حرمة الحيوانات الجلَّالة ومدَّة الاستبراء

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المشهور بين الفقهاء -شهرةً وُصفت بالعظيمة- حرمةُ أكل لحوم الحيوانات الجلالة ولا تحلُّ إلا بعد أنْ تُستبرأ، ولم يُنسب الخلاف في ذلك إلا إلى الشيخ الطوسي والإسكافي فذهبا كما قيل إلى الكراهة(1).

هذا وقد شكَّك صاحبُ الجواهر(2) في نسبة الخلاف إلى الشيخ الطوسي إذ أنَّه إنَّما أفتى بكراهة الحيوان الذي يكون أكثر علفه من العذرة، والجللُ الموجبُ للحرمة لا يتحقَّق -كما سيتضح- إلا مع افتراض تمحُّض غذاء الحيوان في العذرة، وعليه فما أفاده الشيخ الطوسي من كراهة الحيوان الذي يكون أكثر علفِه من العذرة لا يُصحِّح نسبة الخلاف إليه، فإنَّ الحيوان الذي يكون أكثر غذائه من العذرة ليس جلالاً، ففتواه بكراهة أكل لحم هذا الحيوان لا يكون من الفتوى بكراهة لحم الحيوان الجلال بل إنَّ فتوى الشيخ بكراهة الحيوان الذي يكون أكثر غذائه من العذرة هو ما يُفتي به المشهور، فهم يفتون بكراهة لحم الحيوان الذي يكثر من التغذي بالعذرة دون أنْ يكون ذلك غذاءه محضاً.

مُستند المشهور في البناء على حرمة لحم الحيوان الجلال:

وكيف كان فمُستند المشهور في البناء على حرمة لحم الحيوان الجلَّال هو الروايات المستفيضة الواردة عن أهل البيت (ع):

منها: صحيحة هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: "لَا تَأْكُلُوا لُحُومَ الْجَلَّالاتِ، وهِيَ الَّتِي تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ، وإِنْ أَصَابَكَ مِنْ عَرَقِهَا فَاغْسِلْه"(3).

ومنها: معتبرة السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع): "الدَّجَاجَةُ الْجَلَّالَةُ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا حَتَّى تُقَيَّدَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، والْبَطَّةُ الْجَلَّالَةُ خَمْسَةَ أَيَّامٍ، والشَّاةُ الْجَلَّالَةُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، والْبَقَرَةُ الْجَلَّالَةُ عِشْرِينَ يَوْماً، والنَّاقَةُ أَرْبَعِينَ يَوْماً"(4) ودلالتها على التحريم ظاهرة، فإنَّ الواضح من النفي أنَّه سيق لغرض الإنشاء والنهي، وأنَّه مغيَّى بالاستبراء

ومنها: صحيحة حَفْصِ بْنِ الْبَخْتَرِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: "لَا تَشْرَبْ مِنْ أَلْبَانِ الإِبِلِ الْجَلَّالَةِ وإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ مِنْ عَرَقِهَا فَاغْسِلْه"(5) ودلالتها مبتنية على الملازمة الشرعيَّة بين حرمة ألبانها وحرمة لحمها.

ومنها: صحيحة زكريا بن آدم عن أبي الحسن (عليه السلام) أنَّه سأله عن دجاج الماء؟ فقال: "إذا كان يلتقط غير العذرة فلا بأس"(6) فمقتضى مفهوم الشرط أنَّه إذا لم يلتقط غير العذرة ففيه بأس.

هذا وقد وقع البحث بعد ثبوت الحرمة للحيوان الذي صار جلالاً في مقامين:

فالمقام الأول: فيما يتحقَّق به الجلَل.

المقام الثاني: فيما يتحقَّق به الاستبراء من الجلَل.

أمَّا المقام الأول:

فالحديث حوله من جهتين:

الجهة الأولى: في ماهية الغذاء الذي يتحقَّق به عروض الجلَل

والجهة الثانية: في المدَّة المعتبرة

الغذاء الذي يتحقَّق به الجلَل:

أمَّا الجهة الأولى: فالقدر المتيقَّن من الغذاء الموجب لتحقُّق الجلل هو عذرة الإنسان دون غيرها من سائر النجاسات على أنْ يتمحَّض الغذاء فيها، وهذا المقدار هو الذي اعتمده المشهور(7) وذلك في مقابل ما نُسب إلى أبي الصلاح الحلبي من دعوى أنَّ الجلل يتحقَّق بتغذي الحيوان على مطلق الأعيان النجسة.

ومستند المشهور فيما ذهبوا إليه هو مثل مرسلة مُوسَى بْنِ أُكَيْلٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) فِي شَاةٍ شَرِبَتْ بَوْلاً ثُمَّ ذُبِحَتْ قَالَ: فَقَالَ: يُغْسَلُ مَا فِي جَوْفِهَا ثُمَّ لَا بَأْسَ بِه، وكَذَلِكَ إِذَا اعْتَلَفَتِ الْعَذِرَةَ ومَا لَمْ تَكُنْ جَلَّالَةً والْجَلَّالَةُ الَّتِي يَكُونُ ذَلِكَ غِذَاؤهَا"(8)

وتقريب الاستدلال بالرواية هي أنَّها عرَّفت الجلالة بالبهيمة التي تكون العذرةُ هي غذاءها، وظاهرُ الرواية هو أنَّها لا تكون جلالة لمجرَّد تناولها للعذرة ما لم يكن ذلك هو غذاءها، ولهذا أفادت الرواية أنَّ البهيمة لو ذبحت بعد تناولها للعذرة فإنَّه يُغسل ما في جوفها ثم لا بأس في تناول لحمها ثم استدركت الرواية فأفادت ما لم تكن جلالة، ومقتضى ذلك أنَّ الجلَل لا يتحقَّق بمجرد تناول البهيمة للعذرة ثم تصدَّت الرواية لبيان ما به يتحقق الجلل فأفادت أنَّه يتحقق في فرض كون العذرة هو غذاء البهيمة، وذلك لا يصدق لو كانت العذرة هي ضمن الغذاء وليس هو غذاءها محضاً، نعم لا يضرُّ بصدق أنَّ العذرة هي غذاءها لو تناولت اتفاقاً علفاً آخر دون أن يكون ذلك هو الغذاء الذي تعتمده وتغتذي به.

فالرواية ظاهرة في أنَّ ما يتحقَّق به الجلل هو التغذي بالعذرة دون غيرها من سائر الأعيان النجسة. نعم لم تتصدَّ الرواية لتقييد العذرة بعذرة الإنسان، فاستظهار إرادة عذرة الإنسان من عنوان العذرة مبتنٍ على دعوى انصراف عنوان العذرة إلى خصوص عذرة الإنسان، إلا أنَّ هذا الانصراف لا يتم -كما أفاد السيد الخوئي(9)- فإنَّ عنوان العذرة يصدق على كلِّ رجيعٍ نتن فلا اختصاص لهذا العنوان برجيع الإنسان، ويؤيد ذلك أنَّ بعض الروايات أطلقت عنوان العذرة على رجيع الكلب والسنور كما في صحيحة عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّه قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) عَنِ الرَّجُلِ يُصَلِّي وفِي ثَوْبِه عَذِرَةٌ مِنْ إِنْسَانٍ أَوْ سِنَّوْرٍ أَوْ كَلْبٍ أيُعِيدُ صَلَاتَه؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ لَمْ يَعْلَمْ فَلَا يُعِيدُ"(10).

إلا أنَّه ورغم عدم اختصاص لفظ العذرة بعذرة الإنسان فإنَّ المتعيَّن فيما يتحقَّق به الجلل هو التغذِّي بعذرة الانسان خاصَّة، وذلك للشكِّ في تحقق الجلل بالتغذي بغيرها نظراً لما عليه المشهور من عدم تحقُّق الجلل بغيرها، ومع الشك يكون المرجع هو إطلاقات ما دلَّ على حلية الحيوان المشكوك في عروض الجلل عليه.

المرجع في فرض إجمال المخصِّص المنفصل:

وببيان آخر: إنَّ الروايات التي دلَّت على طروء الحرمة على الحيوان المباح بصيرورته جلَّالاً أفادت أنَّ الجلل يتحقَّق بتغذِّي الحيوان المباح على العذرة، وحيث إنَّ لفظ العذرة مجملٌ من حيث السعة والضيق ومردَّدٌ بين الأقلِّ والأكثر لذلك يتعيَّن الرجوع فيما زاد على القدر المتيقن وهو الأقل إلى عمومات ما دلَّ على إباحة الحيوان، وذلك لأنَّ أدلَّة حرمة الحيوان المتغذِّي على العذرة بمثابة المخصِّص المنفصل لعموم ما دلَّ على إباحة مثل الأنعام والطيور الداجنة، والمخصِّصُ المنفصل حين يكون مجملاً فإنَّه لا يكون حجَّةً فيما زاد على القدر المتيقن، وعليه فما يخرج عن حكم الدليل العام هو مقدار ما يقتضيه القدر المتيقن من المخصِّص المنفصل ويبقى ما عداه تحت حكم الدليل العام إذ أنَّ المخصِّص المنفصل لا يسري إجماله للدليل العام، ولذلك فالحيوانُ المتغذِّي على عذرة غير الإنسان يظلُّ تحت حكم الدليل العام وهو الإباحة، ويُقتصر فيما يحكم بحرمته ودخوله في حكم المخصِّص على خصوص الحيوان المتغذِّي على عذرة الإنسان كونه القدر المتقِّين من المخصِّص المنفصل.

وكذلك يكون المرجع في فرض الشك في عروض الجلل بسبب خلط الحيوان -فيما يتغذى عليه- بين عذرة الإنسان وغيرها يكون المرجع في هذا الفرض هو عمومات ما دلَّ على إباحة الحيوان، فإنَّه بعد عدم ظهور المخصِّص المفصل في الشمول لهذا الفرض يكون المرجع هو عمومات ما دلَّ على إباحة الحيوان.

والمتحصَّل إنَّ ما به يتحقق عروض الجلل على الحيوان المباح هو تغذِّيه بعذرة الإنسان دون غيرها من سائر الأعيان النجسة على أن يكون ذلك هو غذاءه محضاً، نعم لا يضرُّ بصدق التغذي على عذرة الإنسان محضاً تناول الحيوان اتفاقاً لشيءٍ آخر بحيث لا يعدُّ ذلك هو غذاؤه عرفاً.

المدَّة المعتبرة في عروض عنوان الجلل:

وأمَّا الجهة الثانية: وهي المدَّة المعتبرة في عروض عنوان الجلل على الحيوان فلم تتصدَّ الروايات لتحديدها، ولهذا اختلفت كلماتُ الفقهاء في تحديدها، فقد أفاد بعضهم أنَّ الجلل يتحقَّق بتغذي الحيوان على العذرة يوماً وليلة، وأفاد بعضُهم أنَّه يتحقَّق بظهور النتن في لحمه وجلده، وأناط بعضهم تحقُّق الجلل للحيوان بالمدة التي يحرز معها نمو لحمه واشتداد عظمه بالعذرة، وأفاد صاحب الجواهر(11) أنَّه لا دليل على شيء من ذلك سوى بعض الاعتبارات وأن الجلل يتحقق للحيوان إذا صدق أنَّ العذرة هي غذاؤه إلا أنَّ الصحيح -كما أفاد السيد الخوئي(12)- هو أنَّ المرجع في تحديد المدة التي يتحقق معها الجلل هو العرف بمعنى أنَّ الحيوان لا يكون جلالا إلا بعد أن يصدق عليه هذا الاسم عرفاً، والاشكال بأنَّ عنوان الجلل ليس منقَّحاً عرفاَ -كما أفاد صاحب الجواهر(13)- وإن كان صحيحاً إلا أن ثمة مقداراً لا يشكُّ معه العرف في طروء عنوان الجلل على الحيوان، فيكون المرجع فيما دون ذلك المقدار هو إطلاقات الأدلة أو الاستصحاب.

إجمال المخصِّص مفهوماً ومصداقاً:

وبيان ذلك: إنَّ الحيوان إذا تغذَّى على العذرة مدَّة من الزمن فإنْ أُحرز معها أنَّه صار جلالاً عرفاً فحينذاك يُصبح لحمُه محرماً وإنْ بقي الشكُّ في صيرورته بذلك جلالاً أو أولا وذلك للشكِّ في أنَّ هذه المدَّة هل هي محقِّقة لعروض الجلل أو لا، فالشكُّ في مثل هذا الفرض يكون من موارد الشبهة المفهومية، والمرجعُ حينئذٍ هو إطلاقات ما دلَّ على إباحة مثل الأنعام والطيور الداجنة، وذلك لأنَّ المخصِّص المنفصل إذا كان مجملاً فإنَّ إجماله لا يسري للعام فيُقتصر فيما خرج عن حكم العام بالمخصِّص المنفصل على القدر المتيقن ويبقى المشكوك في خروجه بالمخصِّص تحت حكم العام.

هذا لو كان منشأ الشك هو إجمال المخصص مفهوماً أما لو لم يكن المخصِّص مجملاً كما لو أحرز أنَّ الجلل يتحقَّق عرفاً بمضي ثلاثة أيام على تغذي الحيوان بالعذرة إلا أنَّه وقع الشك في أنَّه هل مضى على تغذي الحيوان بالعذرة ثلاثة أيام أو لم يمضِ سوى يومين فمنشأ الشك في هذا الفرض هو اشتباه الأمور الخارجيَّة والشبهة في هذا الفرض مصداقيَّة ولهذا لا يصح في هذا الفرض التمسك بالعام للبناء على حليَّة هذا الحيوان، إذ لا يصح التمسك بالعام في الشبهات المصداقيَّة كما نُقح في محلِّه، فالمتعيَّن في مثل هذا الفرض هو الرجوع إلى استصحاب عدم حدوث الجلل للحيوان المشكوك في عروض الجلل عليه، وبذلك يتمُّ البناء على حليَّة لحمه.

مَّا به يتحقَّق الاستبراء من الجلل:

وأما المقام الثاني: وهو البحث عمَّا به يتحقَّق الاستبراء من الجلل -وذلك بمنع الجلال من التغذي على العذرة وإطعامه بغيرها من الأغذية- فقد تصدَّت العديد من الروايات لبيان المدَّة التي يتحقَّق بها الاستبراء:

منها: معتبرة السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع): "الدَّجَاجَةُ الْجَلَّالَةُ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا حَتَّى تُقَيَّدَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، والْبَطَّةُ الْجَلَّالَةُ خَمْسَةَ أَيَّامٍ، والشَّاةُ الْجَلَّالَةُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، والْبَقَرَةُ الْجَلَّالَةُ عِشْرِينَ يَوْماً، والنَّاقَةُ أَرْبَعِينَ يَوْماً"(14).

ومنها: رواية مِسْمَعٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه ع قَالَ قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع): النَّاقَةُ الْجَلَّالَةُ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا ولَا يُشْرَبُ لَبَنُهَا حَتَّى تُغَذَّى أَرْبَعِينَ يَوْماً والْبَقَرَةُ الْجَلَّالَةُ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا ولَا يُشْرَبُ لَبَنُهَا حَتَّى تُغَذَّى ثَلَاثِينَ يَوْماً والشَّاةُ الْجَلَّالَةُ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا ولَا يُشْرَبُ لَبَنُهَا حَتَّى تُغَذَّى عَشَرَةَ أَيَّامٍ والْبَطَّةُ الْجَلَّالَةُ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا حَتَّى تُرْبَطَ خَمْسَةَ أَيَّامٍ والدَّجَاجَةُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ"(15).

ومنها: رواية بَسَّامٍ الصَّيْرَفِيِّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع): فِي الإِبِلِ الْجَلَّالَةِ؟ قَالَ: "لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا، ولَا تُرْكَبُ أَرْبَعِينَ يَوْماً"(16).

ومنها: رواية القاسم بن محمد الجوهري "أنَّ البقرة تربط عشرين يوما والشاة تربط عشرة أيام والبطة ثلاثة أيام"(17).

ومنها: مرفوعة يعقوب بن يزيد رفعه قال: قال أبو عبد الله ( عليه السلام ): "الإبل الجلالة إذا أردت نحرها، تحبس البعير أربعين يوما والبقرة ثلاثين يوما والشاة عشرة أيام"(18).

ومنها: رواية يونس عن الرضا (عليه السلام) في السمك الجلال أنَّه سأله عنه فقال: ينتظر به يوما وليلة -قال السياري: إنَّ هذا لا يكون إلا بالبصرة- وقال: في الدجاجة تحبس ثلاثة أيام والبطة سبعة أيام والشاة أربعة عشر يوما والبقرة ثلاثين يوما والإبل أربعين يوما ثم تذبح"(19).

والملاحظ أنَّ الروايات اتفقت جميعاً في الناقة الجلالة فأفادت أنَّها تُستبرأ بالحبس أربعين يوماً.

وأمَّا البقرة فقد اختلفت الروايات في مدَّة استبرائها فأفادت معتبرة السكوني ورواية الجوهري أنَّ مدَّة استبرائها عشرون يوماً، وأفادت الروايات الأخرى أنَّ مدة استبرائها ثلاثون يوماً إلا أنَّه ونظراً لضعف أسنادها لذلك يكون المتعين هو ما أفادته معتبرة السكوني من أنَّ مدَّة استبراء البقرة عشرون يوماً، وإلى ذلك ذهب المشهور -بل ادُّعي الإجماع على ذلك- خلافاً لما نُسب إلى الشيخ الصدوق والإسكافي من أنَّ مدة استبراء البقرة ثلاثون يوما(20).

وأمَّا الشاة الجلالة فالمشهور(21) هو أنَّ مدَّة استبرائها يكون بحبسها عشرة أيام وهو الذي نصَّت عليه معتبرة السكوني وأكثر الروايات، نعم ورد في رواية يونس عن الرضا (ع) أنَّ مدَّة استبراء الشاة أربعة عشر يوماً إلا أنَّها غير قابلة للاعتماد نظراً لضعف سندها.

وأمَّا البطة الجلالة فتُستبرأ خمسة أيام بحسب ما ورد في معتبرة السكوني ورواية مسمع وهو الذي اعتمده المشهور(22) وفي مقابل ذلك اختار الشيخ في الخلاف أنَّها تُستبرأ بسبعة أيام ولم يرد ذلك إلا في رواية يونس إلا أنَّه لضعف سندها لا تكون قابلة للاعتماد وكذلك فإن ما ورد في رواية الجوهري من أنَّها تستبرأ بثلاثة أيام لا تكون قابلة للاعتماد لضعف سندها.

وأمَّا الدجاجة الجلالة فتُستبرأ بثلاثة أيام كما في معتبرة السكوني ورواية مسمع ورواية يونس وإلى ذلك استند المشهور ظاهراً وأما نُسب للحلبي من أنَّها تستبرأ خمسة أيام أو سبعة بحسب ما نُسب للشيخ في المبسوط (23) فلا يُعرف له وجه لاتِّفاق الروايات -المبينة لمدة استبراء الدجاجة- على الثلاثة أيام.

المرجع في تحديد مدة الاستبراء بناءً على عدم حجيَّة الأخبار:

هذا بناءً على حجيَّة الأخبار أو بعضها في تحديد مدَّة الاستبراء، وأمَّا بناءً على عدم حجيتها لضعف أسنادها جميعا، وكذلك في الموارد التي لم تتصدَّ الروايات لتحديد مدَّة الاستبراء ففي هذا الفرض تارةً يُحرَز -بمضيِّ المدَّة- زوالُ اسم الجلال عن الحيوان فحينئذٍ يتحقَّق الاستبراء الموجب لإباحته، وتارةً يقع الشك في زوال اسم الجلال عنه، فإنْ كان الشك بنحو الشبهة المصداقيَّة بأن كان منشأ الشك هو اشتباه الأمور الخارجية مع فرض إحراز المدَّة التي يزول معها اسم الجلال عن الحيوان فالمرجع في هذا الفرض هو استصحاب بقاء الجلل، كما لو أحرزنا أنَّ اسم الجلل يزول بمضي الثلاثة أيام عن الدجاجة، ووقع الشكُّ أنَّه هل مضت ثلاثة أيام على حبسها أو لم يمضِ سوى يومين فالمرجعُ في هذا الفرض هو استصحاب بقاء الجلل، ولا يصحُّ في هذا الفرض الرجوع لإطلاقات ما دلَّ على الإباحة، إذ لا يصحُّ التمسك بالعام في الشبهات المصداقية، لذلك فالمرجع هو استصحاب بقاء الجلل لهذا الحيوان الذي كنَّا على يقينٍ بصيرورته جلالاً.

وإنْ كان منشأُ الشك هو الشبهة المفهومية فالشك في مثل هذا الفرض يعني الشك في صدق عنوان الجلال على هذا الحيوان، فلو مضت على حبس الشاة مثلاً عشرة أيام يقيناً وشكننا أنَّ الجلل هل زال عنها أولا؟ للشك في أنَّ العشرة كافية في زوال اسم الجلل أو لا؟ فمثل هذا الشك منشأه الشك في مفهوم الجلال وأنَّه هل يصدق على كليِّ الشاة المحبوسة عشرة أيام أو لا؟ فهنا لا يصحُّ الرجوع للاستصحاب لعدم جريانه في الشبهات المفهوميَّة بل يتعيَّن الرجوع لإطلاق ما دلَّ على إباحة الشاة، إذ أنَّ إجمال المخصص المنفصل لا يسري للعام كما نُقِّح في محلِّه.

وبهذا تكون النتيجة هي البناء على حليَّة كلِّ حيوان مضت على حبسه مدَّةٌ أوجبت الشك في صدق عنوان الجلال عليه بسبب الشك في مفهوم الجلال، نعم يكون المرجع هو الاستصحاب لو كان منشأ الشك هو اشتباه الأمور الخارجية مع إحراز حدود مفهوم الجلال.

وخلاصة القول: هو أنَّه بناءً على عدم حجيَّة المدَّة المنصوصة في الأخبار فإنَّ حرمة الحيوان الجلال بعد حبسه لا تزول إلا مع زوال اسم الجلال عنه عرفاً أو مع مضي مدَّة توجب الشك في صدق اسم الجلال عليه. فمع زوال اسم الجلال عنه ينتفي عنه الحكم بالحرمة لأنَّ الحرمة تدور مدار موضوعها وجوداً وعدماً، وكذلك تزولُ عنه الحرمة مع مضيِّ مدَّة تُوجب صدق اسم الجلال عليه، إذ لا تُحرز في هذا الفرض موضوعيَّته للحرمة الثابتة بالمخصِّص المنفصل أي لا يُحرز من أول الأمر أنَّه موضوعٌ للمخصِّص المنفصل لافتراض الإجمال في موضوعه المقتضي للاقتصار على القدر المتيقن، والقدر المتيقن لا يشمل الحيوان الذي مضى على حبسه هذه المدَّة بحسب الفرض، ولهذا يكون المرجع هو إطلاقات ما دلَّ على إباحة هذا الحيوان.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

26 / ذو القعدة / 1444ه

15 / يونيو / 2023م

-------------------------------

1- جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج36 / ص272.

2- جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج36 / ص272.

3- الكافي -الكليني- ج6 / ص250، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص164.

4- الكافي -الكليني- ج6 / ص251، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص166.

5- الكافي -الكليني- ج6 / ص251، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص164.

6- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج34 / ص165.

7- جواهر الكلام -جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج36 / ص271.

8- الكافي -الكليني- ج6 / ص251، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص160.

9- التنقيح في شرح العروة الوثقى -السيد الخوئي- ج4 / ص230.

10- الكافي -الكليني- ج3 / ص406، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج3 / ص475.

11- جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج36 / ص274.

12- التنقيح في شرح العروة الوثقى -السيد الخوئي- ج4 / ص233.

13- جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج36 / ص274.

14- الكافي -الكليني- ج6 / ص251، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص166.

15- الكافي -الكليني- ج6 / ص253، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص167. 

16- الكافي -الكليني- ج6 / ص253، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص167. 

17- من لا يحضره الفقيه -الصدوق- ج3 / ص339، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص167.

18- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص168.

19- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص167.

20- مستند الشيعة -النراقي- ج15/ ص115، جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج36 / ص277.

21- مستند الشيعة -النراقي- ج15/ ص116، جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج36 / ص279.

22- مستند الشيعة -النراقي- ج15 / ص116، جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج36 / ص279.

23- مستند الشيعة -النراقي- ج15 / ص117، جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج36 / ص280.