الوظيفة لو أنكر المدَّعى عليه الدعوى الماليَّة
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
لو ادَّعى أحدٌ عند القاضي على آخر مالاً فأنكر المدَّعى عليه الدعوى ولم تكن للمدَّعي بيِّنةٌ على دعواه، فما هي الوظيفة في هذا الفرض؟
الجواب:
فرض إقرار المدعى عليه بالدعوى:
لو ادَّعى أحدٌ على آخر مالاً فتارة يُقِرُّ المدَّعى عليه بالدعوى وأنَّ للمدَّعي مالاً عليه في عهدته، وفي مثل هذا الفرض يتعيَّن على القاضي إثبات الدعوى على المدَّعى عليه، وذلك لافتراض إقراره بالدعوى وأنَّ ذمَّته مشغولة بالمال للمدَّعي، ومنشأ البناء على ثبوت الدعوى هو أنَّ الإقرار حجَّةٌ على المقرِّ لقاعدة أنَّ إقرار العقلاء على أنفسهم جائز أي نافذ لقيام السيرة العقلائية القطعيَّة الممضاة على حجيَّة إقرار العقلاء على أنفسِهم، هذا مضافاً -كما أفاد السيد الخوئي(1)- إلى الروايات المتفرِّقة في أبواب الفقه مثل باب القضاء والحدود والوصية والعتق وغيرها حيث إنَّ مقتضاها حجيَّة الإقرار وأنَّه من وسائل الإثبات بل هو من أقوى وسائل الإثبات.
فرض الانكار للدعوى:
والفرض الثاني هو ما لو أنكر المدَّعى عليه دعوى المدَّعي ونفى بنحو الجزم أنَّ عليه للمدَّعي مالاً، وهنا يتعيَّن على المدَّعي لإثبات دعواه إقامة البيِّنة، فإنْ أقامها ثبتت دعواه وصار على المدَّعى عليه لزوم الأداء للمال الذي ثبت عليه بالدعوى. وذلك لما نصَّت عليه الروايات المستفيضة من أنَّ الدعوى تثبت بالبيِّنة، فمن ذلك صحيحة جميل وهشام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): البيِّنة على من ادَّعى، واليمينُ على مَن ادُّعي عليه"(2).
ومنها: صحيحة بريد بن معاوية عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألتُه عن القسامة؟ فقال: "الحقوق كلُّها، البينة على المدَّعي، واليمينُ على المدَّعى عليه، إلا في الدم خاصَّة(3).
سقوط الدعوى بيمين المنكر وحرمة التقاص:
هذا لو أقام المدَّعي البيِّنة الشرعيَّة على صدق دعواه، أمَّا إذا لم تكن لديه بيِّنة على دعواه فإنَّ له أنْ يطلب إحلاف المُنكِر على أنَّه ليس عليه مال للمدَّعي فإنْ حلف حكم القاضي بسقوط دعوى المدَّعي، وحينئذٍ ليس للمدَّعي إقامة الدعوى مرَّة أخرى أو لدى قاضٍ آخر، وكذلك ليس له التَّقاصُّ من مال المدَّعى عليه لو أتيح له ذلك حتى لو كان يعلم أنَّ المدَّعى عليه قد حلف كذباً وأنَّ الواقع هو أنَّ له مالاً في عُهدته، فلأنَّه قد قَبِل بإحلافه فحلف، لذلك تسقطُ دعواه ويسقطُ حقُّه في التقاصِّ، نعم لو لم يقبل بإحلافه وطلب تأجيل البتِّ في الدعوى لعلَّه يتمكن من إقامة البيِّنة أو يتمكَّن من إقناع المدَّعى عليه بالإقرار فإنَّ دعواه في هذا الفرض لا تسقط وإنَّما يتمُّ التعليقُ لها إلى أن يتمكَّن من إقامة البينة أو إقناع المنكر بالإقرار.
ويدلُّ على ذلك مثل موثقة ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: إِذَا رَضِيَ صَاحِبُ الْحَقِّ بِيَمِينِ الْمُنْكِرِ لِحَقِّه فَاسْتَحْلَفَه فَحَلَفَ أَنْ لَا حَقَّ لَه قِبَلَه ذَهَبَتِ الْيَمِينُ بِحَقِّ الْمُدَّعِي، فَلَا دَعْوَى لَه، قُلْتُ لَه: وإِنْ كَانَتْ عَلَيْه بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ وإِنْ أَقَامَ بَعْدَ مَا اسْتَحْلَفَه بِاللَّه خَمْسِينَ قَسَامَةً مَا كَانَ لَه وكَانَتِ الْيَمِينُ قَدْ أَبْطَلَتْ كُلَّ مَا ادَّعَاه قَبْلَه مِمَّا قَدِ اسْتَحْلَفَه عَلَيْه"(4).
وكذلك معتبرة خَضِرِ بْنِ عَمْرٍو النَّخَعِيِّ قَالَ: قَالَ أَحَدُهُمَا (ع) فِي الرَّجُلِ يَكُونُ لَه عَلَى رَجُلٍ مَالٌ فَيَجْحَدُه؟ قَالَ: إِنِ اسْتَحْلَفَه فَلَيْسَ لَه أَنْ يَأْخُذَ مِنْه بَعْدَ الْيَمِينِ شَيْئاً وإِنْ تَرَكَه ولَمْ يَسْتَحْلِفْه فَهُوَ عَلَى حَقِّه"(5).
وصحيحة سليمان بن خالد قال: "سألتُ أبا عبد الله عليه السلام عن رجلٍ وقع لي عنده مال فكابرني عليه وحلف، ثم وقع له عندي مال أفآخذُه مكان مالي الذي أخذه وأحلف عليه كما صنع هو؟ فقال: إنْ خانك فلا تخنْه، ولا تدخلْ فيما عِبته عليه"(6).
إلا أنَّه في مقابل صحيحة سليمان بن خالد ورد في معتبرة أبي بكر الحضرمي قال: قلتُ له: رجلٌ لي عليه دراهم فجحدني وحلفَ عليها أيجوزُ لي إنْ وقع له قِبلي دراهم أنْ آخذ منه بقدر حقِّي؟ قال فقال: نعم، ولكن لهذا كلام قلتُ وما هو؟ قال: تقول: "اللهم لم آخذُه ظلماً ولا خيانة وإنَّما أخذتُه مكان مالي الذي أخذ مني لم ازدد شيئا عليه"(8).
فصحيحة سليمان تنهى عن المقاصَّة في فرض الحلف، وتصف المقاصَّة في هذا الفرض بالخيانة، وأمَّا معتبرة أبي بكر الحضرمي فتُجيز المقاصَّة حتى في فرض الحلف وتنفي بمقتضى الذيل كون المقاصَّة في هذا الفرض ظلماً وخيانة، والظاهر -كما أفاد السيد الخوئي(9)- هو تعيُّن حمل صحيحة سليمان على فرض كون الحلف من المنكر قد وقع بعد طلب صاحب الحق (المدَّعي) وحمل معتبرة أبي بكر الحضرمي على أنَّ الحلف مِن المنكر قد وقع منه تبرُّعاً ودون طلب من صاحب الحقِّ، وشاهد هذا الجمع بين الروايتين هو موثقة ابن أبي يعفور الواضحة في أنَّ الاستحلاف وقع في مجلس القضاء وبطلب من المدَّعي ولهذا تحمل معتبرة أبي بكر على ما لو تبرَّع المنكر في باليمين دون أن يطلب منه ذلك.
إذا كذب المنكر نفسه بعد حلفه:
وبهذا يثبت أنَّه ليس للمدَّعي المقاصَّة من مال المنكر إذا كان قد استحلفه فحلف، نعم لو فُرض أنَّ المنكِر عاد فكذَّب نفسه وأقرَّ أنَّه قد كذب في يمينه فإنَّ لصاحب الحقِّ حينئذٍ مطالبته بحقِّه، وذلك لوضوح بطلان أثر اليمين بعد الإقرار بكذبها وأنَّ ما أفادته الروايات من سقوط حقِّ المدعي في المقاصَّة وأنَّ يمين المُنكِر تذهب بحقِّ المدَّعي منصرفٌ إلى فرض عدم تكذيب المنكِر لنفسه.
ويدلُّ على ذلك مضافاً إلى ما تقدم معتبرة مسمع أبي سيَّار قال: قلتُ لأبي عبد الله عليه السلام: "إنِّي كنت استودعتُ رجلاً مالاً فجحدنيه وحلفَ لي عليه ثم إنَّه جاءني بعد ذلك بسنتين بالمال الذي أودعتُه إيَّاه فقال: هذا مالُك فخذْه، وهذه أربعةُ آلاف درهم ربحتُها، فهي لك مع مالك واجعلني في حلٍّ فأخذتُ منه المال وأبيتُ أنْ آخذ الربح منه ووقفتُ المال الذي كنتُ استودعتُه وأبيتُ أخذَه حتى أستطلعَ رأيَك، فما ترى؟ فقال: خُذْ نصفَ الربح وأعطِه النصف وحلِّله، فإنَّ هذا رجلٌ تائب، واللهُ يحبُّ التوابين"(10).
فهذه الرواية صريحة في استحقاق المدَّعي للمال الذي ادَّعاه رغم أن المدَّعى عليه كان قد حلف على إنكاره إلا أنَّه حيث كذَّب نفسه فإنَّ حلفه السابق على الانكار قد بطل أثره.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
21 / شوال / 1445ه
30 / أبريل / 2024م
1- مباني تكملة المنهاج -السيد الخوئي- ج41 / ص16.
2- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص233.
3- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص233.
4- الكافي -الكليني- ج7 / ص417، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص245.
5- الكافي -الكليني- ج5 / ص101، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج23 / ص286.
6- من لا يحضره الفقيه -الصدوق- ج3 / ص185، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج17 / ص274.
8- تهذيب الأحكام -الطوسي- ج6 / ص348.
9- مباني تكملة المنهاج -السيد الخوئي- ج41 / ص17.
10- من لا يحضره الفقيه -الصدوق- ج3 / ص305، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج19 / ص89.