الضابط فيما يُباح من الطيور وما يحرم

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

ما هو الضابط فيما يُباح من الطيور وما يحرم؟

الجواب:

يحرم من الطيور المسخ وما كان له مخلب يفترسُ به وهو المعبَّر عنه بسباع الطيور، وفيما عدا ذلك من الطيور فالضابط فيما يحرم منها وما لا يحرم أمران:

الأول: ما كان صفيفُه أكثر من دفيفِه فهو محرَّم، وما كان دفيفُه أكثرَ من صفيفِه فهو مباح. والمراد من الصفيف هو بسطُ الجناحين حال الطيران، والمراد من الدفيف هو تحريك الجناحين أثناء الطيران كأنَّه يضرب بهما دفَّتيه أي جنبيه.

الثاني: ما كانت له قانصة أو حوصلة أو صيصة فهو مباح، وما لم يكن له قانصة فهو محرَّم. والقانصة في الطير -كما قيل- هي كالمصارين في غيره وقيل هي الحوصلة نفسها، والحوصلة هي مجمع الحبَّ وغيره من المأكول وتكون قريبة من حلقِ الطائر وهي بمنزلة المعدة، والصيصة شوكةٌ في رِجْل الطير عند عقبه في آخر الساق، وهي بمنزلة إبهام اليد عند الإنسان.

حرمة ما كان صفيفُه أكثرياً وحلية ما كان دفيفُه أكثريَّاً:

أمَّا الضابط الأول: فيدلُّ عليه مضافاً إلى دعوى الإجماع(1) عدد من الروايات الواردة عن أهل البيت (ع):

منها: صحيحة زُرَارَةَ أَنَّه قَالَ: سألتُ أَبِا جَعْفَرٍ (ع) فَقُلْتُ أَصْلَحَكَ اللَّه مَا يُؤْكَلُ مِنَ الطَّيْرِ؟ فَقَالَ: كُلْ مَا دَفَّ ولَا تَأْكُلْ مَا صَفَّ .."(2).

ومنها: موثقة سَمَاعَةَ بْنِ مِهْرَانَ عن أَبَي عَبْدِ اللَّه (ع): ".. وكُلُّ مَا صَفَّ وهُوَ ذُو مِخْلَبٍ فَهُوَ حَرَامٌ والصَّفِيفُ كَمَا يَطِيرُ الْبَازِي والصَّقْرُ والْحِدَأَةُ ومَا أَشْبَه ذَلِكَ، وكُلُّ مَا دَفَّ فَهُوَ حَلَالٌ .."(3).

ومنها: رواية عَبْدِ اللَّه بْنِ أَبِي يَعْفُورٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه (ع): إِنِّي أَكُونُ فِي الآجَامِ فَيَخْتَلِفُ عَلَيَّ الطَّيْرُ فَمَا آكُلُ مِنْه؟ فَقَالَ: كُلْ مَا دَفَّ، ولَا تَأْكُلْ مَا صَفَّ"(4).

وهذه الروايات وإنْ أفادت أنَّ ما صفَّ من الطير فهو حرام إلا أنَّ المقصود من ذلك هو أنَّ ما كان صفيفُه أكثرَ من دفيفه، إذ ما من طيرٍ إلا وهو يدفُّ كما هو المشاهد بالوجدان، ويؤكِّد ذلك التمثيل في موثقة سماعة للطيور ذات الصفيف- بالصقر والبازي والحدأة- فهذه وإنْ كان يغلب على طيرانها الصفيف لكنَّها تدفُّ أيضاً، ولهذا فالمتعيَّن من ملاحظة ما ذكرناه أنَّ المقصود من الروايات هو أنَّ ما يغلبُ على طيرانه الصفيف فهو حرام.

وكذلك فإنَّ المقصود من قولهم: وكلُّ ما دفَّ فهو حلال هو ما كان يغلبُ على طيرانه الدفيف، إذ ما من طيرِ إلا وله صفيف، فالضابط هو الغلبة، فما يغلبُ صفيفُه على دفيفه فهو حرام، وما يغلبُ دفيفُه على صفيفِه فهو مباح، ويُؤيِّد هذا الفهم للروايات ما ورد في مرسلة الصدوق قال: وفي حديث آخر: إنْ كان الطير يصفُّ ويدفُّ، فكان دفيفُه أكثرَ من صفيفِه أُكل، وإنْ كان صفيفُه أكثرَ من دفيفِه فلا يُؤكل .."(5).

حكم ما تساوى صفيف الطير ودفيفه:

ثم إنَّ الواضح من الروايات أنَّها لم تتصدَّ لبيان حكم ما كان صفيفه مساوياً لدفيفه، إذ المقصود منها -كما اتَّضح- ليس هو ما كان له صفيفٌ في الجملة، وما كان له دفيفٌ في الجملة، فما من طيرٍ إلا وهو كذلك واجدٌ لهذين الوصفين، فلا يصلح ذلك ضابطاً وعلامة، ولهذا كان المستظهَر من الروايات هو إرادة الغلبة، فتكون ساكتة عن بيان حكم ما كان صفيفُه مساوياً لدفيفِه، وعليه يكون المرجع- لمثل هذا الطير إن لم يكن له مخلب ولم يكن واجداً للعلامة الأخرى ولم يرد فيه نصٌّ خاص- هو أصالة الإباحة، وكذلك هو الشأن في المشتبه من جهة هذه العلامة.

حليَّة ما له قانصة أو حوصلة أو صيصة:

وأمَّا الضابط الثاني: فيدلُّ عليه مضافاً إلى دعوى الإجماع(6) روايات مستفيضة عن أهل البيت (ع):

منها: صحيحة عَبْدِ اللَّه بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ قُلْتُ لَه: الطَّيْرُ مَا يُؤْكَلُ مِنْه؟ فَقَالَ: لَا يُؤْكَلُ مِنْه مَا لَمْ تَكُنْ لَه قَانِصَةٌ"(7) 

ومنها: صحيحة زُرَارَةَ عن أبي جعفر (ع) ".. مَا كَانَتْ لَه قَانِصَةٌ فَكُلْ، ومَا لَمْ تَكُنْ لَه قَانِصَةٌ فَلَا تَأْكُلْ"(8)

ومنها: معتبرة مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: "كُلْ مِنَ الطَّيْرِ مَا كَانَتْ لَه قَانِصَةٌ ولَا مِخْلَبَ لَه قَالَ: وسَأَلْتُه عَنْ طَيْرِ الْمَاءِ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ"(9).

ومنها: موثقة سَمَاعَةَ بْنِ مِهْرَانَ: ".. فَكُلِ الآنَ مِنْ طَيْرِ الْبَرِّ مَا كَانَتْ لَه حَوْصَلَةٌ، ومِنْ طَيْرِ الْمَاءِ مَا كَانَ لَه قَانِصَةٌ كَقَانِصَةِ الْحَمَامِ لَا مَعِدَةٌ كَمَعِدَةِ الإِنْسَانِ .. والْحَوْصَلَةُ والْقَانِصَةُ يُمْتَحَنُ بِهَا مِنَ الطَّيْرِ مَا لَا يُعْرَفُ طَيَرَانُه وكُلُّ طَيْرٍ مَجْهُولٍ"(10).

ومنها: رواية عبد الله ابْنِ بُكَيْرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: كُلْ مِنَ الطَّيْرِ مَا كَانَتْ لَه قَانِصَةٌ أَوْ صِيصِيَةٌ أَوْ حَوْصَلَةٌ"(11).

فمفاد هذه الروايات أنَّ الطير الذي له قانصة أو حوصلة أو صيصة يكون مباحاً، فيكفي في الحكم بإباحته اشتماله على أحد هذه العلامات الثلاث إلا أن يكون قد ورد في حرمته نصٌّ خاص، وأما إذا كان فاقداً لها جميعاً فلم تكن له قانصة ولا حوصلة ولا صيصة فهو من الطير المحرَّم.

إذا اجتمعت بعض علامات المباح وبعض علامات المحرَّم:

هذا فيما لو لم تجتمع في الطير الواحد بعضُ علامات المباح وبعضُ علامات المحرَّم، وأما لو اجتمعت فيه احدى علامات المباح -مثلاً- وإحدى علامات المحرَّم كما لو كانت له قانصة أو حوصلة وكان له في ذات الوقت مِخلب أو كان صفيفُه أكثرَ من دفيفِه فالظاهرُ أنَّه محكوم بالحرمة، وذلك لإطلاق ما دلَّ على حرمة ما له مخلب وحرمة ما كان صفيفه أكثرياً، وما كان مسخاً، فمقتضى الإطلاق هو حرمة ما له مِخلب -مثلاً- سواءً كانت له قانصة أو حوصلة أو صيصة أو لم تكن. وهكذا هو الشأن في المسخ وما كان صفيفه أكثرياً.

وأمَّا أدلَّة علامات المباح وهي القانصة والحوصلة والصيصة فالظاهر أنَّه لا إطلاق لها، فهي بصدد بيان علامة الفاقد لمطلق علامات الحرمة والمجهول من الطيور كما تشهدُ لذلك موثقة سماعة والتي اشتملت على قوله (ع): "والْحَوْصَلَةُ والْقَانِصَةُ يُمْتَحَنُ بِهَا مِنَ الطَّيْرِ مَا لَا يُعْرَفُ طَيَرَانُه وكُلُّ طَيْرٍ مَجْهُولٍ" فالمسخ من الطيور وكذلك ما له مِخلب وما كان صفيقه أكثرياً ليس مجهولاً، فالمجهول هو الفاقدُ لعلامات المحرَّم من الطيور، فهذا الذي يتعرَّف على إباحته أو حرمته من طريق اشتماله على القانصة أو الحوصلة وعدم اشتماله على أيِّ منهما.

بقي الكلام حول أمور:

الأول: إنَّ اعتبار الصيصة من علامات الطير المباح لم يرد إلا في رواية عبد الله بن بكير ومرسلة الصدوق قال: وفي حديث آخر: إن كان الطير يصف ويدف فكان دفيفه أكثر من صفيفه اكل، وإن كان صفيفه أكثر من دفيفه فلم يؤكل، ويؤكل من طير الماء ما كانت له قانصة أو صيصية ولا يؤكل ما ليست له قانصة أو صيصية"(12) ورواية أخرى للصدوق ضعيفة السند، فالمعتمد في اعتبار الصيصة من علامات الطير المباح هو رواية ابن بكير بناءً على تماميَّة سندها إذ لا إشكال فيه إلا من جهة سهل بن زياد ومع عدم البناء على وثاقته يُجبر ضعف السند بعمل المشهور.

الثاني: قد يُقال إنَّ مقتضى إطلاق مثل صحيحة زرارة "ومَا لَمْ تَكُنْ لَه قَانِصَةٌ فَلَا تَأْكُلْ" هو عدم جواز أكل ما ليس له قانصة سواءً كانت له حوصلة أو لم تكن وسواء كانت له صيصة أولم تكن. وجوابه أنَّ العلاقة بين مثل صحيحة زرارة وبين ما دلَّ على جواز أكل ما له حوصلة وما له صيصة هو العموم المطلق، ولهذا تُقيَّد صحيحة زرارة بهذه الروايات، فتكون النتيجة هي أنَّ ما ليس له قانصة فهو محرم إلا أن تكون له حوصلة أو تكون له صيصة، ولهذا يكفي للحكم بحلية الطير وجدانه لإحدى العلامات الثلاث.

الثالث: لو اتَّفق لطيرٍ أنَّه مسخ أو كان له مِخلب ولكنَّ دفيفَه أكثرُ من صفيفه، فمقتضى إطلاق أدلَّة حرمة المسوخ هو حرمته وكذلك هو مقتضى إطلاق أدلَّة الحرمة لذي المخلب، وأما مقتضى إطلاق أدلة حليَّة ما كان دفيفه أكثرياً فهو إباحة هذا الطير فيقع التعارض بنحو العموم من وجه بين أدلَّة حرمة المسوخ وماله مخلب وبين أدلَّة الحليَّة للطير الذي يكون دفيفُه أكثرياً، والمرجع في مثل هذا الفرض هو مرجِّحات باب التعارض المقتضية في المقام ترجيح أدلَّة حرمة المسخ وماله مخلب للشهرة -بناء على كونها من المرجِّحات- بل الإجماع(13) كما قيل منعقِد على أنَّ تحريم المسخ وما له مخلب ثابتٌ مطلقاً، وبذلك يتقيَّد إطلاق ما كان دفيفه أكثريًاً، فكلُّ طيرٍ كان دفيفه أكثرياً فهو مباح إلا أن يكون مسخاً أو ذا مخلب.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

15 / ربيع الأول / 1445ه

1 / أكتوبر / 2023م

-------------------------

1- جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج36 / ص304

2- الكافي -الكليني- ج6 / ص247، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص152.

3- الكافي -الكليني- ج6 / ص247، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص152.

4- الكافي -الكليني- ج6 / ص248، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص153.

5- من لا يحضره الفقيه -الصدوق- ج3 / ص322، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص153.

6- جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج 36 / ص305

7- الكافي -الكليني- ج6 / ص247، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص150.

8- الكافي -الكليني- ج6 / ص248، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص151.

9- الكافي -الكليني- ج6 / ص247، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص151.

10- الكافي -الكليني- ج6 / ص247، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص150.

11- الكافي -الكليني- ج6 / ص248، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص151.

12- من لا يحضره الفقيه -الصدوق- ج3 / ص322.

13- مستند الشيعة -المحقق النراقي- 15 / ص81.