اعتبار المَلَكة في تحقُّق العدالة

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

هل يُعتبر في العدالة التي هي شرطٌ في إمام الجماعة أنْ تكون ناشئةً عن ملَكةٍ نفسانيَّة أو يكفي في تحقُّق العدالة الاستقامة؟

الجواب:

اختلفت كلمات الأعلام في تحديد مفهوم العدالة المعتبرة في مثل إمام الجماعة والقاضي والشاهد، فأفاد بعضُهم أنَّ العدالة ملكةٌ راسخةٌ في النفس تبعثُ على التقيُّد والالتزام بالواجبات وترك المحرَّمات.

وأفاد آخرون أنَّ العدالة هي الالتزام بالواجبات وترك المحرمات على أن يكون الالتزام بذلك ناشئاً عن ملكة راسخة في النفس.

والفرق بين التعريفين أنَّ الأول اعتبر أنَّ حقيقة العدالة هي الملكة النفسانية والالتزام العملي الخارجي بالواجبات وترك المحرمات إنَّما هو أثرٌ للعدالة والتي هي الملكة.

وأمَّا التعريفُ الثاني فاعتبر الالتزام العملي بالواجبات وترك المحرَّمات هو حقيقة العدالة والملكة النفسانية إنَّما هي السبَّب الذي نشأ عنه الالتزام.

فالالتزام الخارجي هو العدالة بناءً على التعريف الثاني غايته أنَّ العدالة لا تصدق بالالتزام ما لم تنشأ عن ملكةٍ نفسانيَّة، وأمَّا على التعريف الأول فالملكة هي حقيقةُ العدالة، غايته أنَّها لا تصدق ما لم ينشأ عنها التزامٌ خارجي بالواجبات وترك المحرمات.

رجوع التعريفين إلى معنىً واحد:

ولا يبعد كما أفاد السيد الخوئي رحمه الله(1) أنَّ التعريفين يرجعان إلى معنىً واحد، إذ لا يصحُّ أنْ تكون الملكة النفسانية هي العدالة بقطع النظر عن الالتزام الخارجي بالواجبات وترك المحرمات، فلو فرض جدلاً أنَّ أحداً كان واجداً لملكة العدالة ولكنَّه لغلبة الهوى ترك الواجبات وارتكب المحرمات فإنَّه لو كانت العدالة هي الملكة لصحَّ وصفُ هذا الرجل بالعدل وهو في ذات الوقت فاسق لتركه الواجبات وارتكابه المحرمات، ولا يلتزم أحدٌ بذلك جزماً، وهو ما يعبِّر عن أنَّ المقصود من تعريف العدالة بالملكة هو أنَّها السبب الباعثُ على فعل الواجبات وترك والمحرمات، فالعدالة هي الالتزام الخارجي عن ملكة فالتعريفان يرجعان إلى معنىً واحد.

تعريف آخر للعدالة:

وفي مقابل هذا التعريف ذهب آخرون إلى أنَّ العدالة هي الالتزام العملي بالواجبات وترك المحرمات بقطع النظر عن صدور ذلك عن ملكةٍ نفسانية أي أنَّ وجدان الملكة النفسانيَّة ليس دخيلاً في تحقُّق وصف العدالة، فيكفي في تحقُّق صفة العدالة في الرجل التزامُه عملاً بالواجبات وترك المحرمات سواءً نشأ ذلك عن ملكة نفسانيَّة أو لا.

الوجه في عدم اعتبار الملكة:

والوجه في ذلك أنَّ العدالة المُعتبرة في مثل الشاهد وإمام الجماعة ليس لها حقيقةٌ شرعيَّة أو متشرعيَّة، وعليه فالمرجع في تحديد المراد من العدالة هو ما يقتضيه مدلول هذه المادة لغةً وعرفاً، ومن الواضح أنَّ مدلول هذه المادة لغةً وعرفاً يُساوق الاستقامة في مقابل الانحراف والاعوجاج، يقالُ جدارٌ أو طريقٌ عدل أي مستقيم في مقابل الجدار والطريق المنحرف والمعوج، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ﴾(2) فجعل الميل وهو الانحراف في مقابل العدل وهو الاستقامة في المعاملة.

فالعدالة في كلِّ شيء بحسبه، فهي حينما تُسند مثلاً إلى شاخصٍ أو جدار فهي تعني استقامته، وحينما تُسند مثلاً إلى النفس فهي تعني استواءها والذي هو الاستقامة في مقابل اضطراب النفس واعتلالها، وحين يُوصفُ الرجلُ بالعدل فمدلولُ ذلك لغةً وعرفاً هو أنَّه مستقيم، غايته أنَّ هذا الوصف إذا صدر عن العقلاء فمدلوله الاستقامة وفق الضوابط العقلائية فهو غير منحرف عمَّا تقتضيه الضوابط العقلائية، وإذا صدر هذا الوصف من المقنِّن فمدلوله الاستقامة وفق القوانين المقرَّرة، وإذا صدر هذا الوصف من المشرِّع فمدلولُه الاستقامة وفق الضوابط الشرعيَّة، فالرجلُ الموصوف بأنَّه عدل هو المستقيم على الضوابط الشرعيَّة، فلا ينحرف عنها يمينا ولا شمالاً.

وعليه فالمستظهَر عرفاً من اعتبار العدالة في إمام الجماعة مثلاً هو اعتبار أن يكون إمام الجماعة مستقيما على ضوابط الشرع غير منحرفٍ عنها، وذلك لأنَّ المُعتبِر للعدالة في إمام الجماعة هو المشرِّع، فالمناسب لذلك هو إرادة الاستقامة على ضوابط الشرع.

ومع اتِّضاح ذلك يتبيَّن أنَّ العدالة المعتبرة شرعاً ليست شيئاً زائدا على الاستقامة على ضوابط الشرع سواءً نشأ ذلك ملكةٍ نفسانيَّة أو لا، فالمتقيِّد بضوابط الشرع وذلك بالالتزام عملاً بفعل الواجبات وترك المحرَّمات يصحُّ وصفُه بالمستقيم على جادة الشرع دون الملاحظة لمنشأ استقامته وأنَّه نشأ عن ملكة نفسانيَّة.

لا يُقال بناءً على هذا التعريف للعدالة يكون المرائي عدلاً إذا التزم عملاً بفعل الواجبات وترك المحرَّمات.

فإنَّه يُقال إنَّ الرياء حرامٌ شرعاً، فمَن فعل الطاعات رياءً فهو غير مستقيم على جادة الشرع لارتكابه ما يحرم شرعاً، وبقطع النظر عن ذلك فإنَّ المراد من المستقيم على جادة الشرع هو مَن يأتي بالطاعات -ومنها الفرائض العباديَّة- على وجهها أي بقصد القربة، والمرائي ليس كذلك، فهو إذن ليس ملتزِماً عملاً بفعل الواجبات العباديَّة، فلا يكون عدلاً مستقيماً على جادَّة الشرع.

ومن ذلك يتبيَّن عدم صحَّة النقض على التعريف بمَن يلتزم عملاً بفعل الواجبات وترك المحرَّمات رعايةً لشرفه وحفظاً لمروءته فإنَّ مثله لا يُعدُّ مستقيماً على جادَّة الشرع، لأنَّه لم يأتِ بالعبادات على وجهِها المطلوب وهو قصد القربة لله تعالى فلا يكون عدلاً بحسب التعريف المذكور.

نعم يدخلُ في التعريف المذكور من يترك المحرمات غير العباديّة بسبب أنَّه لا مقتضي في نفسِه لفعلها أو لأنَّه عاجزٌ عن فعلِها، فتركُه لها لم ينشأ عن وازعٍ ديني، وكذلك فإنَّه يفعل الواجبات غير العباديَّة لكونها موافقةً لغرضه ورغبته وليس لباعثٍ ديني، فمثلُه يكون عدلاً بناءً على التعريف المذكور إذا كان ملتزماً بفعل الواجبات العباديَّة وترك المحرمات العباديَّة عن وازعٍ ديني. فهو مستقيم على جادَّة الشرع غير منحرف عنها يمينا أو شمالاً.

تقوُّم العدالة بالوازع الديني:

إلا أنَّ الصحيح أنَّ مثل هذا الرجل لا يعدُّ -عرفاً- عادلاً شرعاً، لأنَّ فعله للواجبات وتركه للمحرَّمات لم ينشأ عن تديُّنٍ والتزامٍ بضوابط الشرع، فشأنُه شأنُ المُقعَد في داره العاجز عن ارتكاب الجرائم والمخالفات القانونيَّة، فمثله لا يُقال عنه أنَّه مستقيم ومتقيِّد بضوابط القانون، نعم لا يُقال لمثله أنَّه مخالفٌ للقانون ولكنَّه ليس ممَّن يصحُّ وصفُه بالاستقامة على طريق القانون، كذلك هو الشأنُ فيمَن ترك المحرَّمات غير العبادية عجزاً أو لعدم المقتضي لها في نفسه، وفعل الواجبات لمناسبتها لرغبته فإنَّه لا يكون منحرفاً عن ضوابط الشرع فلا يعدُّ فاسقاً ولكنَّه لا يُعدُّ عرفاً مستقيماً على جادَّة الشرع ومنضبطاً بضوابطه، فلا يصحُّ وصفُه عرفاً بالعادل شرعاً، وذلك لأنَّه لم يفعل الواجبات ويترك المحرَّمات عن وازع شرعي.

فالمتحصَّل أنَّ المتفاهم عرفاً من العدالة المضافة للشرع تعني الانضباط والاستقامة على جادة الشرع عن باعث ووازع شرعي كرجاء الثواب على فعل الواجبات وخوف العقاب من فعل المحرَّمات، أما من يترك المحرمات لعجز بحيث لو فرض انتفاء العجز لم يمتنع من ارتكابها أو يفعل الواجبات لمناسبتها لمصلحته ورغبته بحيث لو انتفت المصلحة لم يكن ثمة ما يمنع من تركها فمثله لا يعُدًّ عرفاً مستقيماً على جادَّة الشرع.

فالاستقامة على جادَّة الشرع لا تصدقُ عرفاً إلا في فرض كون صدور الواجبات وترك المحرمات عن وازعٍ شرعي، فإذا كان المقصود من الملكة في التعريف الأول هو هذا الوازع الديني والشرعي فهو صحيح، إلا أنَّه لا يصحُّ التعريف للعدالة بأنَّها الملكة وإنَّما هو الالتزام العملي الناشئ عن الملكة، فالملكة، هي الباعثُ على الاستقامة، فالعدالة هي الاستقامة المُنبَعِثة عن الملكة.

هذا لو كان المراد من الملكة هو الوازع الديني في النفس فإنَّه معتبَرٌ دون ريبٍ في صدق العدالة عرفاً، وأمَّا لو كان المراد من الملكة صفةً نفسانيَّة راسخة بنحو تمنعُ من ارتكاب المحرَّمات وترك الواجبات إلا في حالاتٍ نادرة تكون فيها المغريات شديدة وغير قابلة للمقاومة عادة، فمثل هذا المستوى من الملكة غيرُ معتبرٍ ظاهراً في صدق العدالة الشرعيَّة، نعم يُعتبر في العدالة أنْ تكون الاستقامة ناشئة عن وازع ديني يمنع من ترك الواجبات وارتكاب المحرَّمات في الحالات الاعتياديَّة التي لا يصل المقتضي فيها للمعصية مستوىً لا يقاومه إلا الخواص.

تقوُّم العدالة بالاستمرار على التقيُّد بالتكاليف:

وممَّا ذكرناه يتبيَّن أنَّ العدالة لا تتحقَّق إلا مع الاستمرار على فعل الواجبات وترك المحرَّمات فلا يصدق وصف العدالة على مَن يلتزم بالتكاليف الإلزاميَّة في وقتٍ دون آخر فإنَّ مثله لا يعدُّ مستقيماً على جادَّة الشرع، وكذلك يعتبر في تحقُّق العدالة الالتزام بكافة التكاليف الإلزاميَّة، إذ لا تصدق الاستقامة على جادة الشرع لو كان مستقيماً بالإضافة إلى بعض التكاليف دون البعض الآخر. نعم لا يضرُّ بصدق الاستقامة ارتكاب معصيةٍ اتفاقاً وعلى خلاف العادة مع المبادرة إلى الندم والتوبة الصادقة، فهو وإنْ كان حين ارتكابه للذنب يُصبحُ فاسقاً منحرفاً عن جادَّة الشرع ولكنَّه يُصبحُ عادلاً بمجرَّد التوبة الصادقة إذا كان الذنب اتفاقياً وعلى خلاف سيرته الجارية. فالاستمرار على الاستقامة وإن كان دخيلاً في تحقُّق العدالة ولكنَّه الاستمرار المتعارف وليس الخارق للعادة كما أفاد السيد الخوئي رحمه الله(3).

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

6 / شعبان / 1445هـ

17 / فبراير / 2024م

-----------------------------

1- التنقيح في شرح العروة الوثقى -السيد الخوئي- ج1 / ص211.

2- سورة النساء / 129.

3- التنقيح في شرح العروة الوثقى -السيد الخوئي- ج1 / ص216.