علم القاضي بتورية الحالف في حلفه
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
إذا حلف مَن وظيفته اليمين في محضر القاضي وعلم القاضي أنَّ الحالف قد ورَّى في حلفه فقصد منه أمراً غير الأمر المطلوب منه الحلف على إثباته أو إنكاره فهل يصحُّ للقاضي ترتيب الأثر على حلفه؟
الجواب:
اختلف الأعلام في ذلك فذهب جماعة(1) إلى كفاية تلفُّظ المطلوب منه الحلف بالحلف بقطع النظر عمَّا انعقد عليه ضميره فإنَّ المدار في ترتُّب الأثر على الحلف هو نيَّة المُستحلِف وهو القاضي أو الخصم، فالقاضي مثلاً حين طلب مِن المنكر الحلف قصد إحلافه على إنكار الدعوى فإذا استجاب المنكر وحلف فإنَّ الأثر يترتَّبُ على حلفه وإنْ كان لم يقصد الحالفُ الحلفَ على الأمر الذي طلب منه القاضي الحلفَ على إنكاره، فما دلَّ -مثلاً- على أنَّ وظيفة المنكِر اليمين لا يقتضي أكثر تلفُّظ المنكر باليمين، فإذا فعل ذلك فقد أتى بالوظيفة المنوطةِ به وعلى القاضي ترتيبِ الأثر على ذلك.
إلا أنَّ هذا الكلام لا يصحُّ ظاهراً فإنَّ المطلوب من الحالف ليس هو التلفُّظ بالحلف وحسب بل المطلوب هو الحلف على مورد الخصومة، فمع العلم أنَّه حلف على موضوعٍ آخر فهو لم يحلف على الأمر المطلوب منه وإنَّما حلفَ على أمرٍ آخر فلا يصحُّ ترتيب الأثر على حلفه، فإنَّ المستظهَر ممَّا دلَّ -مثلا- على أنَّ على المنكر اليمين هو أنَّ وظيفته الحلف على ما يُنكره وليس الحلف على شيءٍ آخر. وكذلك فإنَّ المستظهَر مما دلَّ على أن على المدَّعي اليمين إذا لم تكن له بيِّنة وطلب منه المنكر اليمين على دعواه المستظهَر من ذلك هو الحلف على الدعوى التي يدَّعيها وليس الحلف على أمرٍ آخر، فلو عُلم أنَّه حلف على أمرٍ آخر وليس على ذات الدعوى التي يدَّعيها فإنَّه لم يحلف ولهذا لا يصحُّ ترتيب الأثر بمقتضى ما هو المستظهَر من هذه الأدلة على مجرَّد تلفُّظه بالحلف الذي وقع على شأن آخر لا ربط له بمتعلَّق الدعوى التي يدَّعيها.
هذا ويُمكن أنْ يستدلَّ على ذلك -مضافاً إلى ما تقدَّم- بصحيحة صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ (ع) عَنِ الرَّجُلِ يَحْلِفُ وضَمِيرُه عَلَى غَيْرِ مَا حَلَفَ عَلَيْه؟ قَالَ: الْيَمِينُ عَلَى الضَّمِيرِ"(2) فإنَّ المستظهَر -كما أفاد السيد الخوئي(3)- من قوله (ع) "اليمينُ على الضمير" أنَّ اليمين تكون على ما انعقد عليه الضمير، فليس المدار هو التلفُّظ بالحلف وحسب بل المدار هو الحلف على ما انعقدت عليه النيَّة ، وعليه فلو حلف على غير الأمر المستحلف عليه فإنَّه لا يكون قد على ما استُحلف عليه، فيصح أن يقال في حقِّه أنَّه لم يحلف على ما هو المطلوب منه الحلف عليه، ولهذا لا موضوع لترتُّب الأثر على حلفِه.
وكذلك يمكن الاستدلال بصحيحة إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَعْدٍ الأَشْعَرِيِّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (ع) قَالَ: سَأَلْتُه عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ وضَمِيرُه عَلَى غَيْرِ مَا حَلَفَ؟ قَالَ: الْيَمِينُ عَلَى الضَّمِيرِ"(4) بذات التقريب السابق، نعم أورد الشيخ الصدوق الرواية نفسها مذيَّلة بقوله: "يعني على ضمير المظلوم"(5) ومقتضى هذه الزيادة أنَّ المدار هي نيَّة الخصم وليست نيَّة الحالف، فإذا طلب الخصم -مثلاً- من المنكر أنْ يحلف على إنكار الدَّعوى فحلف المنكر فإنَّ ذلك كافٍ وإنْ لم يقصد الحلف على ما في ضمير الخصم وإنَّما قصد الحلف على شيءٍ آخر.
إلا أنَّ الظاهر هو أنَّ هذه الزيادة من تفسير الشيخ الصدوق رحمه الله وليست من الرواية على أنَّ الرواية من طريق الشيخ الصدوق ضعيفة السند وذلك لأنَّه لم يذكر طريقه إلى إسماعيل بن سعد الاشعري. ومع البناء على صحتها -كما أفاد السيد الخوئي(6)- فإنَّ المراد منها هو ما ورد في معتبرة مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) يَقُولُ: وسُئِلَ عَمَّا يَجُوزُ وعَمَّا لَا يَجُوزُ مِنَ النِّيَّةِ عَلَى الإِضْمَارِ فِي الْيَمِينِ؟ فَقَالَ: قَدْ يَجُوزُ فِي مَوْضِعٍ ولَا يَجُوزُ فِي آخَرَ، فَأَمَّا مَا يَجُوزُ فَإِذَا كَانَ مَظْلُوماً فَمَا حَلَفَ بِه ونَوَى الْيَمِينَ فَعَلَى نِيَّتِه، وأَمَّا إِذَا كَانَ ظَالِماً فَالْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمَظْلُومِ"(7).
ومؤدَّى هذه المعتبرة هو أنَّه يجوز للخصم المظلوم أنْ يحلف على خلاف ما استحلفه عليه خصمُه الظالم، فمثلاً لو كان عليه دين وأدَّاه يقيناً إلى صاحبه إلا أنَّ صاحب الدين ادَّعى عليه ظلماً عدم الأداء، فلو أقرَّ المدَّعى عليه بأصل الدين والحال أنَّه لا يملك بيِّنة على الأداء فإنَّ المدَّعي الظالم يستطيع إثبات الدعوى عليه بمجرد الحلف كاذباً بأنَّه لم يُؤدِ الدين وهذا بخلاف ما لو أنكر المدَّعى عليه أصل الدين فإنَّه يكفي لإسقاط دعوى المدعى الحلف على عدم الاستدانة، فمفاد الرواية أنَّه يجوز للمظلوم أن يحلف على عدم الاستدانة لإسقاط دعوى الظالم وأمَّا الظالم فلا يجوز له أن يحلف على غير ما استُحلف عليه.
فمفاد الرواية أنَّه يجوز للمظلوم التورية في الحلف، وهذه القضية أجنبيَّة عن محلِّ البحث وهي أنَّ القاضي هل يصحُّ له ترتيب الأثر على حلف من استحلفه لو علم أنَّه حلف على غير ما استُحلف عليه.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
10 / ذي القعدة / 1445ه
19 / مايو / 2024م
1- العروة الوثقى -السيد اليزدي- ج6 / ص703.
2- الكافي -الكليني-ج 7 / ص444، وسائل الشيعة- الحر العاملي- ج 23 / ص246.
3- القضاء والشهادات -السيد الخوئي- ج1 / ص84.
4- الكافي -الكليني- ج7 / ص444، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج23 / ص246.
5- من لا يحضره الفقيه -الصدوق- ج3 / ص371، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج23 / ص246.
6- القضاء والشهادات -السيد الخوئي- ج1 / ص84-85.
7- الكافي -الكليني- ج7 / ص444، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج 23 / ص245.