حربٌ على الإنسانيَّة والأخلاق

الخطبة الثانية:

الحمد لله ذي القُدرةِ والسلطانِ والرأفةِ والامتنانِ أحمَدُه على تَتابعِ النِعَم، وأعوذُ به مِن العذابِ والنِقَم، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له مخالَفةً للجاحدين، ومعاندَةً للمُبطِلين، وإقراراً بأنَّه ربُّ العالمين، وأشهدُ أنَّ محمَّداً صلَّى الله عليه وآله عبدُه ورسولُه الصادقُ الأمينُ، ختَمَ به النبيِّين وأرسلَه رحمةً للعالمين صلَّى الله عليه وآلِه أجمعين.

أوصيكم عبادَ اللهِ ونفسي بتقوى الله الذي هو وليُّ ثوابِكم، وإليه مَردُّكم ومَآبُكم، فبادِروا بالعملِ الصالح قبلَ أنْ يَهجمَ عليكم الموتُ الذي لا يُنجِيكم منه حِصْنٌ منيع، ولا هرَبٌ سريع، فإنَّه واردٌ نازل وواقعٌ عاجِل، وإنْ تطاولَ الأملُ، وامتدَّ المَهل، فكلُّ ما هو آتٍ قريبٌ، فمَن مهَّد لنفسِه فهو المُصيب، فتزوَّدوا رَحِمَكم اللهُ ليوم المَماتِ، واحذروا أليمَ هولِ البَياتِ

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ ورَسُولِكَ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وإِمَامِ الْمُتَّقِينَ ورَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، اللَّهُمَّ وصَلِّ عَلَى عليٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ووَصِيِّ رَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وصلِّ على السيدةِ الطاهرةِ المعصومة فاطمةَ سيدةِ نساءِ العالمين، وصلِّ أئمةِ المسلمين، الحسنِ بنِ عليٍّ المجتبى، والحسينِ بن عليٍّ الشهيد، وعليِّ بنِ الحسينِ زينِ العابدين، ومحمدِ بنِ عليٍّ الباقر، وجعفرِ بنِ محمدٍ الصادق، وموسى بنِ جعفرٍ الكاظِم، وعليِّ بن موسى الرضا، ومحمدِ بن عليٍّ الجواد، وعليِّ بنِ محمدٍ الهادي، والحسنِ بن عليٍّ العسكريِّ، والخَلفِ الحجَّةِ بنِ الحسنِ المهديِّ صلواتُك وسلامُك عليهم أجمعين. اللهمَّ صلِّ على وليِّ أمرِك القائمِ المهديِّ، اللهمَّ افْتَحْ لَه فَتْحاً يَسِيراً، وانْصُرْه نَصْراً عَزِيزاً، اللَّهُمَّ أَظْهِرْ بِه دِينَكَ وسُنَّةَ نَبِيِّكَ حَتَّى لَا يَسْتَخْفِيَ بِشَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ مَخَافَةَ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ.

أمَّا بعد أيُّها المؤمنون:

فما زالتِ الحربُ على غزةَ تتصدَّرُ المشهدَ في مختلفِ أرجاءِ العالم، ذلك لأنَّها حربٌ ليست من سنْخِ الحروبِ التقليديَّة التي تنشبُ بين قوَّتينِ بل هي حربٌ من طبيعةٍ أخرى تشنُّها قوُّةٌ غاشمة، وترعاها قوىً عالميَّةٌ وتمدُّها بمختلفِ وسائل البطش وتستحثُّها على الإيغالِ والإمعانِ في الفتكِ والتدمير دون حساب وتُغريها بالحمايةِ من المساءلةِ والإدانة.

والمقابلُ لهذه القوَّةِ التي تشنُّ الحربَ ليس جيشاً مجهَّزاً، المقابلُ لهذه القوَّةِ المحاربة أطفالٌ ونساءٌ وعمالٌ ومزارعونَ وأطباء ومعلِّمون وصحفيُّون، والمستهدفُ بآلة الحرب هي أجسادُ هؤلاءِ الأطفالِ والنساءِ والآمنين وبيوتُهم ومدارسُهم ومستشفياتُهم ومزارعُهم وأسواقُهم وأقواتُهم ومختلف أسبابِ معاشهم، لذلك هي حربٌ غيرُ تقليديَّة، هي حربٌ على الإنسانيَّة، وحربٌ على العدالةِ الاجتماعيَّة، وحربٌ على الأخلاق والقيم وعلى الرحمةِ وعلى الضميرِ والفطرة، لذلك لا يكادُ العالم يفيقُ من صدمةِ ما يشاهدُه وهولِ ما تبثُه وسائلُ الإعلام، أطفالٌ تُذبح دون أن تعلمَ لماذا هي تُذبح، ولماذا لا تجد ماءً تشربُه وطعاما تتبلَّغُ به ولماذا تُمزَّق أوصالُ أمهاتهم ولماذا تُحرق مدارسُهم ولماذا تُستباحُ مقتنياتُهم.

إنَّ هذه الحرب الهمجيَّة، وهذه الإبادة الشاملة وهذا القتل الذريع وهذه القسوة المتناهية في التوحُّش أيقظت الكثيرَ من أبناء هذا العالم، ولهذا تشهدُ العديدُ من العواصم الغربيَّة مسيراتٍ عارمة تستفظعُ وتستبشعُ ما ترتكبُه إسرائيلُ بحقِّ الشعبِ الفلسطينيِّ المظلوم وتُنكرُ على حكوماتها التواطئَ والدعمَ لهذه الدولةِ المارقة والمتوحِّشة، إنَّ قلوب هؤلاء الذين تكتظُّ بهم شوارعُ العواصمِ الغربيَّة لم تكن ميتة ولكنَّها كانت مضلَّلة بفعلِ الإعلام والمناهجِ التعليميَّة التي تُهيمن عليها دوائرُ الصهيونيَّةِ العالميَّة

هذه الحربُ فضحت زيفَ هذا الإعلامِ الكاذب وأحدثتْ صحوةً يتعيَّنُ على الأمةِ الإسلاميةِ البناءُ عليها بمختلف الوسائل المتاحة، يتعيَّنُ على الأمةِ التعميقُ لهذه الصحوةِ وتعريفُ الشعوب الغربيَّة أنَّ قادتَهم زرعوا في قلبِ العالم الإسلامي عصابةً متوحِّشةً ونازيَّة، ومكَّنوا لها -بمختلفِ وسائل القوَّةِ- الاغتصابَ لأرضٍ ليست لهم وتواطئوا معهم على تشريد أصحاب الأرض وتهجيرِهم قسراً من وطنِهم، وأباحوا لهم الاستحواذَ على منازلِهم ومزارعِهم والتدنيسَ لمقدساتِهم.

وتعريفُهم أنَّ ما يشهدُه العالمُ اليومَ من مجازرَ وفظائعَ بحقِّ الشعبِ الفلسطيني لم تبدأ يوم طوفانِ الأقصى، فالمجازرُ وجرائمُ الحرب المروِّعة التي يشهدها العالمُ اليوم ما هي إلا حلقةٌ ضمنَ سلسلةِ حلقاتٍ من المجازرِ والجرائم تمتدُّ لأكثرِ من سبعة عقود، فطوفانُ الأقصى لم يكن سوى ردَّةِ فعلٍ أرادَ منها الشعبُ الفلسطينيُّ السعيَ للدفعِ عن نفسِه والاستردادِ لأرضِه والاستعادةِ لحقوقِه المضيَّعة حيث لم يجدْ الشعبُ الفلسطينيُّ طريقاً لاسترجاعِها سوى اعتمادِ طريق المقاومةِ والنضال، فطوفانُ الأقصى لم يكن تعدِّياً كما يُروِّج لذلك الكيانُ الغاصبُ وداعمُوه بل كان دفاعاً ونضالاً يبتغي الشعبُ الفلسطينيُّ من ورائه الحمايةَ لنفسِه من هذا الكيان المُستبيحِ للدماء ويبتغي من ورائه التحريرَ لأرضه المغتصَبةِ والصونَ لمقدَّساته التي يتعمَّد هذا الكيانُ الغاصب تخريبَها وتدنيسها إمعاناً في النكاية به وبالمسلمين والاستفزازِ لمشاعرهم والحطِّ من كرامتهم.

هذا العدوُّ الغاشم الذي يُصوِّره الإعلامُ الغربيُّ الكاذب أنَّه ضحيَّةٌ للإرهاب لم يتورَّع يوماً ما عن الفتك بالآمنين واستهدافِهم بمختلفِ الأسلحة المحرَّمة، فكم من قريةٍ أبادها عن آخرها فلم يُبقِ منها عيناً ولا أثراً، وكم من قريةٍ أجلى عنها أهلَها فلم يَستبقِ منهم طفلاً ولا امرأة وألجئهم بقوةِ النار والحديد على النزوحِ مشياً على أقدامهم في هجير الصحراءِ حتى ماتَ الكثيرُ منهم جوعاً وظمأً أو من شدَّة الإعياء، وكم هي المدنُ التي هدمَها على رؤوس ساكنيها ثم أقام على أنقاضِها مستعمراتِه ومستوطناتِه بعد أن استقدمَ شراذمَ اليهود من أصقاعِ الأرض وأسكنَهم في مساكنِ النازحين ومساكنِ مَن أزهقت أرواحُهم ومزِّقت أشلاؤهم، إنَّ هذا العدو ومَن يقفُ خلفَه هو الصانعُ للإرهاب وهو الرافدُ له ليس في أرضِ فلسطينَ وحسب بل في عموم أرجاءِ العالم الإسلامي، فبؤرُ الإرهابِ في مختلف مواقعِها صنيعتُه، ورجال الإرهاب أدواتُه وأجناده من حيث يشعرونَ ومن حيثُ لا يشعرون، ولهذا يتحتَّمُ على الأمة الإسلامية أنْ تُضاعف من جهدِها للكشفِ عن واقع هذا العدوِّ وداعميه أمام الشعوبِ الغربيَّة وتعريفهم بمختلفِ الوسائلِ المتاحة أنَّ قادتَهم هم مَن يصنعُ الإرهاب ويُموِّلُه ثم يرمون به ضحاياه ولا حول ولا قوَّة إلا بالله العليِّ العظيم والعاقبةُ للمتقين.

اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد اللهمَّ اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

2 من شهر جمادى الأولى 1445هـ - الموافق 17 نوفمبر 2023م

جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز