المُستند في حرمة السمك من غير ذوات الفَلْس

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

ما هو حكم الأسماك التي ليس عليها فلس؟

الجواب:

المعروف بين الإماميَّةِ (رضوان الله عليهم) هو البناء على حرمة مطلق السمك من غير ذوات الفلس وادُّعي على ذلك الإجماع كما في الانتصار للسيد المرتضى والخلاف للشيخ الطوسي والغنية للسيد ابن زهرة والسرائر لابن إدريس الحلِّي(1) وأفاد صاحب الجواهر أنَّه لم يجد مخالفاً في ذلك إلا ما يُحكى عن القاضي والشيخ الطوسي في موضعٍ من كتاب النهاية(2) والأول كلامه ليس صريحاً في الإفتاء بالإباحة لأنَّه أفتى بكراهة ما ليس له فلس فمن المحتمل أنَّه لم يقصد من ذلك الكراهة المصطلحة بل لعلَّه قصد الحرمة(3) فإنَّ استعمال الكراهة في الحرمة كان رائجاً، وأمَّا الشيخ الطوسي فإنَّه ممن ادَّعى الإجماع على حرمة ما لا فلس له من الأسماك لذلك فمن غير المحرز ثباته على الفتوى بالإباحة التي يظهر بناؤه عليها في موضعٍ كتاب النهاية خلافاً لما هو مستظهَر أو محتمل من موضعين آخرين من نفس كتاب النهاية(4).

مدرك الحرمة لما ليس له فلس من الأسماك:

وكيف كان فمدرك البناء على حرمة الأسماك من غير ذوات الفلس الروايات المستفيضة الواردة عن أهل البيت (ع) والتي وصفها صاحب الجواهر بقوله: هي إن لم تكن متواترة فمقطوعة المضمون"(5) والظاهر أنَّ مراده من مقطوعة المضمون هو أنَّها من السنَّة القطعيَّة أي المقطوع صدورها لبيان الحكم الواقعي.

فمن هذه الروايات صحيحة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: أَقْرَأَنِي أَبُو جَعْفَرٍ (ع) شَيْئاً مِنْ كِتَابِ عَلِيٍّ (ع) فَإِذَا فِيه أَنْهَاكُمْ عَنِ الْجِرِّيِّ والزِّمِّيرِ والْمَارْمَاهِي والطَّافِي والطِّحَالِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّه يَرْحَمُكَ اللَّه إِنَّا نُؤْتَى بِالسَّمَكِ لَيْسَ لَه قِشْرٌ فَقَالَ: كُلْ مَا لَه قِشْرٌ مِنَ السَّمَكِ، ومَا لَيْسَ لَه قِشْرٌ فَلَا تَأْكُلْه"(6).

ومنها: صحيحة عَبْدِ اللَّه بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (ع) بِالْكُوفَةِ يَرْكَبُ بَغْلَةَ رَسُولِ اللَّه ص ثُمَّ يَمُرُّ بِسُوقِ الْحِيتَانِ فَيَقُولُ لَا تَأْكُلُوا ولَا تَبِيعُوا مِنَ السَّمَكِ مَا لَمْ يَكُنْ لَه قِشْرٌ"(7) وقريب منها لفظاً ومضموناً معتبرة مسعدة بن صدقة(8).

ومنها: موثقة حَنَانِ بْنِ سَدِيرٍ قَالَ: سَأَلَ الْعَلَاءُ بْنُ كَامِلٍ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) وأَنَا حَاضِرٌ عَنِ الْجِرِّيِّ فَقَالَ: وَجَدْنَا فِي كِتَابِ عَلِيٍّ (ع) أَشْيَاءَ مُحَرَّمَةً مِنَ السَّمَكِ فَلَا تَقْرَبْهَا ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع): مَا لَمْ يَكُنْ لَه قِشْرٌ مِنَ السَّمَكِ فَلَا تَقْرَبَنَّ"(9).

الروايات المقتضية لإباحة ما لا فلس له من السمك: 

وثمة رواياتٌ أخرى غيرها، وفي مقابل هذه الروايات المستفيضة ورد العديدُ من الروايات ظاهرة في حليَّة السمك الذي ليس له فلس:

منها: صحيحة زرارة قال: سألتُ أبا جعفر عليه السلام عن الجريث فقال: وما الجريث؟ فنعتُّه له فقال: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} إلى آخر الآية، ثم قال: لم يحرم اللهُ شيئاً من الحيوان في القرآن إلا الخنزير بعينِه، ويُكره كلُّ شيء من البحر ليس له قشر مثل الورق، وليس بحرام إنَّما هو مكروه"(10).

ومنها: صحيحة محمد بن مسلم قال: سألتُ أبا عبد الله عليه السلام عن الجرِّي والمارماهي والزمير وما ليس له قشر من السمك حرام هو فقال لي: يا محمد اقرأ هذه الآية التي في الانعام {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الأنعام / 145. قال: فقرأتُها حتى فرغت منها فقال: إنما الحرام ما حرم الله ورسوله في كتابه ولكنهم قد كانوا يعافون أشياء فنحن نعافها"(11).

ومنها: صحيحة ابن مسكان عن محمد الحلبي قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "لا يكره شيء من الحيتان إلا الجري"(12).

الجمع بين الطائفتين بحمل الأولى على الكراهة:

هذا وقد حُملت هذه الروايات المقتضية لإفادة الحليَّة للأسماك من غير ذوات الفلس على التقية لموافقتها لفتوى العامَّة وأورد عدد من الأعلام على هذا الحمل أنَّه لا يصحُّ الحمل على التقية إلا في فرض استحكام التعارض بين الروايات وعدم إمكان الجمع العرفي بينها، والمقام ليس من هذا القبيل نظراً لإمكان الجمع العرفي بين الطائفتين من الروايات وذلك بحمل روايات الطائفة الأولى على إرادة الكراهة، فالروايات النافية للحرمة صريحة في الإباحة، وأما الروايات الناهية عن أكل ما ليس له فلس من السمك فهي ظاهرة في الحرمة، ومقتضى الجمع العرفي هو حمل الظاهر على الصريح أي أنَّ الروايات الصريحة تكون قرينة على عدم إرادة الحرمة من النهي وأنَّ المراد الجدِّي من النهي عن أكل ما ليس له فلس هو الكراهة.

جمع آخر أفاده المحقِّق النراقي:

وثمة جمع آخر بين الطائفتين من الروايات أفاده المحقِّق النراقي في المستند(13) ونتيجة الجمع الذي أفاده هو تقديم الطائفة الأولى المقتضية لحرمة السمك من غير ذوات الفلس وحاصله:

أنَّ روايات الطائفة الثانية مطلقة فتقيَّد بالطائفة الأولى، فصحيحة محمد بن مسلم مثلاً تشمل مطلق الحيوانات التي لم تنصِّ الآية على حرمتها، فهي مطلقة لذلك يمكن تقييدها بالطائفة الأولى، فيكون مقتضى الجمع هو أنَّ مطلق الحيوانات التي لم ينصِّ الكتاب المجيد على حرمتها فهي مباحة إلا الأسماك من غير ذوات الفلس فهي محرَّمة، وأمَّا صحيحة ابن مسكان عن الحلبي فهي تشمل الحيتان التي لها فلس والتي ليس لها فلس، فيكون مقتضى الجمع أنَّ كلَّ حيتان البحر فهي مباحة إلا الحيتان التي ليس لها فلس.

الجواب على ما أفاده النراقي:

أنَّ هذا الجمع ليس عرفياً فالسؤال في صحيحة محمد بن مسلم كان عن حكم السمك الذي ليس له قشر فجاء الجواب أنَّ مطلق ما لم ينصِّ الكتاب المجيد على حرمته فهو مباح، فلو تم البناء على عدم شمول هذا الإطلاق -الذي أفاده الإمام(ع)- للسمك الذي ليس له فلس لكان مقتضى ذلك هو عدم شمول جواب الإمام (ع) لمورد سؤال السائل وهو خلاف الظاهر، فإنَّه إذا سأل السائل عن حكم شيءٍ بعينه فجاء الجواب مطلقاً فإنَّ المستظهَر عرفاً هو أنَّ مورد السؤال مشمول في الجواب، فلو سأل أحدهم عن حكم الأكل للحم الدجاج فجاء الجواب أنَّ كلَّ الطيور الداجنة مباحة اللحم فإنَّ المستظهَر من الجواب هو الشمول للحم الدجاج، ولو قيل إنَّ الجواب لا يشمل لحم الدجاج رغم أنَّه كان مورد السؤال لاعتبَرَ العرفُ ذلك مستهجناً أي أنَّ من المستهجن عرفاً خروج مورد السؤال عن الإطلاق المسوق جواباً عن مورد السؤال.

وأمَّا الجواب عما أفاده حول صحيحة ابن مسكان فهو أنَّه بناءً عليه يكون استثناء الجرِّي من الاستثناء المنقطع، وهو خلاف الظاهر، فلو كان المراد من الحيتان هو خصوص الذي له فلس كما هو مقتضى الجمع الذي ذكره لكان استثناءُ الجرِّي منقطعاً، إذ أنَّ الجري ليس له فلس فلا موجب لاستثنائه من حكم الحيتان التي لها فلس لأنَّه خارج عنها موضوعاً فلو استثناه فإنَّ الاستثناء يكون منقطعاً.

وبتعبيرٍ آخر: إنَّ مقتضى الجمع الذي أفاده النراقي بين الطائفة الأولى وبين صحيحة ابن مسكان هو أنَّ الحيتان التي لها فلس مباحة إلا الجرِّي والحال أنَّ الجري ليس له فلس فاستثناؤه من الحيتان التي لها فلس يكون من الاستثناء المنقطع وهو خلاف الظاهر، وهذا بخلاف ما لو قلنا إنَّ المراد من الحيتان هو الأعم ممَّا له فلس وما ليس له فلس فاستثناء الجرِّي حينئذٍ يكون من الاستثناء المتصل.

المتعيَّن في معالجة الاختلاف بين الطائفتين:

وعليه فالجمع الذي أفاده المحقِّق النراقي لا يتمُّ، وأمَّا الجمعُ الذي أفاده عددٌ من الأعلام وهو حمل روايات الطائفة الأولى الناهية عن السمك من غير ذوات الفلس على الكراهة فهذا الجمع وإنْ كان هو المناسب لمقتضى الجمع العرفي لكنَّ هذا الجمع لا يُصار إليه- كما أفاد صاحب الجواهر- إلا في فرض تكافؤ الطائفتين في الحجيَّة، وأما في المقام فالأمر ليس كذلك، فإنَّ الطائفة الثانية المقتضية لإباحة السمك من غير ذوات الفلس ساقطةٌ في نفسها عن الحجَّيَّة، إذ لم يُعهد عن أحدٍ من القدماء الإفتاء بمضمونِها سوى ما نُسب إلى القاضي ابن البرَّاج، وقد تقدَّم أنَّ من غير المحرَز إفتاؤه بمضمونها لاحتمال أنَّه أراد من إفتائه بالكراهة الحرمة وليس الكراهة المصطلحة، وكذلك الشيخ الطوسي فإنَّه ممَّن ادَّعى الإجماع في الخلاف على حرمة ما ليس له فلسٌ من السمك، ولذلك فليس من المحرَز ثباته على فتواه بالإباحة التي وردت في موضعٍ من كتاب النهاية. وكذلك ما يظهر من كلامه في كتابي التهذيب والاستبصار في مقام الجمع بين الأخبار(14).

ومن ذلك يتبيَّن هجران العمل بروايات الطائفة الثانية رغم اشتمالها على ما هو صحيح السند وهو ما يُعزِّز الارتياب في صدورها لبيان الحكم الواقعي، وعلى خلاف ذلك الطائفة الأولى المستفيضة، فإنَّ عليها عمل الفقهاء القدماء. لذلك فالمتعيَّن حمل الطائفة الثانية على الصدور للتقية لاتفاق العامَّة على الإفتاء بإباحة ما ليس له فلس من السمك، على أنَّ استمرار تصدِّي الإمام علي (ع) لدخول سوق الحيتان للنهي عن أكل وبيع ما ليس له قشر من السمك -كما في صحيحة عبد الله بن سنان ومعتبرة مسعدة- غير قابلٍ للحمل على الكراهة، وبذلك يكون التعارضُ بين الطائفتين مستقراً وغير قابل للجمع فيتعيَّن الرجوع لمرجِّحات باب التعارض، وهي تقتضي ترجيح الطائفة الأولى لموافقة الطائفة الثانية لفتوى العامة.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

25 / شوال / 1444ه

16 / مايو / 2023م

--------------------------------

1- الانتصار -السيد المرتضى- ص400 قال رحمه الله: " ومما انفردت به الإمامية تحريم أكل الثعلب والأرنب والضب ومن صيد البحر السمك الجري والمارماهي والزمار وكل ما لا فلس له من السمك" ،  جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج36 / ص344، مستند الشيعة -النراقي- ج15 / ص63.

2- النهاية -الطوسي- ص576.

3- جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج36 / ص344.

4- النهاية -الطوسي- ص365، ص713

5- جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج36 / ص343

6-الكافي -الكليني- ج6 / ص219.

7- الكافي -الكليني- ج6 / ص220.

8- الكافي -الكليني- ج6 / ص220.

9- الكافي -الكليني- ج6 / ص220.

10- تهذيب الأحكام -الطوسي- ج9 / ص5.

11- تهذيب الأحكام -الطوسي- ج9 / ص6، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص136.

12- تهذيب الأحكام -الطوسي- ج9 / ص5، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص134.

13- مستند الشيعة -النراقي- ج15 / ص65.

14- تهذيب الأحكام -الطوسي- ج9 / ص5، الإستبصار -الطوسي- ج4 / ص59.