لم يفعلْ سُلبَ نورَ الإيمان"(7).

 

ومنها: ما رويعن سلمانَ الفارسيِّ (رضي اللهُ عنه) قال: خطَبنا رسولُ الله (ص) فقال: معاشرَ الناس إنِّي راحلٌ عن قريب ومنطلِقٌ إلى المَغيب، أُوصيكم في عِترتي خيرا، وإيَّاكم والبِدَع، فإنَّ كلَّ بدعةٍ ضلالة، والضلالةُ وأهلُها في النار"(8).

 

ومنها: ما ورد عن أَبِي جَعْفَرٍ وأَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالا: "كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وكُلُّ ضَلَالَةٍ سَبِيلُهَا إِلَى النَّارِ"(9).

 

ومنها: ما وردَ عن أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) أَنَّه قَالَ: "لَا تَصْحَبُوا أَهْلَ الْبِدَعِ، ولَا تُجَالِسُوهُمْ فَتَصِيرُوا عِنْدَ النَّاسِ[ الله] كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ"(10).

 

ومنها: ما رُويَ عن الرسولِ الكريم (ص): "أَبَى اللَّه لِصَاحِبِ الْبِدْعَةِ بِالتَّوْبَةِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّه وكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ إِنَّه قَدْ أُشْرِبَ قَلْبُه حُبَّهَا"(11).

 

تحديدِ معنى البدعةِ في الدين: 

المحور الثاني: البدعةُ هي نسبةُ ما ليس من الدينِ إلى الدِّين، ولذلك فروضٌ ثلاثة الأول: هي نسبةُ شيءٍ إلى الدِّين مع العلم أنَّه ليس من الدين، والثاني هو نسبةُ شيءٍ إلى الدِّين رغم عدم العلم أنَّه من الدين، والفرضُ الثالث هو نسبةُ ما ليس من الدين واقعاً إلى الدين حتى مع الاعتقادِ أنَّه من الدين.

 

 نسبة شيء إلى الدين مع العلم أنَّه ليس منه:

 فهذه فروضٌ ثلاثةُ تدخلُ جميعُها في مفهوم البدعة، فأنْ تنسبَ إلى الدِّين شيئاً تعلمُ أنَّه ليس من الدين ورغم ذلك تزعَمُ أنَّه من الدين وتُروِّجُ له على أنَّه من الدين أو تتعاطى معه على أنَّه من الدينِ فذلك من البدعةِ في أشنعِ وأقبحِ صُورها، لأنَّ فاعلَها يكذبُ على الدين ويعلمُ أنَّه يكذبُ فهو مِن الافتراءِ في أعلى مراتبِه. ومنشأه أنَّه يجمعُ بين القبحِ الفعلي والقبحِ الفاعلي، فالفعلُ قبيحٌ في نفسِه لأنَّه كذبٌ ومنافٍ للحقيقة، ولأنَّ فاعلَه يعلم أنَّه كذبٌ لذلك فهو يكشفُ عن خُبثٍ في السريرة وهو معنى القبحِ الفاعلي. ويُغلِّظ من قُبحِ هذه المرتبةِ من البدعة أنَّ المكذوبَ عليه هو الدين والذي هو في المآلِ كذبٌ على اللهِ جلَّ وعلا وكذبٌ على رسولِه الكريم (ص).

 

وقد شنَّع القرآنُ على المجترِح لهذه المُوبقة في العديد من الآيات:

 

منها: قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾(12).

 

ومنها: قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾(13).

 

ومنها: قوله تعالى: ﴿قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾(14).

 

فالقدرُ المتيقَّن من المعنيِّين بهذه الآيات هم الذين يكذبونَ على اللهِ وعلى الدينِ وينسبونَ إلى اللهِ ما لم يقلْه وإلى الدينِ ما ليس منه رغم علمِهم أنَّهم يكذبون.

 

نسبةُ شيءٍ إلى الدين مع عدم العلم أنَّه منه:

والفرض الثاني من البدعة هي نسبةُ شيءٍ إلى الدِّين مع عدم العلم أنَّه من الدين، فأنْ تنسبَ شيئاً إلى الدِّين وتدَّعي أنَّه من الدين وأنَّ الدِّين قد أمرَ به أو نهى عنه أو أقرَّ به وأنتَ لا تعلمُ أنَّه من الدِّين وإنَّما تحتملُ أو تظنُّ ورغم ذلك تُروِّجُ له على أنَّه مِن الدين جزماً فأنتَ مبتدِعٌ ومفترٍ، تماماً كما لو نسبتَ إلى أحدٍ أنَّه قد زنى أو سرقَ أو قتلَ وأنتَ لا تعلم بأنَّه فعلَ ذلك وإنَّما تحتملُ أو تحدِسُ فإنَّه يُعدُّ من الافتراء بل وكذلك لو قلتَ إنَّ زيداً قد ماتَ وأنت لا تعلمُ يقيناً أنَّه قد مات وإنَّما تحتملُ أو تظنُّ ورغم ذلك أخبرتَ عن موته بنحو الجزم فهو من الافتراء المستقبَح، ويكونُ مثلُ هذا الفعل أشدَّ قبحاً حينما يكونُ المُفترى عليه هو الدِّين والذي هو في المآل افتراءٌ على الله تعالى وعلى رسوله (ص) فهذا الفرضُ من البدعة مشمولٌ للآياتِ التي شنَّعت على المفترين على الله تعالى.

 

وكذلك هو مشمولٌ لمثل قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾(15).

 

وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(16).

 

وقوله تعالى: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى﴾(17).

 

نسبةُ شيءٍ إلى الدِّين وهو ليس من الدين واقعاً:

والفرضُ الثالث هو نسبةُ شيءٍ إلى الدِّين وهو ليس من الدين واقعاً، فهو بدعةٌ وإنْ كان المدَّعي لنسبته إلى الدين متيقِّناً بدعواه. ومثالُه أنْ ينسبَ أحدُهم إلى الدين مشروعيَّةَ صومِ الصمت ويتَّفق أنَّ المدَّعي كان يقطعُ أنَّ مشروعيَّتَه مستندةٌ إلى الدين فإنَّ قطعَه لا ينفي عن مدَّعاه وصفَ البدعة، فصومُ الصمت بدعةٌ وإن كان المدَّعي يعتقدُ بمشروعيَّتِه، وذلك لأنَّ صوم الصمت ليس من الدين واقعاً، واعتقاد مدَّعي المشروعيَّة لا يُصيِّره من الدين، وكلُّ ما ليس من الدين فنسبته إلى الدين بدعة، وكذلك لو نَسَبَ أحدُهم إلى الدين القولَ بحجيَّة الرؤى والأحلام وكان يعتقدُ بمدَّعاه ويقطعُ به، فإنَّ قطعَه لا ينفي عن هذه النسبةِ وصفَ البدعة، فالقولُ بحجيَّة الرؤى والأحلام بدعةٌ لأنَّها ليست من الدين واقعاً، واعتقادُ مدَّعي الحجيَّة لا يُصيِّرُها من الدين. ولا ينفي عن المدَّعي وصفَ المبتدِع لدى المتلقِّي العارفِ ببدعيَّة الدعوى.

 

منشأ اعتبار هذا الفرض من البدعة:

ومنشأُ عدِّ ذلك من البدعة واضحٌ فإنَّ الدينَ هو ما كان من عند الله تعالى أو جاء به رسولُه (ص) فكلُّ شيءٍ ليس من عند الله تعالى ولا مِن رسولِه (ص) فهو ليس من الدين، فنسبتُه إلى الدين تكونُ من النسبة المنافية للواقع وهو من الكذب، لأنَّ الكذبَ هو الخبر أو قل هو النسبة غير المطابِقةِ للواقع بقطع النظر عن أنَّ المخبِرَ بها كان مُعتقِداً بصدقِ النسبة أو كان معتقداً بكذبِها أو لم يكن معتقداً بالصدقِ أو بالكذب فالمدارُ في كون النسبة صادقةً أو كاذبة هو مطابَقةُ النسبة للواقع وعدم مطابقتِها، فإذا لم تكن النسبة مطابقةً للواقع فهي كاذبة ولذلك فهي بدعة، إذ أنَّ البدعة هي نسبةُ شيءٍ إلى الدين وهو ليس من الدين واقعاً، فصومُ الصمت حيث إنَّه ليس من الدين فنسبتُه إلى الدين كذبٌ وبدعة، نعم لو قال أحدُهم صوم الصمت حسنٌ وأنا أقترح عليكم أنْ تفعلوه ولا أدَّعي أنْ الدين قد شرَّعه وأمرَ به فهذا ليس من البدعة لأنَّه لم ينسبه إلى الدين وإنَّما نسبه إلى نفسه. وهكذا لو قال أحدُهم إنَّ المشي بمقدار ساعةٍ في كلِّ يوم حسَنٌ وأنا أنصحُكم أو آمرُكم به فإنَّه ليس من البدعة لأنَّه لم ينسبْ هذه النصيحةَ وهذا الأمرَ إلى الدين وإنَّما نسَبه إلى نفسِه، نعم لو قال إنَّ الدين يأمرُكم أو ينصحُكم بأنْ تمشوا في كلِّ يوم مقدار ساعة فهو كذبٌ وبدعة لأنَّ الدينَ لم يأمرْ ولم ينصح بذلك بالخصوص. فالبدعةُ هي النسبةُ الكاذبة للدين، بقطعِ النظر عن اعتقاد المدَّعي.

 

انقسام متعلَّق البدعة إلى ثلاثة أقسام:

المحور الثالث: البدعةُ قد تكونُ في الشريعة، وقد تكونُ في العقيدة، وقد تكونُ فيما له الحجيَّة من الطُرقِ ووسائلِ الإثبات.

 

البدعة في الشريعة:

والمرادُ من الشريعة هي الأحكامُ الشرعية كالوجوبِ والحرمة، والاستحبابِ والكراهة والصحَّةِ والفسادِ والشرطيَّةِ والمانعيَّة وما أشبهَ ذلك من الأحكام التكليفيَّةِ والوضعيَّة، فنسبةُ حكمٍ إلى الشريعة مع العلم أنَّه ليس منها أو مع عدمِ العلم أنَّه منها أو مع عدم كونِه منها واقعاً يكونُ بدعةً، ومثالُه أنْ ننسب للشريعة القولَ بوجوبِ صومِ الوصال مع أنَّه ليس واجباً في الشريعة أو ننسبَ للشريعة القولَ بمشروعية نكاح المشركة رغم أنَّه ليس مشروعاً أو ننسبَ للشريعة القولَ بصحة الجمع بين الأختين فذلك من البدعة، أو ننسب للشريعة القولَ بعدم وجوب الحجابِ على المرأة أو ننسبَ للشريعة إباحة مصافحة المرأة الأجنبية أو ننسبَ للشريعة تساوي البنت والولد في الميراث من أبيهما أو ننسب للشريعة القول بنسخ أحكام الحدود والقصاص وأنَّها محدودة بعصر النصِّ أو نسب للشريعة استحباب إيذاء النفس لتحصيل بعض الكمالات الروحيَّة، فكلُّ ذلك وشبهِه من البدعة في الشريعة لأنَّه من نسبةِ شيءٍ للشريعة وهو ليس من الشريعة.

 

نسبة الخصوصيَّة -على خلاف الواقع أو بغير علم- من البدعة:

وكذلك فإنَّ دعوى الخصوصية لشيءٍ مشروعٍ في نفسه إذا لم تكن هذه الخصوصيَّة من الشريعة يكونُ من البدعة في الشريعة، ومثالُه صلاةُ الضحى، فالصلاةُ خيرُ موضوعٍ وهي مشروعة على أيِّ حال وفي أيِّ وقتٍ أمَّا أنْ تنسبَ للشارع أنَّه قد خصَّ وقتَ الضحى بصلاةٍ مخصوصةٍ رغم أنَّه لم يصدر عنه ذلك فهذا من البدعة في الشريعة كما أفاد أهلُ البيت (ع) وكذلك فإنَّ نافلةَ شهرِ رمضان ليلاً قد أمرَ الشارع بها فإذا زعَمتَ أنَّ الشارع قد شرَّعها جماعةً فذلك من البدعة، لأنَّ الشارع لم يُشرِّع الجماعة في النافلة.

 

وهكذا لو زعَمت أنَّ الشارع قد أمر بالتكفير والتكتف في الصلاة والحال أنَّ الشارع لم يأمر بذلك فهذه النسبةُ تكونُ من البدعة في الشريعة، وهكذا لو زعمت أنَّ مصافحة الزوجة أو الأخت أو أكلَ لحمِ الإبل من نواقضِ الوضوء والحال أنَّ الشارع لم يجعل ذلك من نواقضِ الوضوء فذلك من البدعة، وهكذا لو زعمت أنَّ الشارع قد شرَّع لقضاء الحاجة صلاةَ خمسِ ركعات بتشهدٍ واحدٍ وتسليم فذلك من البدعة لأنَّه لم يصدرْ ذلك عن الشارع.

 

البدعةُ في العقيدة:

وأمَّا العقيدة فهي الحقائقُ والمعارفُ التي أمرَ الإسلامُ بالإيمان بها أو صحَّح الإيمانَ والاعتقادَ بها كالاعتقاد بالتوحيد وأنَّ النبيَّ (ص) هو خاتمُ الأنبياء والمرسلينَ، وأنَّ الائمة الاثني عشر بعده معصومون، وأنَّ الجنَّةَ والنار حقٌّ وأنَّ اللهَ يبعثُ مَن في القبور وأنَّ القرآنَ معصومٌ ومحفوظٌ من التحريف وأنَّ شريعةَ الإسلام غيرُ قابلةٍ للنسخ إلى قيام الساعة وغيرَ ذلك من الحقائقِ والمعارف التي أمرَ الإسلامُ بعقدِ القلب على صدقِها ومطابقتِها للواقع.

 

فلو أنَّ أحداً نسبَ للإسلام مُعتقَداً لم يأمرْ أو لم يصحِّح الإسلامُ الاعتقادَ به فذلك يُعدُّ من البدعةِ في العقيدة، ومثالُ ذلك أنْ ينسب أحدُهم للإسلام دعوى أنَّ الله تعالى يُرى يوم القيامة فذلك من البدعة في العقيدة، وكذلك لو ادَّعى أحدُهم أنَّ القرآن صحَّح الاعتقاد بأنَّ لله تعالى جسماً يليقُ بشأنه أو أنَّه يسكنُ في السماء وأنَّه ينزلُ إلى سماء الدنيا ليلة الجمعة، أو ادَّعى أحدُهم أنَّ الأنبياء يرتكبون الفواحش أو أنَّه لا مانع من ارتكابهم لها، أو ادَّعى مدَّعٍ أنَّ المُطيع مجبورٌ على الطاعة والعاصي مجبورٌ على المعصية، وأنَّ الإمامة تثبتُ بالغلبة أو باختيار أهلِ الحلِّ والعقد أو صحَّح الاعتقادَ بالتناسخ أو بأنَّ أرواحَ المؤمنينَ تكونُ في حواصلَ طيورٍ خضر في عالم البرزخ، فكلُّ ذلك وشبهِه يكون من البدعةِ في العقيدة، لأنَّه من نسبةِ شيءٍ إلى عقيدة الإسلام والحالُ أنَّه ليس من عقيدةِ الإسلام في شيء.

 

وهكذا لو ادَّعى أحدهم أنَّ الله قد جعلَه إماماً مفروضَ الطاعة بعد الأئمة الإثني عشر أو ادَّعى السفارة أو النيابة الخاصَّة عن الإمام المعصوم في عصر الغيبة الكبرى فإنَّ هذه الدعوى من البدعةِ في العقيدة، وكذلك لو ادَّعى إمكان المشاهدةَ المنتظِمة وتلقِّي الأوامر من المعصوم في عصر الغيبة الكبرى أو ادَّعى إمكان الاتصال بأرواح المعصومين (ع) وكذلك لو ادَّعى أحدهم جواز التعبُّد بالأديان فذلك كلُّه من البدعةِ في العقيدة لأنَّه من نسبةِ شيءٍ إلى العقيدة والحال أنَّه ليس منها في شيء.

 

البدعة فيما له الحجيَّة من الطُرقِ والأمارات:

وأمَّا البدعة فيما له الحجيَّة من الطُرق والأمارات فهو أنْ تنسب للشارع وسائلَ لإثبات حكمٍ شرعيٍّ أو عقيدةٍ دينيَّة والواقع أنَّ الشارع لم يجعل لهذه الوسائل حجيَّةً لإثبات حكمٍ شرعي أو عقيدةٍ دينيَّة، ومثالُ ذلك أنْ ينسبَ أحدُهم للشارع أنَّ الرؤى والأحلام وسيلةٌ شرعيةٌ معتبرة لإثبات الأحكام والعقائد أو ينسبَ للشارع القول بحجيَّة علم الرمل أو الجفر أو حجيَّة ما يُسمَّى بالكشف والشهود والإلهام لإثبات الأحكامِ والعقائد الدينيَّة فإنَّ نسبة جعل الحجيَّة لمثل هذه الطرقِ والوسائل يُعدُّ من البدعة، لأنَّ الشارع لم يجعل لها الحجيَّة، وكذلك لو ادَّعى أحدُهم الاتِّصال بالإمام المعصوم في عصر الغيبة الكبرى وتلقِّي الأحكام والعقائد منه وأنَّه مكلَّف بتبليغها عنه، أو ادَّعى تلقِّي الأوامر والإرشادات من طريق الاتصال بأرواح المعصومين (ع) أو ادَّعى لنفسه أنَّ الملائكة تُحدِّثه وتأمره بأمر الله تعالى، فإنَّ ذلك من البدعة فيما له الحجيَّة، إذ أنَّ الشريعة لم تجعل ذلك من وسائل الإثبات للأحكام والعقائد.

 

وكذلك من البدعة فيما له الحجيَّة الشرعية دعوى أنَّ الشارع قد جعل القياسَ وسيلةً لإثبات الأحكام الشرعية، وكذلك دعوى جعل الحجيَّة الشرعيَّة لمثل الاستحسان وسدِّ الذرائع وفتحِها والمصالحِ المرسلة وما أشبه ذلك من الوسائل التي لم يصدر عن الشارع جعل الحجيَّةِ لها واعتبارَها وسائل لإثبات الأحكام الشرعيَّة والعقائد الدينيَّة، وكذلك من البدعة فيما له الحجيَّة اعتمادُ التفسيرِ بالرأي أو التفسير الرمزي والإشاري وادَّعاء أنَّ هذا النحو من التفسير قد أذِن الشارع باعتماده طريقاً للوقوف على مقاصد الشريعة وأحكامها وحقائقها. فكلُّ هذه الوسائل وشبهِها مبتدَعة لأنَّ الشارع لم يأذنْ في اعتمادِها للوصول إلى أحكامِه أو التعرُّف بواسطتها على عقائد الدين.

 

أخطرُ أنحاءِ البِدعة:

وهذا النحو من البدعة في الدين أعني البدعة فيما له الحجيَّة من الطرق والأمارات هو أخطرُ أنحاء البدعة وأشدُّه ضرراً على الدين وأهلِه، وذلك لأنَّها المُنتِجةُ للبدَع في الأحكام والعقائد. فالبدعةُ في الشريعة هي أنْ ينسبَ أحدُهم للشريعة حكماً أو حكمين أو ثلاثة فيدَّعي أنَّها من الشريعة والواقع أنَّها ليست من الشريعة، وكذلك فإنَّ البدعة في العقيدة هي أن يدَّعي أحدُهم أنَّ هذه القضية أو تلك من عقائد الإسلام والواقع أنَّها ليست من عقائد الإسلام، وأمَّا البدعة فيما له الحجيَّة من الطرق فهي أنْ يدَّعي مثلاً أنَّ الشارع قد جعل الرؤى والأحلام حجَّةً وطريقاً لإثبات الأحكام والعقائد، فإذا استطاع أن يُقنِعَ الناس أو جماعةً منهم أنَّ هذه الوسيلة من الوسائل الشرعيَّة لإثبات الأحكام والعقائد فإنه يتمكَّنُ بذلك من استحداث الكثيرِ من الأحكام والعقائد ويستندُ في ذلك إلى أنَّه تلقَّى هذه الأحكام والعقائد من طريق الرؤى والأحلام أو الكشف والإلهام أو وصل إليها من طريق علم الرمل وعلم الجفر أو الاتَّصال بأرواح المعصومين أو السفراء.

 

وكذلك لو ادَّعى أحدهم أنَّ القياس أو الاستحسان حجَّةٌ وأنَّ الشارع قد جعلهما طريقاً لإثبات الأحكام فإنَّ مدَّعي حجيَّة مثل هذه الطرق والوسائل يستطيعُ أنْ يستحدثَ الكثير من الأحكام ويدَّعي أنَّها شرعيَّة استناداً إلى مثل هذه الطُرق، فالبدعة فيما له الحجية هي أخطر أنحاءِ البدعة لأنَّها المُنتِجةُ والمفرِّخة للبدَعِ في الشريعة وفي العقيدة.

 

ونستكملُ الحديثَ حول البدعة وحولَ ما أفاده الإمامُ أبو جعفرٍ الجواد (ع) فيما بعدُ إنْ شاء الله تعالى.

 

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد واغفر لعبادك المؤمنين

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / وَالْعَصْرِ / إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ / إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(18).

 

 والحمد لله ربِّ العالمين

 

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

11 من رجب المرجَّب 1444هـ - الموافق 3 فبراير 2023م

جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز

--------------------------------------

1- سورة آل عمران / 102.

2- سورة النحل / 128.

3- بحار الأنوار -المجلسي- ج57 / ص79.

4- الكافي -الكليني- ج1 / ص54،

5- الكافي -الكليني- ج1 / ص54.

6- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج16 / ص268.

7- الكافي -الكليني- ج1 / ص54.

8- كفاية الأثر -الخزاز القمي- ص41، جامع أحاديث الشيعة -البروجردي- ج14 / ص442.

9- الكافي -الكليني- ج1 / ص56.

10-الكافي -الكليني- ج2 / ص375.

11- الكافي -الكليني- ج1 / ص54.

12- سورة النحل / 116.

13- سورة يونس / 17.

14- سورة يونس / 59.

15- سورة الإسراء / 36.

16- سورة الأنعام / 144.

17- سورة النجم / 23.

18- سورة العصر / 1-3.