حرمة لحم السباع من البهائم والطيور

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

هل يحرم أكل لحم مطلق السباع من البهائم والطيور أو أنَّ في المسألة تفصيلاً؟

الجواب:

الظاهر أنَّه لا خلاف بين فقهاء الإماميَّة في حرمة مطلق السباع من البهائم بل أفاد صاحب الجواهر أنَّ الإجماع منعقد بقسميه على الحرمة(1) والسبع من البهائم هو كلُّ حيوانٍ له ناب أو ظفر يفترس به سواءً كان هذا الناب قويَّاً كما في الأسد والنمر والفهد أو كان ضعيفاً كما في الثعلب وابن آوى.

وكذلك لم يقع خلافٌ ظاهراً في حرمة مطلق سباع الطير، فقد أفاد صاحب الجواهر أنَّه لم يجد خلافاً، وأفاد أنَّ الإجماع منعقِدٌ بقسميه على حرمة مطلق سباع الطير، (2) والمقصود من سباع الطير هو ما كان له مخلبٌ سواءً كان قوياً يفترسُ به كما في البازي والصقر والعقاب والشاهين والباشق أو كان ضعيفاً كما في البغاث والرخمة.

المستند لحرمة مطلق السباع من البهائم والطيور:

وتدلُّ على حرمة لحم مطلق السباع من البهائم والطيور رواياتٌ مستفيضة عن أهل البيت (ع):

منها: صحيحة الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّه (ص) قَالَ: "كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ ومِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ حَرَامٌ، وقَالَ (ع) لَا تَأْكُلْ مِنَ السِّبَاعِ شَيْئاً"(3).

ومنها: صحيحة دَاوُدَ بْنِ فَرْقَدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ ومِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ حَرَامٌ"(4).

ومنها: موثقة سَمَاعَةَ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) عَنِ الْمَأْكُولِ مِنَ الطَّيْرِ والْوَحْشِ؟ فَقَالَ: حَرَّمَ رَسُولُ اللَّه (ص) كُلَّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ وكُلَّ ذِي نَابٍ مِنَ الْوَحْشِ، فَقُلْتُ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ مِنَ السَّبُعِ فَقَالَ لِي: يَا سَمَاعَةُ السَّبُعُ كُلُّه حَرَامٌ وإِنْ كَانَ سَبُعاً لَا نَابَ لَه، وإِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّه (ص) هَذَا تَفْصِيلاً .."(5).

أقول: لعلَّ مراده من السبع الذي لا ناب له هو الطير، فالسبع كلُّه حرام سواء كان من البهائم ذوات الأنياب أو كان من الطيور التي لا ناب لها وإنَّما تفترس بمخالبها. 

ما يتوهَّم دلالته على عدم الحرمة:

وثمة رواياتٌ قد يُتوهم دلالتها على عدم الحرمة:

منها: موثقة سماعة قال: سألته عن لحوم السباع وجلودها فقال: أمَّا لحوم السباع، والسباع من الطير والدواب فإنَّا نكرهه، وأمَّا الجلود فاركبوا عليها، ولا تلبسوا شيئاً منها تصلون فيه"(6)

فقد يُقال إنَّ هذه الرواية تدلُّ على عدم حرمة لحوم السباع، فإنَّ قوله (ع): "فإنَّا نكرهه" ظاهر في التنزُّه وليس التحريم.

والجواب: إنَّ الكراهة تُستعمل كثيراً في الروايات بمعنى التحريم وليس بمعنى الكراهة المصطلحة، وعليه فلا ظهور للرواية في التنزُّه وعدم التحريم، فهي إنْ لم تكن ظاهرة في التحريم فإنَّها تكون مجملة، ولو تمَّ التسليم جدلاً أنَّها ظاهرة -بدواً- في التنزُّه، فإنَّ الروايات الأخرى الصريحة في الحرمة -كصحيحتي الحلبي وداود بن فرقد- تمنعُ من استقرار هذا الظهور، فيتعيَّن حمل قوله: "فانَّا نكرهُه" على ما يقتضيه صريحُ قوله (ع) في مثل صحيحة الحلبي: "كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ ومِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ حَرَامٌ" فإنَّ الظاهر يُحمل على الصريح كما هو مقتضى الصناعة الأصولية ومقتضى الفهم العقلائي في الجمع بين النصوص، على أنَّ ذيل الموثقة يصلحُ قرينةً على إرادة التحريم من الكراهة، فإنَّ قوله(ع): "ولا تلبسوا شيئاً منها تصلون فيه" ظاهر أو مشعِرٌ قويَّاً أنَّ منشأ النهي عن لبس جلود السباع أثناء الصلاة هو أنَّها من غير مأكول اللحم، وليس لأنَّها نجسة لافتراض أنَّها مذكاة وليست ميتة كما هو مقتضى السؤال عن أكل لحمها فيكون النهي عن الصلاة في جلودها قرينة على أنَّها من غير مأكول اللحم ولا أقلَّ من صلاحية ذلك للقرينيَّة على عدم إرادة التنزُّه من قوله (ع) فإنَّا نكرهه، وعليه تكون الموثقة مجملة، وهو ما ينفي صلاحيتها لمعارضة الروايات الصريحة في الحرمة.

ومنها: صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "لا يصلح أكلُ شيءٍ من السباع، إنِّي لأكرهُه وأقذره"(7).

وهذه الرواية كالتي سبقتها ليست ظاهرة في الكراهة المصطلحة، ولو تمَّ البناء على ظهورها بدواً في الكراهة المصطلحة فإنَّ هذا الظهور ينتفي ويتعيَّن رفع اليد عنه بعد ملاحظة الروايات الصريحة في الحرمة كصحيحة الحلبي التي اشتملت على قوله: "السَّبُعُ كُلُّه حَرَامٌ وإِنْ كَانَ سَبُعاً لَا نَابَ لَه" وغيرها.

الروايات التي نفت الحرمة عن غير ما نصَّ عليه القرآن:

بقي الكلام حول طائفةٍ من الروايات نفت الحرمة عن غير ما نصَّ القرآن على تحريمِه، فمن ذلك صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "ما حرم الله في القرآن من دابَّة الا الخنزير، ولكنَّه النكرة"(8).

ومنه: صحيحة محمد بن مسلم قال: سألتُ أبا عبد الله عليه السلام عن الجرِّي والمارماهي والزمير وماله قشر من السمك حرام هو؟ فقال لي: يا محمد اقرأ هذه الآية التي في الانعام: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ﴾ قال: فقرأتُها حتى فرغت منها فقال: إنَّما الحرامُ ما حرَّم اللهُ ورسولُه في كتابه ولكنَّهم قد كانوا يعافون أشياءَ فنحنُ نعافُها"(9).

ومنه: صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام أنَّه سئل عن سباع الطير والوحش حتى ذكر له القنافذ والوطواط والحمير والبغال والخيل؟ فقال: ليس الحرام إلا ما حرَّم الله في كتابه، وقد نهى رسولُ الله صلى الله عليه وآله يوم خيبر عن أكل لحوم الحمير، وإنَّما نهاهم من أجل ظهورهم أنْ يُفنوه، وليست الحُمُر بحرام ثم قال: اقرأ هذه الآية: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾"(10).

مثلُ هذه الروايات لو استُظهر منها عدم تحريم شيءٍ -غير ما نصَّ القرآنُ المجيد على تحريمه- منافيةٌ لما تواترت به الأخبار من تحريم العديد من الأشياء التي لم ينص القرآن المجيد على تحريمِها، فهي بإطلاقها منافيةٌ للسنَّة القطعيَّة في الجملة، ولذلك تكون ساقطةً عن الاعتبار وفاقدةً للحجيَّة كما أفاد صاحب الجواهر رحمه الله تعالى(11) وكذلك هي منافية للمتسالم عليه بين المسلمين قاطبة من أنَّ ثمة مطعوماتٍ وغيرها قد تمَّ تحريمُها من قبل الرسول الكريم (ص) وهي غيرُ منصوصٍ على تحريمها في كتابِ الله تعالى. ولهذا لا يحصل الوثوق بصدور هذه الروايات أو لا يحصل الوثوق بأنَّها صادرة لبيان الحكم الواقعي. فالمتعيَّن هو طرحُها وردُّ علمها إلى أهلِها.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

13 ربيع الأول 1445ه

29 سبتمبر 2023م

-------------------------------

1- جواهر الكلام -الشخ حسن النجفي- ج36 / ص295.

2- جواهر الكلام -الشخ حسن النجفي- ج36، 298، مستند الشيعة -المحقق النراقي- ج15 / ص73.

3- الكافي -الكليني- ج6 / ص245، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج 24 / ص114

4- الكافي -الكليني- ج6 / ص245، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج 24 / ص113

5- الكافي -الكليني- ج6 / ص247، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج 24 / ص114

6- تهذيب الأحكام -الطوسي- ج9 / ص79، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج 24 / ص115.

7- تهذيب الأحكام -الطوسي- ج9 / ص43، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج 24 / ص115.

8- تهذيب الأحكام -الطوسي- ج9 / ص6، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج 24 / ص115.

9- تهذيب الأحكام -الطوسي- ج9 / ص43، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج 24 / ص125.

10- تهذيب الأحكام -الطوسي- ج9 / ص43، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج 24 / ص123.

11- جواهر الكلام -الشخ حسن النجفي- ج36 / ص296.