القياس الأصوليُّ

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

يطلق القياس عند من يقول به على معنيين:

المعنى الأوّل: وهو المعنى الذي استقرّت عليه آراء المجتهدين من أبناء العامّة، وهو إنْ كانت كلماتُهم في تعريفه وضبطه مشوَّشة جداً إلاّ أنّ حاصلها هو ما سنذكره، وهو أنَّ القياس عبارة عن استنباط حكمِ موضوعٍ مجهولِ الحكم بواسطة حكمِ موضوعٍ معلوم.

وبتعبير آخر: هو تعديةُ حكمٍ ثابتٍ لموضوع الى موضوعٍ آخر، وهذا الاستنباط وهذه التعدية تخضعُ لمبرِّرٍ يُعبّر عنه بالعلّة، والتعرّف على العلّة يتمّ بواسطة مجموعة من الوسائل، منها النصُّ على علّةِ جعل الحكم لموضوعِه، وهو المعبّر عنه بقياس منصوص العلّة، ومنها السبْرُ والتقسيم، ومنها تنقيحُ المناط، ومنها الحدسُ والاستحسان، ومنها تخريجُ المناط والدوران، ويُعبَّر عن مجموع هذه الطرق بقياس مستنبَط العلّة.

ثمّ إنّهم ذكروا أنّ القياس بهذا المعنى يشتملُ على أركانٍ أربعة:

الأوّل: هو الأصل، وهو عبارة عن الموضوع المعلومِ الحكم، ويُعبَّر عنه بالمقيس عليه.

الثاني: هو الفرع، وهو الموضوع المجهولِ الحكم، والذي يُرادُ تعدية الحكمِ الثابت للموضوع الأوّل له، ويُعبَّر عنه بالمَقيس.

الثالث: الحكم الثابت للأصل والذي يُراد تعديته للفرع.

الرابع: العلَّة والتي تكونُ واسطة في تعديةِ الحكم من الموضوع الاوّل «الأصل» الى الموضوع المجهول الحكم « الفرع » باعتبار أنّ الموضوع الثاني إذا كان واجداً لنفس علَّة ثبوت الحكم للموضوع الاوّل فهذا يقتضي اشتراكهما في الحكم.

وبهذا يتَّضح أنّ القياس يتقوَّم بموضوعين وحكمٍ وعلَّة. هذا هو حاصل المراد من المعنى الاوّل، وأمّا بيان المراد من قياس منصوص العلّة وقياس مستنبط العلّة وما ينقسمان عليه فسنفردُ لكلِّ واحدٍ منهما بحثاً مستقلاً.

المعنى الثاني: أنّ المراد من القياس هو عِلل الأحكام الواقعيّة المدرَكة بالعقل، فهي المقياس الذي يجبُ إخضاع تمام النصوص الشرعيّة وكذلك الأحكام الثابتة بوسائل أخرى غير النصوص مثل الإجماع والسِيَر العقلائيّة والمتشرعيّة والشهرات الفتوائيّة يجب إخضاعُها وعرضُها جميعاً على هذه العلل، فما كان منها مناسباً لمقتضيات هذه العِلل عَبَّر ذلك عن صوابيتها ومطابقتها للشريعة، وما كان منها منافياً لمقتضياتها فهي ليست من الشريعة، فلا يكون العملُ بها سائغاً.

وهذا المعنى كان رائجًا في القرن الثاني الهجري، وقد حملت لواءَه مدرسةُ الرأي، والتي يتزعَّمها أبو حنيفة، فهو وإن كانت له جذور متَّصلة بزمن الخلافة الاولى، حيث تبنَّى مجموعة من الصحابة هذا المسلك فأخضعوا النصوص لهذا المقياس إلاّ أنّه تبلور وأخذَ طابع المنهجيَّة في القرن الثاني الهجري، وأدّى ذلك الى تحكيم الرأي في تفسير القرآن الكريم، كما نشأ عنه إسقاط كثيرٍ من الروايات على أساس أنّها منافية لمقتضيات العِلل المدرَكة بالعقل، كما أنّه ابتُكرت كثير من الأحكام ونُسبت للشريعة باعتبار دعوى مناسبتها لمقتضياتِ العِلل الواقعيّة المستوحاة من العقل، كما هي الدعوى.

وقد تصدى أئمّةُ أهل البيت عليهم‌ السلام لهذه المدرسة التي استقطبت قطاعاتٍ كبيرة من علماء العامّة، وذلك بواسطة المناظرات مع أقطاب هذه المدرسة، وبواسطة الأحاديث الابتدائيّة والأجوبة على المسائل.

وقد توسّل أئمّة أهل البيت عليهم ‌السلام لذلك بعرض الأدلّة والنقوض والمنبِّهات المعبِّرة عن فساد هذه المنهجيّة وما يترتَّب عليها من مضاعفات خطيرة، وقد أسهم ذلك مساهمةً بليغة في تضاؤل هذه المدرسة ومحاصرتِها وعدم انسحابها الى الفكر الأصولي الشيعي.

إلاّ أنَّها أخذت في البروز في العصر الراهن ولكنّها اكتست ثوباً جديدا يُخيَّل إليهم من جهلهم أنّها تسعى، فيُعبَّر عنها تارة بعقلنة الفقه وأخرى بروح الشريعة كما يُعبَّر عنها بغايات الدين، وكأنّهم من حضّار المجلس التشريعي الذي عقده اللهُ تعالى حينما أراد جعل الأحكام، فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله.

﴿ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً﴾.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

مقتبس من المعجم الأصولي

للشيخ محمد صنقور