استبراء المَزني بها إذا أراد الزاني الزواج منها  

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

إذا زنا رجل بامرأة ثم أراد التزوج منها هل يجب استبراؤها من الزنا أو يصحُّ الزواج منها قبل الاستبراء؟

الجواب:

ذهب جماعة من الفقهاء -كما أفاد صاحب الرياض (1)- إلى أنَّه يجب على الزاني إذا أراد الزواج ممَّن زنا بها أنْ يستبرأها بحيضةٍ قبل أنْ يتزوَّجها، ويمكن الاستدلال على ذلك بما رواه الشيخ الطوسي في التهذيب بسنده عن أحمد بن محمد بن عيسى عن إسحاق بن جرير عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قلتُ له الرجلُ يفجرُ بالمرأة ثم يبدو له في تزويجها هل يحلُّ له ذلك ؟ قال: نعم إذا هو اجتنبَها حتَّى تنقضيَ عدَّتُها باستبراء رحمِها مِن ماءِ الفجور، فلَهُ أنْ يتزوَّجها"(2)

والرواية من حيث السند موثقة ، فإنَّ طريق الشيخ  الطوسي رحمه الله إلى أحمد بن محمد بن عيسى صحيح، وإسحاق بن جرير ثقةٌ، وثَّقه النجاشي رحمه الله وكذلك الشيخ المفيد في رسالته العددية، نعم أورد الشيخ الكليني الرواية ذاتها عن مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: قُلْتُ لَه: الرَّجُلُ يَفْجُرُ بِالْمَرْأَةِ ثُمَّ يَبْدُو لَه فِي تَزْوِيجِهَا هَلْ يَحِلُّ لَه ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا هُوَ اجْتَنَبَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا بِاسْتِبْرَاءِ رَحِمِهَا مِنْ مَاءِ الْفُجُورِ فَلَه أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وإِنَّمَا يَجُوزُ لَه أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ أَنْ يَقِفَ عَلَى تَوْبَتِهَا"(3)

فالرواية من طريق الكليني مرسلة لكنَّ ذلك لا يضرُّ بحجيَّتها، وذلك لصحَّة سندها من طريق الشيخ الطوسي في التهذيب، فالرواية صالحة للاستناد إليها في البناءِ على وجوب استبراء الزاني لمَن زنا بها إذا أراد التزوَّج منها.

نعم وردت عدَّة من الروايات مفادها نفي البأس عن زواج الزاني بمَن زنا بها دون أن تشتمل على الأمر بالاستبراء

منها: صحيحة عُبَيْدِ اللَّه بْنِ عَلِيٍّ الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: أَيُّمَا رَجُلٍ فَجَرَ بِامْرَأَةٍ ثُمَّ بَدَا لَه أَنْ يَتَزَوَّجَهَا حَلَالاً ؟ قَالَ: "أَوَّلُه سِفَاحٌ وآخِرُه نِكَاحٌ ومَثَلُه مَثَلُ النَّخْلَةِ أَصَابَ الرَّجُلُ مِنْ ثَمَرِهَا حَرَاماً ثُمَّ اشْتَرَاهَا بَعْدُ فَكَانَتْ لَه حَلَالًا"(4)

ومنها: رواية أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: سَأَلْتُه عَنْ رَجُلٍ فَجَرَ بِامْرَأَةٍ ثُمَّ بَدَا لَه أَنْ يَتَزَوَّجَهَا؟ فَقَالَ: حَلَالٌ، أَوَّلُه سِفَاحٌ وآخِرُه نِكَاحٌ، أَوَّلُه حَرَامٌ وآخِرُه حَلَالٌ"(5)

فمقتضى إطلاق هاتين الروايتين هو جواز تزوُّج الزاني من المزني بها دون استبرائها إلا أنَّ ظهور الروايتين في الإطلاق لو تمَّ فإنَّ موثَّقة إسحاق بن جرير صالحةٌ لتقييده بمعنى أنَّ مقتضى الجمع العرفي بين الروايتين وبين موثقة إسحاق هو تقييد الجواز بالاستبراء. فموثقة إسحاق غير منافية للروايتين وإنَّما أضافت قيداً لم تتصدَّ الروايتان لذكره. لذلك يتعيَّن الأخذُ بمقتضاه.

وبتعبير آخر: إنَّ نفي وجوب الاستبراء إنَّما استُفيد من الظهور البدوي للروايتين في الإطلاق، ولهذا يتعيَّن رفع اليد عن هذا الظهور بصراحة أو أظهرية الموثَّقة في وجوب الاستبراء فتُحمل الروايتان على الموثقة لقاعدة حمل الظاهر على الأظهر أي أنَّ الموثقة تكشفُ عن عدم الإرادة الجدِّية للإطلاق المقتضي لنفي وجوب الاستبراء.

نعم الحكم بوجوب الاستبراء من المزني بها مختصٌ – بحسب الموثَّقة – بما إذا أراد الزاني نفسُه الزواج من المزني بها فذلك هو مفروض السؤال والجواب في الموثقة، ولعلَّ منشأ وجوب الاستبراء – كما أفاد السيد الخوئي(6)- هو التثبُّت من أنَّ الولد المتخلِّق بعد الزواج شرعي، إذ أنَّه لو تزوَّجها قبل الاستبراء لكان من المحتمل أنَّ الولد الذي أنجبته بعد الزواج قد تخلَّق من مائه قبل الزواج أي من الزنا وهذا بخلاف ما لو استبرأها قبل الزواج وتثبَّت من خلو رحمها فإنَّها لو حملت بعد الزواج فإنَّ من المُحرَز هو شرعيَّة هذا الحمل وأنَّه قد تخلَّق من مائه بالنكاح الشرعي.

فالولد في كلا الفرضين قد تخلَّق من مائه إلا أنَّه مع الاستبراء يكون من المُحرز تولُّده من الحلال، إذ أنَّه قد استبرأ رحمها قبل الزواج فتبيَّن خلوُّه من الحمل، فيتعين وقوع الحمل بعد الزواج ، ولهذا فشرعيَّته مُحرزة، وأمَّا مع عدم الاستبراء فإنَّ الولد يكون مردَّداً، فقد يكون من الحرام لاحتمال أنَّ تخلُّقه قد وقع من وطئه لها قبل الزواج أي من الزنا، فلكي يتمَّ التثبتُ من شرعية الولد جاء الأمر في الموثقة بالاستبراء قبل الزواج.

ومن ذلك يتَّضح- كما أفاد السيد الخوئي (7)- أنَّه لو فُرض تبيُّن حملها من الزنا فإنَّه لا يجب الاستبراء لو أراد الزاني الزواج منها، فالاستبراء إنَّما هو لنفي التردُّد في شرعية الولد وعدم شرعيته، فإذا كان الفرض هو تبيُّن الحمل قبل الزواج فالولد قد تخلَّق من الزنا قطعاً، ولهذا لا معنى للاستبراء، فسواءً تزوَّجها أو لم يتزوج بها فالولد غيرُ شرعيٍّ .

ويُؤيد ذلك ما رواه مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ قَالَ: كَتَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا كِتَاباً إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ الثَّانِي (ع) مَعِي يَسْأَلُه عَنْ رَجُلٍ فَجَرَ بِامْرَأَةٍ ثُمَّ إِنَّه تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْحَمْلِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ وهُوَ أَشْبَه خَلْقِ اللَّه بِه، فَكَتَبَ بِخَطِّه وخَاتَمِه: الْوَلَدُ لِغَيَّةٍ لَا يُورَثُ" (8)   

والحمد لله ربِّ العالمين

الشيخ محمد صنقور

16 شوال 1445ه

25 أبريل 2024م  

----------------------

1- رياض المسائل-السيد علي الطباطبائي- ج11/ 114.

2-تهذيب الأحكام- الطوسي- ج7/ 327.

3- الكافي – الكليني- ج5/ 356.

4- الكافي – الكليني- ج5/ 356، وسائل الشيعة- الحر العاملي- ج20/ 434.

5- الكافي – الكليني- ج5/ 356، وسائل الشيعة- الحر العاملي- ج20/ 433.

6- مباني في شرح العروة الوثقى - السيد الخوئي- ج32/ 225

7- مباني في شرح العروة الوثقى - السيد الخوئي- ج32/ 225

8-الكافي – الكليني- ج7/ 163، وسائل الشيعة- الحر العاملي- ج21/ 498.