حكم تناول ما فيه ضرر على البدن

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

ما هو حكم تناول ما فيه ضرر على البدن؟

الجواب:

إذا كان الضررُ يصلُ إلى حدِّ الهلكة فهو حرامٌ قطعاً لحرمة إيقاع النفس في الهلكة، وكذلك يحرم فعلُ أو تناولُ ما يضرُّ بالبدن إذا كان مستوى الضرر شديداً بنحوٍ يراه العرفُ جنايةً على النفس كأنْ يعمد إلى بعض أعضائه فيبترُها أو يشرب أو يأكل ما يُفضي إلى إصابته بعاهةٍ مستديمة أو تلفٍ لبعض جوارحه أو ما أشبه ذلك ممَّا يُعلم مبغوضيته الشديدة شرعاً، وأمَّا لو كان الضرر الحاصل من فعل أو تناول بعض الأطعمة لا يصلُ إلى حدِّ الجناية على النفس بل هو دون ذلك كما لو كان موجباً للإصابة بالحمَّى أو الصداع أو الإسهال المؤقت أو موجباً للشعور بالضعف فهل يكون تناولُ ما يوجب هذا المستوى من الضرر محرم أيضاً؟

أفاد عددٌ من الأعلام أنَّ مطلق الإضرار بالنفس محرَّم شرعاً واستُدلَّ لهم على ذلك بعددٍ من الوجوه:

الاستدلال بالإجماع وجوابه:

الوجه الأول: دعوى الإجماع على حرمة مطلق الإضرار بالنفس، نقلَ الإجماع مثل المحقِّق النراقي في المستند، وأفاد بأنَّه منقولٌ ومحقَّق، وكذلك نقل الإجماع السيد الطبأطبائي في رياض المسائل(1).

ويردُ على هذا الوجه أنَّ مثل هذا الإجماع لا يكون تعبديَّاً لاحتمال مدركيَّته، فلعلَّ مَدرَك القائلين بالحرمة مطلقاً قد استندوا أو استند عددٌ منهم إلى الوجوه التي سنذكرها.

الاستدلال بالدليل العقلي وجوابه:

الوجه الثاني: ما نُسب إلى الشيخ الأعظم الأنصاري(2) من أنَّ العقل يستقل بإدراك حرمة الإضرار بالنفس.

ويردُ على هذا الوجه أنَّه يتمُّ في مورد إيقاع النفس في الهلكة أو الجناية عليها، وأمَّا فيما دون ذلك فلا يُدركُ العقل قبحه وإنْ كان العقلاءُ قد يستهجنونه فيما لو كان الإضرار بالنفس عبثياً ودون مسوِّغٍ راجح كالأكل على الشبع والاكثار من الطعام والمعاشرة على الامتلاء أوما أشبه ذلك، هذا لو كان الإضرار بالنفس دون مسوِّغ راجح، وأمَّا لو كان الإضرار بالنفس لغرض راجح عقلائياً فإنَّ العقلاء لا يستهجنونه فضلاً عن بنائهم على قبحه بل جرت سيرةُ العقلاء على اقتحام موارد الإضرار بالنفس سعياً لتحصيل منافعَ هي بنظرهم أرجحُ من الضرر الذي سيتكبَّدونه في سبيل تحصيلها، فالعامل -مثلاً- ينقل الأحمال الثقيلة التي تُرهقه -وهو نحوٌ من الضرر- في سبيل تحصيل الأجرة، وكذلك فإنَّ البائع يعرض نفسه لحرارة الشمس القاسية ويتحمَّل الضرر المترتِّب عن ذلك في سبيل ما يحرصُ على تحصيله من مكاسب، وكذلك مَن يعمل حارساً فإنَّه يظلُّ ساهراً لساعاتٍ طويله ويلحقُه من ذلك ضعفٌ شديد فلا يستقبح العقلاءُ فعله بل يحمدونه عليه لأنَّه إنَّما أوقع نفسه في هذا المستوى من الضرر حرصاً منه على تأمين رزقه.

فدعوى إدراك العقل لحرمة أو قبح الإضرار بالنفس مطلقاً لا تتمُّ إلا أن يكون مراد الشيخ الأعظم -مما نُسب إليه- الإضرار بالنفس البالغ حدَّ الجناية على النفس، وهذه المرتبة من الإضرار ليست مورداً للنزاع.

الاستدلال بالروايات:

الوجه الثالث: الاستدلال بالروايات على حرمة مطلق الإضرار بالنفس:

الاستدلال برواية المفضَّل:

منها: رواية مُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه (ع): أَخْبِرْنِي جُعِلْتُ فِدَاكَ لِمَ حَرَّمَ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى الْخَمْرَ والْمَيْتَةَ والدَّمَ ولَحْمَ الْخِنْزِيرِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّه سُبْحَانَه وتَعَالَى لَمْ يُحَرِّمْ ذَلِكَ عَلَى عِبَادِه وأَحَلَّ لَهُمْ سِوَاه رَغْبَةً مِنْه فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ولَا زُهْداً فِيمَا أَحَلَّ لَهُمْ ولَكِنَّه خَلَقَ الْخَلْقَ وعَلِمَ عَزَّ وجَلَّ مَا تَقُومُ بِه أَبْدَانُهُمْ ومَا يُصْلِحُهُمْ فَأَحَلَّه لَهُمْ وأَبَاحَه تَفَضُّلاً مِنْه عَلَيْهِمْ بِه تَبَارَكَ وتَعَالَى لِمَصْلَحَتِهِمْ، وعَلِمَ مَا يَضُرُّهُمْ فَنَهَاهُمْ عَنْه وحَرَّمَه عَلَيْهِمْ .. ثُمَّ قَالَ: أَمَّا الْمَيْتَةُ فَإِنَّه لَا يُدْمِنُهَا أَحَدٌ إِلَّا ضَعُفَ بَدَنُه ونَحَلَ جِسْمُه وذَهَبَتْ قُوَّتُه وانْقَطَعَ نَسْلُه، ولَا يَمُوتُ آكِلُ الْمَيْتَةِ إِلَّا فَجْأَةً .."(3).

الجواب على الاستدلال برواية المفضَّل:

والجواب عن الاستدلال بالرواية -كما أفاد السيد الخوئي(4)- أنَّها غير ظاهرة في أنَّ علة التحريم لمثل الميتة هو الإضرار بالنفس حتى يُقال إنَّ العلَّة معمِّمة فيقتضي ذلك البناء على حرمة كلِّ شيء يترتَّب عليه الإضرار بالنفس، فأقصى ما يظهرُ من الرواية هو أنَّ الإمام (ع) كان بصدد البيان للحكمة من تحريم مثل الميتة، والمنبِّه على ذلك عددٌ من الأمور:

المنبِّه الأول: أنَّ الإضرار بالنفس لو كان هو علَّة التحريم لكان مقتضى ذلك هو البناء على عدم حرمة الميتة في غير فرض الإدمان على تناولها لأنَّ الرواية رتَّبت الضرر على الإدمان فيكون تناول الميتة دون إدمان مباحاً، إذ أنَّ العلَّة معمِّمة وفي ذات الوقت مخصِّصة، ففي كلِّ مورد لا تكون العلَّة موجودة فإنَّ الحكم المترتِّب عليها يكون منتفياً، وحيث إنَّ الضرر لا يترتَّب على الميتة في فرض عدم الإدمان كما هو مفاد الرواية فذلك يقتضي البناء على عدم حرمة الميتة في فرض عدم الإدمان، وهو ما لا يمكن الالتزام به لوضوح حرمة الميتة مطلقاً سواءً ترتَّب على تناولها ضررٌ أو لا.

المنبِّه الثاني: أنَّ الإضرار بالنفس لو كان هو علَّة التحريم للميتة ولم يكن هو الإدمان- كما هو ظاهر الرواية- لكان مقتضى ذلك هو عدم حرمة التناول للقليل من الميتة، وذلك للقطع بعدم ترتُّب الضرر على تناول القليل منها، وهو خلاف الضرورة الفقهية القاضية بحرمة الأكل للشيء اليسير من الميتة.

المنبِّه الثالث: إنَّ الميتة تصدق شرعاً على الحيوان المذبوح إلى غير القبلة عمداً، وأمَّا إذا ذُبح إلى غير القبلة أيضاً ولكن دون عمد فإنَّه لا يكون ميتة شرعاً، ولا يحتمل أنَّ الحيون في الفرض الأول يكون مضراً ولا يكون في الفرض الثاني مضرَّاً، فإذا لم يكن مضراً في الفرض الثاني فكذلك هو في الفرض الأول لا يكون مضراً رغم أنَّه محرم في الفرض الأول ومباحٌ في الفرض الثاني وهو ما ينبِّه على أنَّ ملاك الحرمة ليس هو الضرر.

وبتعبير آخر: لو كانت علَّة التحريم للميتة هي الضرر لكان مقتضى ذلك هو عدم حرمة بعض أقسام الميتة شرعاً كالشاة المذبوحة من المشرك بذات الطريقة التي يَذبحُ بها المسلم، والشاة المذبوحة دون ذكر اسم الله عليها عمداً مع رعاية سائر الشروط، إذ لا يحتمل أنَّ عدم إسلام الذابح أو عدم الذكر موجباً لصيرورتها مضرَّة.

المنبِّه الرابع: تصدِّي الكثير من الروايات للإرشاد إلى ضرر بعض الأطعمة والأشربة -كالقديد واللحم الغريض النيئ- وضرر بعض الأفعال كالأكل على الشبع، ودخول الحمام على الجوع، والمعاشرة على الامتلاء، ورغم تصديها للإرشاد إلى ما يترتَّب عليها من الضرر إلا أنَّها لم تذكر أنَّها محرَّمة، ولم يفهم أحدٌ من الفقهاء أنَّ ذلك مقتضياً لتحريمها، وهو ما ينبِّه على أنَّ فعل أو تناول ما يضرُّ بالبدن ليس محرَّماً على إطلاقة.

ومن ذلك يتعيَّن استظهار أنَّ رواية المفضَّل بن عمر كانت بصدد البيان للحكمة من تحريم الميتة ولم تكن بصدد البيان لعلَّة التحريم التي يدور الحكم مدارها وجوداً عدماً، ومنه يتبيَّن الجواب عن الاستدلال بالروايات الأخرى القريبة المضمون لرواية المفضل بن عمر رحمه الله تعالى.

الاستدلال برواية الدعائم وتحف العقول: 

ومنها: ما رواه في دعائم الإسلام عن الإمام جعفر بن محمد (عليهما السلام)، أنه ذكر ما يحل أكله وما يحرم بقول مجمل، فقال: "أما ما يحلُّ للإنسان أكلُه ممَّا أخرجت الأرض، فثلاثةُ صنوفٍ من الأغذية .. فكلُّ شيء من هذه الأشياء فيه غذاءٌ للإنسان ومنفعةٌ وقوَّة، فحلالٌ أكلُه، وما كان منها فيه المضرَّة فحرامٌ أكلُه، إلا في حال التداوي به .."(5).

وقريبٌ منه ما أورده في تحف العقول عن الإمام أبي عبد الله الصادق(ع): "كلُّ شيءٍ من الحبِّ ممَّا يكون فيه غذاءُ الانسان في بدنه وقوَّتِه فحلالٌ أكلُه، وكلُّ شيءٍ تكونُ فيه المضرَّةُ على الانسان في بدنِه فحرامٌ أكلُه إلا في حال الضرورة"(6).

الجواب على الاستدلال برواية الدعائم وتحف العقول: 

والجواب عن الاستدلال بهذه الرواية هو أنَّه مضافاً إلى ضعفها سنداً بالإرسال، فإنَّ دلالتها على حرمة تناول مطلق ما يضرُّ بالبدن غير تامَّة، وذلك لأنَّها ظاهرة في التصدِّي لبيان حرمة نوع النباتات والحبوب التي تكون ضارةً للإنسان بطبعها كالسموم القاتلة أو المضرَّة بالبدن ضرراً بليغاً وذلك في مقابل نوع النباتات والحبوب النافعة بطبعها للإنسان فإنَّها تكون حلالاً، وهذا أجنبيٌّ عن مورد الدعوى وهو حرمة مطلق ما يضرُّ بالبدن، فالرواية مثلاً لا ظهور لها في حرمة الإكثار من تناول النباتات النافعة لو ترتَّب ضرر على ذلك، ولا ظهور لها في حرمة تناول النباتات النافعة بطبعها في ظرف الشبع أو المرض رغم ترتَّب الضرر على ذلك.

فأقصى ما تدلُّ عليه الرواية هو بيان الحكمة من تصنيف النباتات والحبوب إلى حلال وحرام، فالحكمة من تحريم صنفٍ وإباحة صنفٍ آخر هو أنَّ الصنف المجعول له الحرمة ضارٌّ بطبعه، والصنف المجعول له الإباحة نافع بطبعه، أمَّا ما هو حكم النافع الذي يضرُّ في بعض الفروض فالرواية غير متصدية لبيان حكمه.

على أنَّه لو سلَّمنا ظهور الرواية بدواً في حرمة مطلق ما يضرُّ بالبدن حتى لو كان ضررا ضئيلاً فإنَّه يتعيَّن رفع اليد عن هذا الظهور، وذلك للروايات الكثيرة التي أرشدت إلى وجود ضررٍ في تناول بعض الأطعمة المباحة يقيناً وأرشدت إلى ترتُّب الضرر على بعض الأفعال المباحة يقيناً وكذلك فإن هذه المسألة مما يعمُّ به الابتلاء، فلو كان مطلق ما يضرُّ بالبدن محرَّماً شرعاً وإن كان ضئيلاً لكان ذلك من الواضحات كيف والسيرة المتشرعيَّة والعقلائية جارية على خلاف ذلك.

الاستدلال بقاعدة نفي الضرر وجوابه:

الوجه الرابع: الاستدلال بقاعدة نفي الضرر المستندة لقوله (ص): "لا ضرر ولا ضرار".

والجواب هو أنَّ قوله (ص): "لا ضرر" ظاهرٌ في نفي الأحكام الضررية شرعاً أي أنَّ الشارع لم يجعل حكماً ينشأ عنه الضرر. والبناء على الحكم بإباحة ما يضرُّ بالبدن لا ينشأ عنه الضرر، أي أنَّ الحكم بالإباحة ليس هو منشأ الضرر، فللمكلف بعد فرض الإباحة أنْ لا يتناول الطعام الضار، فإذا تناوله فإنَّ الضرر الذي سيقع عليه لم ينشأ عن حكم الشارع وإنَّما نشأ عن اختيار المكلف لتناول الطعام الضار، فالحكم بإباحة المضرِّ ليس حكماً ضررياً ينشأ عنه الضرر فهو إذن غير منفيٍّ بقاعدة نفي الضرر.

وأما نفي الضرار فبناءً على دعوى ظهوره في النهي عن الإضرار فهو كذلك لا يدلُّ على حرمة الإضرار بالنفس، فإنَّ المستظهَر من النهي عن الضرار المنهي عنه هو الإضرار بالغير، تماماً كما هو المستظهَر من مثل قولنا: لا قتال، ولا نزاع، ولا جدال، فإنَّ المستظهر من مثل هذه الصيغة هو افتراض طرف آخر. ولا أقلَّ من عدم ظهور الرواية فيما يزيد على ذلك.

والمتحصَّل أنَّه لم يقم دليلٌ على حرمة مطلق ما يضرُّ بالبدن، بل الدليل قائمٌ على خلافه، ولو فُرض عدم وجود الدليل على الإباحة فالمرجع فيما دون الضرر المُوجب للهلكة أو الجنايةِ على النفس هو أصالة الإباحة.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

22 / شوال / 1444ه

14 / مايو / 2023م

--------------------------

1- مستند الشيعة -النراقي- ج15 / ص15، رياض المسائل -السيد علي الطبأطبائي- ج12 / ص200.

2-مصباح الأصول -السيد الخوئي- ج47 / ص636.

3- الكافي -الكليني- ج6 / ص242.

4-مصباح الأصول -السيد الخوئي- ج47 / ص637

5- دعائم الإسلام -القاضي النعمان- ج2 / ص122، مستدرك الوسائل -النوري- ج16 / ص361.

6- تحف العقول -ابن شعبة الحراني- ص337.