مفاد قوله(ع): "إنَّما هو سبٌّ بسب .."

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

سماحة الشيخ:

قول الأمام علي (ع): "إنَّما هو سبٌّ بسب أو عفوٌ عن ذنب".

هل هذا يعني أنَّه يحقُّ له أنْ يصف بالكفر مَن وصفَه به، حيث إنَّ الخارجي قال: ما أفقهَه كافرا"؟

 

الجواب:

نصُّ الرواية كما في نهج البلاغة: "أَنَّه (ع) كَانَ جَالِساً فِي أَصْحَابِه، فَمَرَّتْ بِهِمُ امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ فَرَمَقَهَا الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقَالَ (ع) إِنَّ أَبْصَارَ هَذِه الْفُحُولِ طَوَامِحُ وإِنَّ ذَلِكَ سَبَبُ هِبَابِهَا، فَإِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى امْرَأَةٍ تُعْجِبُه فَلْيُلَامِسْ أَهْلَه، فَإِنَّمَا هِيَ امْرَأَةٌ كَامْرَأَتِه، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ: قَاتَلَه اللَّه كَافِراً مَا أَفْقَهَه، فَوَثَبَ الْقَوْمُ لِيَقْتُلُوه، فَقَالَ (ع): رُوَيْداً إِنَّمَا هُوَ سَبٌّ بِسَبٍّ أَوْ عَفْوٌ عَنْ ذَنْبٍ"(1).

 

وأقصى ما تدلُّ عليه الرواية هو جواز مقابلة السبِّ بالسبِّ، بمعنى أنَّ الحرمة الثابتة محضاً للسبِّ تنتفي حين يُخاطبُه أحدٌ بالسب، فيسوغُ له أنْ يقابله بما هو سبٌّ، أما لو كان السبُّ مشتملاً على حرمةٍ أخرى كالقذف أو الغيبة فإنَّه لا دلالة للرواية على انتفاء هذه الحرمة، فلا دلالة للرواية على انتفاء حرمة القذف أو الغيبة بالسبِّ، فالحرمةُ المنتفية بالسبِّ هي الحرمةُ الثابتةُ محضاً للسبِّ.

 

وبتعبير آخر: لو قال أحدٌ لآخر: يا بن الفاعلة فإنَّه قد ارتكب حرمتين، الأولى: أنَّه قد سبَّه، والثانية: أنَّه قد قذفه، والرواية إنَّما تدلُّ على انتفاء الحرمة الأولى دون الثانية، فيسوغ له أنَّ يسبَّه ولكن لا يجوز له أنْ يقذفه. وكذلك لو قال له يا بن الفاسق فإنَّ هذا القول مشتملٌ على حرمتين الأولى ثابتةٌ للسبِّ، والأخرى ثابتةٌ للغيبة، والرواية إنَّما تدلُّ على جواز مقابلته بالسبِّ يعني أنْ المنتفي عند مواجهة السبِّ هو الحرمة الثابتة للسبِّ دون غيره، فله -بمقتضى الرواية- أنْ يسبَّه بما هو سبٌّ محضاً لا أنْ يسبَّه بما هو سبٌّ وقذف أو بما هو سبٌّ وغيبة أو بما هو سبٌّ وبهتان.

 

هذا وقد أورد الكليني بسندٍ صحيح عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى (ع) فِي رَجُلَيْنِ يَتَسَابَّانِ؟ فَقَالَ الْبَادِي مِنْهُمَا أَظْلَمُ، ووِزْرُه ووِزْرُ صَاحِبِه عَلَيْه مَا لَمْ يَتَعَدَّ الْمَظْلُومُ"(2).

 

ودلالتُها على جواز مقابلة السُباب بمثله -بالحدِّ الذي ذكرناه- ظاهرةٌ، فإنَّ مؤدَّى قوله (ع): "ووِزْرُه ووِزْرُ صَاحِبِه عَلَيْه" هو أنَّ الذي يتحمَّل وزر الردِّ هو البادي، ومعنى ذلك أنَّ الرادَّ على السبِّ بمثلِه لا يتحمَّل شيئاً من الوزر، ومقتضاه عدم حرمة الردِّ، لأنَّه لو كان حراماً لكان فاعله مستحقَّاً للوزر. نعم استثنت الرواية التعدِّي في الردِّ، فإنَّه يكون بتعدِّيه بادئاً بالظلم بالمقدار الزائد لذلك، فهو يتحمَّل وزر الزائد على مقدار الاقتصاص لمظلمَتِه.

 

هذا بناءً على أنَّ لفظَ الرواية هو: "مَا لَمْ يَتَعَدَّ الْمَظْلُومُ" وأمَّا بناءً على ما أورده الكليني في موضعٍ آخر من الكافي من أنَّ الإمام (ع) قال في ذيل الرواية: "مَا لَمْ يَعْتَذِرْ إِلَى الْمَظْلُومِ"(3) فإنَّه بناءً على ذلك هو أنَّه لا يجوز للمظلوم الردُّ إذا اعتذر البادي بالسبِّ، ومقتضى ذلك أنَّه لو ردَّ عليه سبابه بعد اعتذاره فإنَّه يكون موزوراً.

 

ثم إنَّه قد يقال: إذا لم يكن الرادُّ موزوراً فلماذا أضاف الإمام (ع) الوزرَ إليه بقوله: "ووِزْرُ صَاحِبِه" فجوابه إنَّ إضافة الوزر إليه رغم أنَّه لا يتحمَّله كان لغرض الإشارة إلى أنَّ الوزر التقديري الذي يتحمَّله الراد لو كان مبتدئاً هذا الوزر يتحمَّله البادي، ولعلَّ الإمام (ع) أراد من إضافة الوِزر إلى الرادِّ الإشارة إلى أنَّ عليه وِزْر السبِّ إلا أنَّ الله تعالى قد أسقطه عنه امتناناً ووضعَه على عهدة البادي لكونه المتسبِّب في الردِّ فيكون البادي متحمِّلاً لوزرين الأول لأنَّه قد سبَّ أخاه المؤمن، والثاني لأنَّه قد تسبَّب في إيقاع المظلوم فيما هو مبغوض وهو الردُّ.

 

وعلى أيِّ تقديرٍ فإنَّ ظاهر الرواية هو أنَّ الردَّ مبغوضٌ شرعاً، غايته أنَّ الرادَّ لا يتحمَّلُ وِزْره. 

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

13 / رجب المكرَّم / 1444ه

5 فبراير 2023م

------------------------

1- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ص550.

2- الكافي -الكليني- ج2 / ص322.

3- الكافي -الكليني- ج2 / ص360.