حرمة الفقَّاع ونجاسته

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

ما هو حكم الفقَّاع وهل هو مثلُ الخمر في الحرمة والنجاسة؟

الجواب:

أمَّا حرمة الفقاع فهي مورد وفاقٍ بين علمائنا قاطبة، وأما نجاسته فهي كذلك مورد وفاق بين القائلين بنجاسة الخمر وهم المشهور شهرة عظيمة

مدرك حرمة الفقاع ونجاسته:

ومدرك البناء على كلٍّ من حرمة الفقاع ونجاسته هو ما أفادته الروايات المستفيضة عن أهل البيت (ع) من النهي عن شرب الفقَّاع بل والتصريح بحرمته وأنَّه من الخمر.

فمن ذلك صحيحة الْوَشَّاءِ قَالَ: كَتَبْتُ إِلَيْه يَعْنِي الرِّضَا (ع) أَسْأَلُه عَنِ الْفُقَّاعِ؟ قَالَ: فَكَتَبَ حَرَامٌ وهُوَ خَمْرٌ ومَنْ شَرِبَه كَانَ بِمَنْزِلَةِ شَارِبِ الْخَمْرِ.. وقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الأَخِيرُ (ع): حَدُّه حَدُّ شَارِبِ الْخَمْرِ، وقَالَ (ع): هِيَ خُمَيْرَةٌ اسْتَصْغَرَهَا النَّاسُ"(1).

ومنها: موثقة عَمَّارِ بْنِ مُوسَى قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه ع عَنِ الْفُقَّاعِ فَقَالَ لِي: هُوَ خَمْرٌ"(2).

ومنها: موثقة ابْنِ فَضَّالٍ قَالَ كَتَبْتُ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ (ع) أَسْأَلُه عَنِ الْفُقَّاعِ؟ قَالَ: فَكَتَبَ يَقُولُ: هُوَ الْخَمْرُ، وفِيه حَدُّ شَارِبِ الْخَمْرِ"(3).

فهذه الروايات -وغيرها كثير- بين صريحة وظاهرة في الحرمة، وأمَّا دلالتها على نجاسة الفقاع فلأنَّها وصفته بأنَّه خمر، ومفاد ذلك هو أنَّه إمَّا أن يكون خمراً حقيقة أو هو خمرٌ تنزيلاً، فلو كان المراد من الروايات هو أنَّ الفقاع خمرٌ حقيقة فمقتضى ذلك هو أنَّ الأحكام الثابتة للخمر تثبت للفقاع دون عناية وحيث إنَّ من الأحكام الثابتة للخمر هو النجاسة لذلك فالفقاع نجس مثله لكونه واحداً من مصاديق الخمر حقيقة، ولو كان المراد من مثل قوله (ع): "هُوَ الْخَمْرُ" أو "هُوَ خَمْرٌ" التنزيل للفقَّاع منزلة الخمر فكذلك يقتضي البناء على نجاسة الخمر، فإنَّ المستظهَر عرفاً من تنزيل الشارع لشيءٍ منزلة شيءٍ هو التنزيل له من جهة الأحكام الثابتة شرعاً للمنزَّل عليه، فمفاد مثل قوله: "هو الخمر" هو التوسيع لموضوع الخمر واعتبار الفقاع واحداً من مصاديقه تعبَّداً ومعنى ذلك عرفاً هو بيان أنَّ الأحكام المجعولة للخمر مجعولة للفقاع.

ويؤيد الحكم بنجاسة الفقَّاع رواية يونس عن أبي عبد الله (ع) كما في الكافي عن أَبِي جَمِيلَةَ الْبَصْرِيِّ قَالَ: كُنْتُ مَعَ يُونُسَ بِبَغْدَادَ فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَه فِي السُّوقِ إِذْ فَتَحَ صَاحِبُ الْفُقَّاعِ فُقَّاعَه فَأَصَابَ ثَوْبَ يُونُسَ فَرَأَيْتُه قَدِ اغْتَمَّ لِذَلِكَ حَتَّى زَالَتِ الشَّمْسُ، فَقُلْتُ لَه: ألَا تُصَلِّي يَا أَبَا مُحَمَّدٍ فَقَالَ: لَيْسَ أُرِيدُ أَنْ أُصَلِّيَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى الْبَيْتِ فَأَغْسِلَ هَذَا الْخَمْرَ مِنْ ثَوْبِي قَالَ: فَقُلْتُ لَه: هَذَا رَأْيُكَ أَوْ شَيْءٌ تَرْوِيه فَقَالَ: أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ أَنَّه سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) عَنِ الْفُقَّاعِ؟ فَقَالَ: لَا تَشْرَبْه فَإِنَّه خَمْرٌ مَجْهُولٌ فَإِذَا أَصَابَ ثَوْبَكَ فَاغْسِلْه"(4) فالأمر بغسل ما أصاب الثوب منه ظاهرٌ في الإرشاد إلى النجاسة كما هو واضح.

تحديد ماهيَّة الفقاع:

بقي البحث في تحديد ماهيَّة الفقَّاع فالقدر المتيقَّن ممَّا يصدق عليه عنوان الفقاع هو الشراب المتَّخذ -بكيفيَّة خاصَّة- من الشعير، فذلك هو المقدار الذي لم يقع إشكال في صدق عنوان الفقاع عليه، ونُسب إلى بعضهم أنَّ الفقاع هو الشراب المتَّخذ من الشعير ومن الزبيب إلا أنَّه حيث لا طريق إلى إحراز صدق عنوان الفقاع على الشراب المتَّخذ من الزبيب لذلك لا يمكن التمسك بأدلة حرمة الفقاع ونجاسته في البناء على حرمة الشراب المتَّخذ من الزبيب للشك في كونه من الفقاع، والخطاب لا ينقِّح موضوعه، فالفرض من موارد الشك بين سعة الموضوع وضيقه والمتعيَّن في مثله هو الاقتصار على القدر المتيقَّن ممَّا يصدق عليه عنوان الفقاع والرجوع فيما هو أوسع من ذلك إلى أصالة الطهارة وأصالة الحل بمعنى أنَّ ما زاد على القدر المتيقن وهو الشراب المتَّخذ من الشعير يكون مشكوكاً في صدق عنوان الفقاع عليه فالشك في حرمته ونجاسته بعد عدم إحراز أنَّه من الفقاع يكون من الشك في التكليف الزائد لذلك فهو مجرى لأصالة الحل وأصالة الطهارة كما هو الشأن في مطلق موارد الشك بين الأقل والأكثر. نعم قد تثبت الحرمة والنجاسة للشراب المتَّخذ من الزبيب لو كان مسكراً إلا أنَّ الحرمة والنجاسة الثابتة له في هذا الفرض نشأت عن كونه مُسكراً وليس لأنَّه من الفقَّاع.

اعتبار الغليان والنشيش في الحرمة والنجاسة:

هذا وقد وقع البحث في أنَّ الحكم بحرمة الفقاع ونجاسته هل يشترط فيه النشيش والغليان أو أنَّه يكفي للحكم بحرمة الشراب المتَّخذ من الشعير صدق عنوان الفقاع عليه؟

المستظهر من كلمات الفقهاء وإطلاق أكثر النصوص -كما أفاد السيد الخوئي-(5) هو أنَّ المدار فيما يحرم من الشراب المتَّخذ من الشعير هو صدق عنوان الفقاع عليه فمتى ما صدق عليه عنوان الفقاع فهو محكوم بالحرمة والنجاسة سواءً وقع له النشيش والغليان أو لا.

إلا أنَّ الصحيح كما أفاد السيد الخوئي(6) هو اعتبار النشيش والغليان في الحرمة والنجاسة إذ لا يصدق عنوان الفقاع على الشراب المتَّخذ من الشعير ما لم ينش أو يغلي، فعنوان الفقاع مأخوذ من الفقاعات والتي هي مثل الزبد الذي يطفو على سطح الشراب نتيجة النشيش أو الفقاعات التي تظهر على الشراب نتيجة الغليان ولا أقلَّ من الشكِّ في صدق عنوان الفقاع على الشراب الذي لم تحصل له حالة الغليان أو النشيش وحينئذٍ لا يصحُّ التمسك بإطلاقات أدلة الحرمة والنجاسة على مثله للشك في موضوعيته لها ولهذا يكون مجرى لأصالة الحل والطهارة إلا أنْ يثبت إسكاره فيحرم ويحكم بنجاسته لكونه مسكراً لا لأنَّه من الفقاع.

وبتعبير آخر: إنَّ ما أفاده الأعلام من البناء على حرمة ونجاسة كل ما صدق عليه أنَّه من الفقاع صحيح دون إشكال إلا أنَّ ذلك لا يقتضي البناء على حرمة ونجاسة مطلق الشراب المتَّخذ من الشعير وإنْ لم يغل أو ينش، وذلك لأنَّ العنوان الذي وقع موضوعاً للحرمة والنجاسة هو عنوان الفقَّاع، ومن غير المحرَز صدق عنوان الفقاع على الشراب المتَّخذ من الشعير إذا لم يغلِ أو ينش، فالشك إنَّما في صدق مفهوم الفقاع على مثل هذا الشراب، ولهذا لا يصحُّ التمسك بإطلاقات أدلة الحرمة والنجاسة لإثبات حرمة هذا الشراب، إذ أنَّ هذه الأدلة لا تُحرِز موضوعَها بل يتعيَّن إحراز موضوعها من خارجها، فالمقام ليس من قبيل ما إذا ورد خطاب مفاده أكرم الفقراء ووقع الشك في اعتبار العدالة في الوجوب فإنَّه في مثل هذا الفرض يصحُّ التمسك بإطلاق الخطاب لنفي اعتبار العدالة في وجوب الإكرام وذلك لإحراز صدق عنوان الفقير على الفاقد للعدالة فيكون مقتضى إطلاق الأمر بوجوب إكرام الفقير هو شمول الوجوب للفقير الفاقد للعدالة شأنُه شأن الواجد لها وهذا بخلاف ما لو وقع الشك في وجوب إكرام من يملك قوت سنته بالقوَّة فإنَّه لا يُمكن التمسك بإطلاق وجوب إكرام الفقير لإثبات وجوب إكرامه، لأنَّ الشك في وجوب إكرامه نشأ عن الشكِّ في صدق عنوان الفقير عليه.

كذلك المقام فإنَّ الشك في حرمة ونجاسة الشراب المتَّخذ من الشعير -إذا لم يغلِ ولم ينش- نشأ عن الشك في صدق عنوان الفقَّاع عليه لذلك لا يصحُّ التمسك بإطلاق حرمة ونجاسة الفقَّاع لإثبات حرمة ونجاسة هذا الشراب.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

28 ربيع الثاني 1445ه

13 نوفمبر 2023م

----------------------------

1- الكافي -الكليني- ج6 / ص423.

2- الكافي -الكليني- ج6 / ص424.

3- الكافي -الكليني- ج6 / ص424.

4- الكافي -الكليني- ج6 / ص423.

5- التنقيح في شرح العروة الوثقى -السيد الخوئي- ج3 / ص129.

6- التنقيح في شرح العروة الوثقى -السيد الخوئي- ج3 / ص129.