يوم القدس العالمي

 

الحمدُ للهِ أحمدُه وأَسْتَعِينُهُ عَلَى مَدَاحِرِ الشَّيْطَانِ ومَزَاجِرِهِ، والِاعْتِصَامِ مِنْ حَبَائِلِهِ ومَخَاتِلِهِ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ ونَجِيبُهُ وصَفْوَتُهُ، لَا يُؤَازَى فَضْلُهُ ولَا يُجْبَرُ فَقْدُهُ، أَضَاءَتْ بِهِ الْبِلَادُ بَعْدَ الضَّلَالَةِ الْمُظْلِمَةِ، والْجَهَالَةِ الْغَالِبَةِ، والْجَفْوَةِ الْجَافِيَةِ، والنَّاسُ يَسْتَحِلُّونَ الْحَرِيمَ، ويَسْتَذِلُّونَ الْحَكِيمَ، يَحْيَوْنَ عَلَى فَتْرَةٍ، ويَمُوتُونَ عَلَى كَفْرَةٍ، فَاتَّقُوا -عباد الله- سَكَرَاتِ النِّعْمَةِ، واحْذَرُوا بَوَائِقَ النِّقْمَةِ، وتَثَبَّتُوا فِي قَتَامِ الْعِشْوَةِ، واعْوِجَاجِ الْفِتْنَةِ، عِنْدَ طُلُوعِ جَنِينِهَا، وظُهُورِ كَمِينِهَا، وانْتِصَابِ قُطْبِهَا، ومَدَارِ رَحَاهَا.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ / وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا / وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ / فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا / وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا / كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ ورَسُولِكَ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وإِمَامِ الْمُتَّقِينَ ورَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، اللَّهُمَّ وصَلِّ عَلَى عليٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ووَصِيِّ رَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وصلِّ على السيدةِ الطاهرةِ المعصومة فاطمةَ سيدةِ نساءِ العالمين، وصلِّ أئمةِ المسلمين الحسنِ بنِ عليٍّ المجتبى، والحسينِ بن عليٍّ الشهيد، وعليِّ بنِ الحسينِ زينِ العابدين، ومحمدِ بنِ عليٍّ الباقر، وجعفرِ بنِ محمدٍ الصادق، وموسى بن جعفرٍ الكاظم، وعليِّ بن موسى الرضا، ومحمد بن عليٍّ الجواد، وعليِّ بن محمدٍ الهادي، والحسن بن عليٍّ العسكري، والخلفِ الحجَّةِ بن الحسن المهدي صلواتُك وسلامُك عليهم أجمعين.

اللهم صلِّ على وليِّ أمرِك القائمِ المهدي، اللهم افْتَحْ لَه فَتْحاً يَسِيراً وانْصُرْه نَصْراً عَزِيزاً، اللَّهُمَّ أَظْهِرْ بِه دِينَكَ وسُنَّةَ نَبِيِّكَ حَتَّى لَا يَسْتَخْفِيَ بِشَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ مَخَافَةَ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ.

أما بعدُ أيُّها المؤمنون:

فالحديثُ حولَ يومِ القدْسِ العالمي، وهو اليومُ الذي يُجدِّد فيه المسلمونَ تأكيدَهم على حقِّهمُ الإلهي في استعادةِ القدس الشريف مَسرى النبيِّ الكريم (ص)، وهو حقٌّ أصيلٌ لا يَسقطُ ولا يُنتقصُ بتقادُمِ الزمن، ولا يَخضعُ للتوازُناتِ والتجاذباتِ وتقلُّباتِ الظروف.

ويُعدُّ هذا الحقُّ واحداً من أهمِّ المُشتَركاتِ التي لو تمَّ العملُ بصدقٍ على توظيفِها لأسهمتْ في التنفيسِ من حالةِ الاحتقانِ الطائفي الذي فوَّت على المسلمينَ الكثيرَ من المُكتسبات بل وصيَّر منهم أشتاتاً يَلعنُ بعضُهم بعضاً ويَسفكُ بعضُهم دماءَ بعض.

إنَّ يومَ القدس العالمي فرصةٌ يَستعيدُ فيه المسلمونَ رُشدَهم فيتجرَّدوا أولاً عمَّا علُق في نفوسِهم من أدرانِ وآثارِ الشِقاق والنزاعاتِ البينيَّة ليقرأوا حينذاك واقعَهم المتردِّي، ويَبحثوا بجدٍّ عن وسائلِ الخَلاصِ من الآثارِ الكارثيَّة لهذا الواقعِ الذي يَتهدَّدُ مصيرَ هذه الأمةِ في هويتِها ومَجملِ كيانها.

وأرى كما يرى المخلصونَ أنَّ واحداً من أهمِّ سُبلِ الخلاص ممَّا يتهدَّدُ الأمةَ الإسلاميَّةَ بكلِّ مُكوِّناتها هو توظيفُ المشتركاتِ الكثيرة، وذلك باستحضارِها في ذاكرةِ الأمةِ ووجدانِها.

إنَّ المشتركاتِ التي تَنعَمُ بها الأمةُ الإسلامية تفوقُ الإحصاءَ، وتمتازُ هذه المشتركاتُ في معظمِها بوصفِها الأصول التي يقومُ عليها دينُ هذه الأمة، فالأمةُ بحمدِ الله تعالى تدينُ جميعُها دونَ استثناءٍ بالتوحيدِ والإيمانِ الخالصِ بأنْ لا إله إلا الله، كما تدينُ بأنَّ محمداً (ص) عبدُه ورسولُه وانَّه خاتمُ النبيين وسيدُ المرسلين وانَّه بُعث رحمةً للعالمين، كما تدينُ بأنَّ الساعة آتيةٌ لا ريبَ فيها وانَّ الله يبعثُ من في القبور، والشيعةُ كما السُنَّة يُؤمنونَ بأنَّ القرآن الذي بأيدي المسلمين هو القرآنُ الذي نزلَ على قلبِ رسول الله (ص) لا زيادةَ فيه ولا نُقصان، وانَّه ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾.

ومِن المشتركاتِ التي تَنعَمُ بها هذه الأمةُ انَّ قِبلتَهم واحدة تصديقاً لقوله تعالى: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ كما أنَّ المسلمينَ قاطبةً ملتزمونَ دونَ استثناءٍ بفرائضِ الإسلام، فهم ملتزمونَ بخَمسِ صلواتٍ في اليومِ والليلة وصيامِ شهرِ رمضان والزكاةِ والحجِّ لبيتِ اللهِ الحرام.

إنَّ توظيفَ مثلِ هذه المشتركاتِ والعملَ على استحضارِها وتجذيرِها في ذاكرةِ الأمة ووجدانِها هو السبيلُ لحمايةِ الأمَّةِ ممَّا يَتهددُها، ومن ذلك يَتفهَّمُ المسلمونَ بمختلفِ مذاهبِهم انَّ الاختلافَ والخُصوصيات لكلِّ مذهبٍ وطائفةٍ لا يضرُّ بكيانِ الأمة وهويتِها بعد الفراغِ والإذعانِ بأنَّ المشتركات التي تَنسَلِكُ الأمةُ في إطارِها هي المقوِّمُ لهويتِها.

فينبغي للأمة إذا كانت حريصةً -وهي كذلك- على عزَّتها ومنعتِها أنْ تؤصِّل لثقافةِ الاستحضار للمشتركات، وثقافةِ انَّ الاختلافَ بين المذاهبِ في التفاصيل شأنٌ لا يصحُّ أنْ يستثيرَ الشِقاق أو يدفعَ إلى نزاع، فلكلٍّ خصوصياتُه التي يَرتضيها لنفسه، فلا يفرضُ كلٌّ على غيره ما يتبنَّاه من تفاصيل، ولا تَستفزُّه متبنَّياتُ غيره بل ولا يضيقُ صدرُه منها. إنَّ التأسيسَ والتأصيلَ لهذه الثقافة ينزعُ فتيلَ أيِّ فتنةٍ يفتعلُها الحمقى أو مَن يتربَّصُ بأمةِ الإسلام الدوائر. 

ثم إنَّ هنا أمراً يتعيَّنُ على الإمة التنبُّهُ له وهو انَّ ثمة رجالاً أو فئاتٍ في كلِّ طائفة تستهويها الفتنُ والنزاعاتُ لدوافعَ مختلفة، فمثلُ هؤلاء لا ينبغي للأمةِ أن تنسبَ أخطاءَهم أو جرائمَهم إلى الطائفةِ التي ينتمونَ إليها، مثلُ هؤلاء بعد نصحِهم والإعذارِ في تبصيرِهم حقُّهم أنْ يُنبذوا وأنْ تُحاصرَ أنشطتُهم وأنْ لا تأذنَ الأمةُ بأنْ يخطفَ مثلُ هؤلاءِ مصيرَها إلى حيث المجهول.

ثم إنَّه يتعيَّنُ على الأمة أن تستحضر في وعيها دائماً انَّ ثمة جهاتٍ تتربَّصُ بالإسلام وأهلِه الدوائر وتعملُ ليلَ نهار على تمزيقِ الأمة، فهي توظِّفُ الخلافاتِ البينية في التفاصيل من أجل تمريرِ مشاريعها وإحكام هيمنتِها على مقدارات الأمة. فالإخلاص لدين الله وأمة الرسول الكريم (ص) يُحتِّم على أبناء الإسلام الحذرَ من الوقوع من شرَك مكائدِ هؤلاء، وذلك بعدم الاستجابة إلى أراجيفهم وتحذيراتهم الكاذبة وتخويفهم المسلمين بعضَهم من بعض، فهم أحقُّ من تخافُ الأمة على هويتها وكيانها من بغيهم ومكرهم وخداعهم.

اللهم صلِّ على محمدٍ وآل محمدٍ الطيبينَ الطاهرينَ الأبرارِ الأخيار، اللهم اغفر ذنوبَنا واستُر عيوبَنا واكشِف ما نزل بنا وارحم موتانا وشهداءَنا وفكَّ أسرانا وأرجع مسافرينا واشف مرضانا وجرحانا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياءٍ منهم والأموات تابعِ اللهمَّ بيننا وبينهم بالخيرات إنَّك مولانا مجيبُ الدعوات وغافرُ الخطيئات ووليُّ الباقياتِ الصالحات إنَّك على كلِّ شيء قديرٌ شهيد.

﴿إِنَّ اللَّه يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإِحْسَانِ وإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ويَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ والْمُنْكَرِ والْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.

خطبة الجمعة - الخطبة الثانية - الشيخ محمد صنقور

23 من شهر رمضان 1436هـ - الموافق 10 يوليو 2015م

جامع الإمام الصادق (عليه السلام) - الدراز