منافيات المروءة هل تقدح في العدالة

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

يذكر بعض الفقهاء أنَّ فعل ما ينافي المروءة قادح في العدالة، فما هو المراد من منافيات المروءة وما هو الوجه في قدحها في العدالة؟

الجواب:

الضابط في تحديد منافيات المروءة:

المراد من فعل ما يُنافي المروءة هو ارتكاب الأفعال المعدَّة لدى العرف عيباً ومنقصة ولكنَّها ليست محرَّمةً شرعاً، وذلك بأنْ يخرج الرجل ذي الشأن بين الناس بثياب لا تستر سوى عورته أو يلبس ما لا يناسب مثله لدى العرف أو يجلس في الطرقات أو المحافل التي لا يليق بنظر العرف لمثله الجلوس فيها أو ارتيادها.

فالضابط في منافيات المروءة هو كلُّ فعلٍ يُعدُّ ارتكابه عيباً ومنقصةً لدى العرف، ومقتضى ذلك أنَّ ما يُنافي المروءة يتفاوت بتفاوت الأشخاص، ويتفاوت بتفاوت الظروف وتفاوت الأعراف، فقد يُعدُّ الفعل عيباً ومنقصة بالإضافة إلى شخصٍ ولكنَّه لا يكون كذلك بالإضافة إلى شخصٍ آخر، فخروج العالم الكبير المتقدِّم في السنِّ حاسرَ الرأس مثلاً قد يكون منافياً للمروءة بالنسبة إليه لكنَّه لا يكون كذلك بالنسبة للشاب من عامَّة الناس، وهكذا قد يعدُّ الجلوس على قارعة الطريق منقصة في سائر الأيام ولكنَّه لا قد لا يكون كذلك في أيام الحرب أو في موسم عاشوراء أثناء سير الموكب، وهكذا فإنَّ ركوب المرأة على الحمار- مثلاً- لقضاء حوائجها قد لا يُعدُّ منقصة في بعض الأعراف والبلدان لكنَّه يُعدُّ منقصةً في أعرافٍ أخرى، فلابدَّ من ملاحظة تمام الحيثيات الدخيلة في عدِّ الفعل عيباً ومنافياً للمروءة.

وعلى أيِّ تقدير فإنَّ مرتكب ما يُنافي المروءة لا يُعدُّ فاسقاً لافتراض أنَّ ما ارتكبه ليس حراماً شرعاً، نعم ثمة بعض المنافيات يُعدُّ ارتكابها هتكاً لحرمة النفس فتكون محرَّمة لذلك، وهذا الفرض خارج عن موضوع البحث، فإنَّ موضوع البحث هو فعل ما يُنافي المروءة دون أن يكون محرَّماً شرعاً، فهل ارتكاب ما يُنافي المروءة يقدحُ في العدالة بنحوٍ يكون موجباً لسلب صفة العدالة لواجدها وموجباً للمنع من حصولها لفاقدها؟

ما استُدلَّ به على قدح منافيات المروءة في العدالة:

ذهب جمع من الأعلام إلى أنَّ ارتكاب منافيات المروءة يقدح في العدالة، واستدلُّوا لذلك بعددٍ من الوجوه:

الوجه الأول: الاستدلال بمثل صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال: "ثلاثٌ مَن كنَّ فيه أوجبت له أربعاً على الناس: مَن إذا حدَّثهم لم يكذبْهم، وإذا وعدهم لم يُخلفْهم، وإذا خالَطهم لم يظلمْهم: وجب أنْ يُظهروا في الناس عدالته، وتظهر فيهم مروءته وأن تحرم عليهم غيبتُه، وأن تجبَ عليهم اخوتُه"(1).

وموثقة سَمَاعَةَ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: قَالَ: "مَنْ عَامَلَ النَّاسَ فَلَمْ يَظْلِمْهُمْ وحَدَّثَهُمْ فَلَمْ يَكْذِبْهُمْ ووَعَدَهُمْ فَلَمْ يُخْلِفْهُمْ كَانَ مِمَّنْ حُرِّمَتْ غِيبَتُه وكَمَلَتْ مُرُوءَتُه وظَهَرَ عَدْلُه ووَجَبَتْ أُخُوَّتُه"(2)

وتقريب الاستدلال بالروايتين هو أنَّها علَّقت ظهور عدالة الرجل على عدم خُلفه للوعد رغم أنَّ خُلف الوعد ليس محرَّماً إجماعاً، نعم هو منافٍ للمروءة، وهو ما يدلُّ بمقتضى مفهوم الشرط على أنَّ العدالة منوطة بعدم ارتكاب ما ينافي المروءة، فتكون العدالة منتفية بفعل ما يُنافي المروءة وهو خلف الوعد.

وبتعبير آخر: هو أنَّ الظاهر من الرواية هو تعليق الجزاءات الأربع على الخصال الثلاث، بمعنى أنَّ ظاهر الرواية هو أنَّ مَن كان واجداً للخصال الثلاث مجتمعةُ حُكم بعدالته، ومروءته، وحرمة غيبته، ووجوب أخوَّته، وعليه فيكفي لانتفاء الجزاءات الأربع خلوُّ الرجل من أحد الخصال الثلاث والتي منها خُلف الوعد، فمفاد الرواية أنَّ مَن يُخلف الوعد لا يكون عدلاً وإنْ لم يكن يكذب حين يُحدِّث ولم يكن يظلم حين يُعامل، فإنَّه يكفي للحكم بعدم عدالته خلوُّه من صفة الوفاء بالوعد. وهو ما يدلُّ على أنَّ العدالة منوطة بشرطٍ زائد على الالتزام بضوابط الدين، هذا الشرط هو عدم الخُلف للوعد والذي هو ليس من المحرَّمات وإنَّما هو مِن منافيات المروءة.

وأُجيب عن ذلك بأنَّ الاستدلال بالروايتين مبتنٍ على أنَّ خُلف الوعد ليس محرَّماً شرعاً، فلا يتمُّ الاستدلال بالروايتين بناءً على حرمته بل قد يُقال إنَّ الروايتين تصلحان للدلالة على حرمة خُلف الوعد. هذا أولاً.

وثانياً: لو سلَّمنا بعدم حرمة خُلف الوعد فإن ذلك لا يُنتج صحَّة الاستدلال بالرواية على قدح منافيات المروءة في العدالة، فإنَّ مفروض الرواية -ظاهراً- هو مَن كان ديدنُه خُلف الوعد كما هو المستفاد من قوله: "ثلاثٌ مَن كنَّ فيه" فإنَّ المستظهر من هذا التعبير أنَّها خصال ثلاث لازمة له ومعروف بها، فخُلف الوعد المقتضي لانتفاء العدالة بمقتضى مفهوم الشرط في الرواية هو خُلف الوعد الذي يكون بمثابة السجيَّة للرجل، ومن الواضح أنَّ مَن كان خُلف الوعد سجيتَه وديدنَه فإنَّه مقيمٌ على محرَّم، إذ أنَّ اعتياد خُلف الوعد هتكٌ لحرمة النفس، وهتكُ حرمة النفس حرام كهتك حرمة الغير من المؤمنين، وعليه فالرواية أجنبيَّة عن موضوع البحث وهو ارتكاب منافيات المروءة التي لا تكون محرَّمة شرعاً.

الوجه الثاني: ما أفاده بعض الأعلام لإثبات قدح منافيات المروءة في العدالة هو أنَّ ارتكاب ما يُنافي المروءة يكشف عن قلَّة الحياء من الناس وعن عدم المبالاة من اجتراح النقائص العرفيَّة، ومَن كان كذلك فإنَّه لا يستحي من الله جلَّ وعلا، فعدم المبالاة بالعرف من ارتكاب ما يوجب التنقُّص والازدراء يكشف عن عدم المبالاة بالحدود والضوابط الشرعيَّة.

إلا أنَّ هذا الوجه لا يتمُّ -كما أفاد السيد الخوئي(3)- فإنَّه لا ملازمة بين الجرأة وعدم المبالاة بالأعراف وبين الجرأة على التجاوز لحدود الله تعالى، فقد يتجاسرُ الإنسان على تجاوز الأعراف والتمرُّد عليها ولكنَّه مؤمنٌ يخشى الله تعالى فيحجزه ذلك عن الذنب أو الإصرار عليه.

الوجه الثالث: ما ورد في معتبرة عبد الله بن أبي يعفور قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): بِمَ تُعرف عدالةُ الرجل بين المسلمين حتى تُقبل شهادته لهم وعليهم؟ فقال: أنْ تعرفوه بالستر والعفاف .. والدلالةُ على ذلك كلِّه أنْ يكون ساترا لجميع عيوبه، حتى يحرمُ على المسلمين ما وراءَ ذلك من عثراتِه وعيوبِه وتفتيش ما وراء ذلك .."(4).

وتقريبُ الاستدلال بالرواية هو أنَّ الإمام (ع) أفاد بأنَّ الأمارة الكاشفة عن وجدان الرجل لصفة العدالة هو أنْ يكون ساتراً لجميع عيوبه، ومن الواضح أنَّ المرتكب لمنافيات المروءة لا يكون ساتراً لعيوبه، وذلك لأنَّ منافيات المروءة من العيوب، والمستظهر من الرواية هو إرادة الأعمِّ من العيوب الشرعيَّة والعيوب العرفيَّة، فإنَّ ذلك هو ما يقتضيه إطلاق قوله (ع): "والدلالةُ على ذلك كلِّه أنْ يكون ساتراً لجميع عيوبه" فالمرتكِب لمنافيات المروءة ليس ساتراً لعيوبه العرفيَّة، فلا يصحُّ البناء -استناداً إلى الرواية- على وجدانه لصفة العدالة.

وأجاب السيِّد الخوئي رحمه الله(5) عن الاستدلال بالرواية بأنَّ إطلاق العيوب في الرواية وإنْ كان يقتضي الشمول للعيوب العرفيَّة إلا أنَّ مناسبات الحكم والموضوع وكون المتكلِّم هو الإمام (ع) يمنع من استظهار إرادة العيوب العرفيَّة، فالإمام (ع) بصفته مبيِّناً لأحكام الشرع يكون كلامه ظاهراً في إرادة العيوب التي تُعدُّ عيوباً لدى الشارع، وأما العيوب التي لا تُعدُّ عيباً لدى الشارع فإنَّ الإمام (ع) غير معنيٍّ بالتصدي لبيانها، ولذلك تكونُ الملاحظة لكون المُستعمِل لكلمة العيوب هو الإمام (ع) موجباً لانصراف كلمة العيوب إلى خصوص العيوب المعدَّة عيباً لدى الشارع، فكون المستعمل لكلمة العيوب هو الإمام (ع) يكون بمثابة القرينة المتَّصلة على إرادة العيوب الشرعيَّة من كلمة العيوب.

إلا أنَّ الظاهر أنَّ ما أفاده السيِّد الخوئي رحمه الله يتمُّ في مثل العيوب الصحيَّة كالعرج أو العيوب عند أرباب العمل كالكسل أو عدم الاتقان، فإنَّ استعمال الإمام (ع) لكلمة العيوب تكون منصرفة عن مثل هذه العيوب المناسبة لمثل الأطباء والفلاحين والحرفيين، وأمَّا العيوب المتَّصلة بالأخلاق والفضائل والرذائل ومحاسن الصفات ومساوئها فإنَّها من صلب اهتمامات الإمام (ع) في المتفاهم العرفي، ولذلك لا ينصرفُ معنى العيوب عن مثلها حين يكون المُستعمِل لكلمة العيوب مثل الإمام (ع) أو عالم الدين، على أنَّ جميع منافيات المروءة بالضابط المذكور تُعدُّ من المرجوحات الشرعيَّة وإن لم تكن محرَّمة، فالعيوب في استعمال الشارع لا تختصُّ بالمحرَّمات .

وعليه فلا يبعد أنَّ فعل ما ينافي المروءة قادحٌ في العدالة نعم تعود العادلة لواجدها بالإقلاع عنها.

والحمد لله ربِّ العالين

 

الشيخ محمد صنقور

14 شعبان 1445ه

25 فبراير 2024م

----------------------------

1- الخصال -الصدوق- ص208، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص396.

2- الكافي -الكليني- ج2 / ص239، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج8 / ص316.

3- التنقيح في شرح العروة الوثقى -السيد الخوئي- ج1 / ص234.

4- من لا يحضره الفقيه -الصدوق- ج3 / ص38، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص391.

5- التنقيح في شرح العروة الوثقى -السيد الخوئي- ج1 / ص234.