حكم لحوم الخيل والبغال والحمير

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المشهور بين فقهاء الإماميَّة شهرة عظيمة هو حليَّة لحوم الخيل والبغال والحمير الأهليَّة بل ادُّعي على ذلك الإجماع كما في كتاب الخلاف للشيخ الطوسي (رحمه الله) ونسب صاحب الجواهر للسيد المرتضى والسيد ابن زهرة القول بأنَّ الحكم بحلية الخيل والحمير من متفرِّدات الإمامية(1) ونسب إلى أبي الصلاح الحلبي رحمه الله القول بحرمة البغل، وكذلك نُسب للشيخ المفيد القول بتحريم البغال والحمير والهجن من الخيل(2).

 

مستند الحكم بحليَّة لحوم الخيل والبغال والحمير:

وأمَّا المستند الذي نشأ عنه البناء على الحليَّة فهو الروايات المستفيضة الواردة عن أهل البيت (ع):

 

منها: صحيحة محمد بن مسلم وزرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنَّهما سألاه عن أكل لحوم الحُمُر الأهلية؟ فقال: نهى رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) عن أكلها يوم خيبر، وإنَّما نهى عن أكلها في ذلك الوقت، لأنَّها كانت حمولةَ الناس، وإنَّما الحرام ما حرَّم الله في القرآن"(3).

 

ومنها: صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن أكل لحوم الحمير، وإنَّما نهى عنها من أجل ظهورها مخافة أنْ يُفنوها، وليست الحمير بحرام .."(4).

 

ومنها: صحيحة أبي بصير -يعنى: المرادي- قال: سمعتُ أبا جعفر (عليه السلام) يقول: "إنَّ الناس أكلوا لحوم دوابِّهم يوم خيبر، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بإكفاء قدورهم، ونهاهم عنها، ولم يحرمها"(5).

 

أقول: الواضح من الروايات الثلاث أنَّ نهي النبيَّ الكريم (ص) عن أكل الحُمُر الأهليَّة والدوابِّ يوم خيبر لم يكن نهياً تحريميَّاً بل كان نهياً تدبيرياً اقتضته مصلحةُ الوقت بحسب تشخيص مَن له الأمر، واستظهار ذلك لا يُصار إليه إلا مع قيام القرينة البيِّنة على إرادته كما في المقام.

 

وبهذه القرينة البيِّنة، وهي تصريح الإمام (ع) بأنَّ النبيَّ (ص) لم يحرِّم الحُمُر الأهليَّة وسائر الدواب وهي الخيل والبغال تثبت الإباحة للحوم الحُمُر والخيل والبغال، لأنَّ نفي التحريم يُساوق الإباحة، إذ أنَّ السؤال كان عن الحكم الشرعي المجعول للحوم الحُمُر الأهليَّة والدواب، فنفيُ الإمام (ع) جعل التحريم تعبيرٌ آخر عن جعل الإباحة.

 

ومنها: صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألتُه عن لحوم الخيل والبغال (والحمير)؟ فقال: حلال، ولكنَّ الناس يعافونها"(6).

 

أقول: الرواية صريحة في إباحة لحوم الخيل والبغال والحمير، وقوله (ع): "ولكنَّ الناس يعافونها" فيه إشارة -ظاهرا- أنَّ عدم تعارف أكلها لم ينشأ عن النهي من الشارع عن تناولها وإنَّما نشأ عن عدم استساغة الناس لأكلها أو نشأ عن حاجة الناس إلى ظهورها. كما صرَّحت بذلك رواية محمد بن سنان: أنَّ الرضا (عليه السلام) كتَبَ إليه فيما كتَبَ من جواب مسائله: "كره أكل لحوم البغال والحمر الأهلية، لحاجة الناس إلى ظهورها واستعمالها، والخوف من فنائها وقلتها، لا لقذرِ خلقِها، ولا قذر غذائها"(7).

 

ومنها: محمد بن مسعود العياشي في (تفسيره) عن زرارة عن أحدهما (عليهما السلام)، قال: سألته عن أبوال الخيل والبغال والحمير؟ قال: فكرهها، قلت: أليس لحمها حلالا؟ قال: فقال: أليس قد بين الله لكم: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ وقال: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ فجعل للأكل الانعام التي قصَّ الله في الكتاب، وجعل للركوب الخيل والبغال والحمير، وليس لحومها بحرام، ولكن الناس عافوها"(8).

 

ومنها: صحيحة عِيصِ بْنِ الْقَاسِمِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) عَنْ شُرْبِ أَلْبَانِ الأُتُنِ؟ فَقَالَ: اشْرَبْهَا"(9) فإنَّ إباحة شرب ألبان الأتن ملازم شرعاً لإباحة لحومها كما هو واضحٌُ، إذ أنَّ ما يحرمُ لحمه يحرم لبنه وما يحلُّ لبنه يحلُّ لحمه.

 

رواياتٌ مقتضية بدواً للتحريم: 

وثمة رواياتٌ أخرى بذات المضمون إلا أنَّه في مقابل هذه الروايات وردت روايات يظهر منها بدواً خلاف ما أفادته هذه الروايات:

 

منها: صحيحة ابن مسكان قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن لحوم (الحمر الأهلية)؟ فقال: نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن اكلها يوم خيبر"(10).

 

ما يقتضيه الجمع العرفي بين الطائفتين:

أقول: هذه الرواية ظاهرةٌ -بدواً- في حرمة لحوم الحمُر الأهليَّة، إذ أنَّ ذلك هو مقتضى ما أفادته من نهي النبيِّ (ص) عن أكلها إلا أنَّه بعد ملاحظة الروايات التي تقدَّم بعضها يتبيَّن أنَّ نهي النبي (ص) عن أكل لحوم الحُمُر الأهلية يوم خيبر لم يكن تحريمياً.

 

ومنها: صحيحة ابن مسكان قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) -إلى أن قال:- وسألتُه عن أكل الخيل والبغال؟ فقال: نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عنها، ولا تأكلها إلا أنْ تضطر إليها"(11).

 

ومنها: صحيحة سعد بن سعد عن الرضا (عليه السلام) قال: سألتُه عن لحوم البراذين والخيل والبغال؟ فقال: لا تأكلها"(12).

 

أقول: النهي في الروايتين وإنْ كان ظاهراً في الحرمة إلا أنَّه بقرينة الروايات السابقة يتعين استظهار الكراهة من النهي، بمعنى أنَّ ظهور الروايتين في الحرمة لا يستقرُّ بعد ملاحظة الروايات الأخرى الصريحة في إباحة لحوم الحُمُر الأهليَّة والخيل والبغال وبذلك يتعيَّن حملُ النهي على الكراهة.

 

وبتعبير آخر: أنَّ مقتضى الجمع العرفي بين الطائفتين من الروايات هو حمل الروايات الناهية على الكراهة، وذلك لصراحة الطائفة الأولى في الإباحة، وأما الطائفة الثانية فإنَّ أقصى ما تقتضيه هو الظهور في الحرمة، وهذا الظهور لا يكون له استقرارٌ بنظر العرف لمنافاته صريح روايات الطائفة الأولى في الإباحة، ولهذا يتعيَّن حمل النهي في الطائفة الثانية على النهي الكراهتي استناداً إلى ما يقتضيه الجمع العرفي من حمل الظاهر على الصريح أو حمل الظاهر على الأظهر، بمعنى أنَّ روايات الطائفة الأولى -الصريحة في الإباحة- تكون قرينة على ما هو المراد الجدِّي من النهي الوارد في الطائفة الثانية.

 

ولو قيل باستقرار التعارض بين الطائفتين لكان الترجيح بجانب الطائفة الأولى لمخالفتها لفتوى العامَّة، فتُحمل الطائفة الثانية على التقية، وعليه لا يكون الحكم بكراهة تناول لحوم الخيل والبغال والحمير ثابتاً، وذلك لأنَّ النهي الوارد في روايات الطائفة الثانية لم يصدر لبيان الحكم الواقعي -بحسب الفرض- وإنَّما صدر تقية، وهذا بخلاف البناء على أنَّ التعارض غير مستقرٍٍّ لإمكان الجمع العرفي فإنَّه بناءً عليه يكون المتعيِّن هو حمل النهي في روايات الطائفة الثانية على إرادة الكراهة. إلا أنَّ الصحيح هو الحكم بكراهة تناول لحوم الخيل والبغال والحمير مطلقاً حتى بناءً على حمل الطائفة الثانية على التقية وذلك لظهور عدد من روايات الطائفة الأولى في الكراهة.

 

تفاوت الكراهة بالشدَّة والضعف:

هذا وقد قيل إنَّ تناول لحوم الخيل والبغال والحمير وإنْ كان مكروهاً إلا أنَّ الكراهة الثابتة لكلٍّ منها متفاوتة، فقد نُسب إلى المشهور أنَّ كراهة تناول لحم البغال أشدُّ من كراهة لحم الخيل والحمير وعُلِّل ذلك بأن البغل مركَّب من الفرس والحمار وهما مكروهان فتكون كراهته لذلك مضاعفة(13) إلا أنَّ هذا الوجه لا يعدو الاستحسان، نعم لا مانع من الالتزام بالأشديَّة استناداً لفتوى المشهور، ونُسب إلى القاضي أنَّ كراهة لحم الحمار أشدُّ(14) ولعلَّ منشأ ذلك هو كثرة الروايات الناهية عن تناوله.

 

 

والحمد لله ربِّ العالمين

الشيخ محمد صنقور

17 ذو القعدة 1444ه

6 يونيو 2023م 

-------------------------------

1- جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج36 / ص265، المناهل -السيد محمد علي الطبأطبائي- ص618.

2- مختلف الشيعة -العلامة الحلِّي- ج 8 / ص292، جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج36 / ص267، كشف اللثام -الفاضل الهندي- ج9 / ص253.

3- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص117.

4- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص119.

5- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص120.

6- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص122.

7-وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص120.

8- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص124.

9- وسائل الشيعة -الحر العاملي-ج25 / ص116.

10- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص119.

11- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص121.

12- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص122.

13- جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج36 / ص269، كشف اللثام -الفاضل الهندي- ج9 / ص253.

14- جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج36 / ص269.