أخذ الأجرة على القضاء
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
هل يجوز أخذُ الأجرة على القضاء؟
الجواب:
المشهور بين الفقهاء رضوان الله عليهم هو حرمة أخذ الأجرة على القضاء من المتخاصمين أو غيرهما إذا كان متعيناً وكانت الحاجة للأجرة منتفية بل أدُّعي الاجماع على الحرمة في هذا الفرض وذهب البعض إلى حرمة أخذ الأجرة على القضاء مطلقاً حتى في فرض الحاجة وعدم التعيُّن بأنْ وُجد مَن به الكفاية(1).
الاستدلال بحرمة أخذ الأجرة على الواجبات:
ومدرك بعض من أفتى بالحرمة هو البناء على حرمة أخذ الأجرة على الواجبات، فبناءً على وجوب القضاء كفايةً أو تعيُّناً في فرض الانحصار يكون أخذ الأجرة على القضاء من أخذ الأجرة على الواجبات.
والحكم بالحرمة ينتفي لو بنينا على عدم حرمة أخذ الأجرة على الواجبات مطلقاً سواءً كانت توصليَّة أو تعبديَّة، وسواءً كانت واجبة كفاية أو تعيُّناً في فرض الانحصار. وكذلك ينتفي الحكم بالحرمة مع البناء على حرمة أخذ الأجرة على الواجبات المتعيِّنة دون الكفائيَّة مع فرض أنَّ القضاء واجباً في حقِّ القاضي كفاية.
نعم يحرم أخذ الأجرة على القضاء حتى مع البناء على عدم حرمة أخذ الأجرة على الواجبات إذا بنينا على أنَّ وجوب القضاء قد اعتُبر في أدائه المجانيَّة شأنُه شأن الفرائض اليوميَّة مثلاً والتي يُعتبر في أدائها المجانيَّة، فبناءً على ذلك يحرم أخذ الأجرة على القضاء حتى مع البناء على عدم حرمة أخذ الأجرة على سائر الواجبات.
وحيث إنَّه لا دليل على اعتبار المجانيَّة في امتثال وجوب القضاء، وكذلك فإنَّ الصحيح عدم حرمة أخذ الأجرة على الواجبات القربيَّة فضلاً عن التوصليَّة لذلك لا يصحُّ البناء على حرمة أخذ الأجرة على القضاء إلا أنْ يقوم دليلٌ خاصٌّ على ذلك.
الاستدلال بالروايات على حرمة أخذ الأجرة على القضاء:
هذا وقد استُدلَّ على حرمة أخذ الأجرة على القضاء بروايتين:
الأولى: صحيحة عمار بن مروان قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "السحتُ أنواع كثيرة، منها ما أُصيب من أعمال الولاة الظلمة، ومنها أُجور القضاة وأُجور الفواجر، وثمن الخمر، والنبيذ المسكر والربا بعد البينة، فأمَّا الرشا يا عمَّار في الاحكام فإنَّ ذلك الكفر بالله العظيم وبرسوله"(2).
وأورد السيد الخوئي على الاستدلال بالرواية(3) هو أنَّ المستظهَر من إيراد الفقرة المذكورة هو التصدِّي لبيان حرمة أخذ الأجور من الولاة الظلمة، فالضميرُ في قوله (ع): "ومنها أجور القضاة" يرجع إلى الموصول في قوله (ع) "ما أُصيب من أعمال الولاة الظلمة" فمؤدَّى الفقرة هو أنَّ من أنواع السحت ما أصيب من أعمال الولاة الظلمة ومنها أي وممَّا أصيب من أعمال الولاة هو أجور القضاة، فأجور القضاة واحد من مصاديق الأموال التي تُصاب من أعمال الولاة الظلمة، والقرينة على أنَّ الضمير في قوله: " ومنها" يرجع إلى الموصول في قوله: "ما أصيب من أعمال الولاة" هو أنَّ كلمة "ومنها" لم تتكرر في أجور الفواجر وثمن الخمر وسائر أنواع السحت المذكورة، وهو ما يعبِّر عن أنها من أنواع السحت استقلالاً بخلاف أجور القضاة فإنَّها مصداقٌ من ما أُصيب من أعمال الولاة. وبذلك لا تكون للرواية دلالة على أكثر من أنَّ أجور القضاة تعدُّ من السحت إذا كانت مما يُصاب من أعمال الولاة الظلمة، وأمَّا أجور القضاة التي تُصاب من الولاة العدول أو مِن المتخاصمين فهي مسكوت عنها في الرواية.
ولعلَّ ممَّا يؤيد ما أفاده السيد الخوئي من أنَّ فقرة أجور القضاة سيقت لبيان مصداق من مصاديق النوع الأول من السحت -وهو ما يُصاب من أعمال الولاة- هو أنَّ أجور القضاة قد يكون مصداقاً خفياً لما يُصاب من أعمال الولاة هو أنَّ القضاء عمل مقدَّس وضروري للناس ويمتهنه العلماء المتشرعون فقد يخفى على الناس أنَّ أخذ الأجر عليه من السلطان الجائر محرم وسحت لذلك كانت الحاجة مقتضية للتنبيه على أنَّه من مصاديق السُحت المصاب من أعمال الولاة الظلمة.
فهذه القرينة مؤيِّدة لما أفاده السيد الخوئي (رحمه الله) وهي في ذات الوقت تُبرر عدم تكرار "ومنها" لبيان أنواع السحت المذكورة في الرواية فمساق الرواية هو أنَّ أنواع السحت كثيرة منها ما يُصاب من أعمال الولاة الظلمة وأجور الفواجر وثمن الخمر .. وأما فقرة: "ومنها أجور القضاة" فجاءت كجملة معترضة لبيان مصداقٍ خفي لفقرة ما يُصاب من أعمال الولاة الظلمة.
نعم يرد على ما أفاده السيد الخوئي (رحمه الله) أنَّ فقرة: "ومنها أجور القضاة" لو كانت بيانا لمصداق من مصاديق "ما يصاب من أعمال الولاة الظلمة" لكان المناسب أن يقول ومنه أجور القضاة بالتذكير ليكون ذلك واضحاً في إرادة بيان أنَّه من مصاديق النوع الأول وأنَّه ليس من الأنواع المستقلَّة للسحت، فقوله: "ومنها أجور القضاة ظاهرٌ عرفاً في أنَّه إحدى من الأنواع الكثيرة التي تصدَّت الرواية لتعداد عددٍ منها. وأما عدم تكرار "ومنها" بعد الفقرة الثانية فهو لوضوح أنَّ الإمام (ع) كان بصدد تعداد الأنواع بعد أنْ كرر "ومنها" مرتين، فلا موجب بعد ذلك لتكرار كلمة "ومنها". وهذا الأسلوب متعارف عند أهل المحاورة، فيقال مثلاً الأطعمة المحرمة كثيرة منها لحم الخنزير ومنها الميتة والسباع والحشار والمسوخ فتكرار كلمة "ومنها" مرتين يوجب ظهور الكلام في أنَّ المتكلم بصدد تعداد أنواع الأطعمة المحرَّمة، فلا موجب حينئذٍ لتكرار كلمة ومنها.
نعم الصحيح أنَّ الرواية لا تدلُّ على أكثر من أنَّ أجور قضاة سلاطين الجور من السحت، فإن كلمة القضاة في الرواية ظاهرة في القضاة المعهودين وليسوا سوى قضاة سلاطين الجور، فالألف واللام عهدية -ظاهراً- وليست للجنس، ولا أقلَّ من أنَّ ذلك هو المحتمل قويَّاً بنحوٍ يسلب ظهور الرواية في إرادة الجنس، وعليه لا تكون للرواية دلالة في أكثر من حرمة أجور القضاة المنصوبين من قبل الولاة الظلمة. فلا تكون الرواية صالحة لإثبات حرمة أجور القضاة المنصوبين من قبل ولاة العدل.
الثانية: صحيحة عَبْدِ اللَّه بْنِ سِنَانٍ قَالَ سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع) عَنْ قَاضٍ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ يَأْخُذُ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى الْقَضَاءِ الرِّزْقَ فَقَالَ: ذَلِكَ السُّحْتُ"(4).
وأورد السيد الخوئي(5) وغيره على الاستدلال بالرواية أنَّها أجنبية عن محلِّ البحث لظهورها في بيان حكم أُجرة القاضي المنصوب من قبل سلاطين الجور.
والمتحصل أنَّه لا دليل على حرمة أخذ القاضي الأجرة من المتخاصمين وكذلك لا دليل على حرمة أخذ القاضي المنصوب الأجرة من ولاة العدل. بل قد يُقال بإمكان إقامة الدليل على جواز أخذ الأجرة من ولاة العدل، فإنَّ ذلك هو المستظهَر مما ورد في عهد الإمام أمير المؤمنين لمالك الأشتر -بسندٍ معتبر- قال: "ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِه، وافْسَحْ لَه فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيلُ عِلَّتَه، وتَقِلُّ مَعَه حَاجَتُه إِلَى النَّاسِ"(6).
إلا أنَّه قد يُقال إنَّ الرواية لا تدلُّ على أكثر من جواز ارتزاق القاضي من بيت المال، ولعلَّ ممَّا يؤكد ذلك التعبير عمَّا يعطاه القاضي بالبذل وهو إنَّما يناسب الارتزاق، وعلى أيِّ تقدير فيكفي للبناء على جواز أخذ الأجرة على القضاءهو عدم الدليل على الحرمة.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
6 / رجب المعظم / 1445ه
17/ يناير / 2024م
1- مستند الشيعة -النراقي= ج17 / ص64.
2- الخصال -الصدوق- ص330، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج17 / ص95.
3- مباني تكلملة المناج -السيد الخوئي- ج 41 / ص6، 7.
4- الكافي -الكليني- ج7 / ص409، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص221.
5- مباني تكلملة المناج -السيد الخوئي- ج41 / ص7.
6- نهج البلاغة ص435، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج 27 / ص224.