التخيير في الركعتين الأخيرتين

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

هل التخيير بين التسبيح والقراءة ثابتٌ مطلقاً للمنفرد والإمام والمأموم؟

الجواب:

المشهور بين الفقهاء بل ادُّعي الإجماع(1) على أنَّ وظيفة المكلَّف في الركعتين الأخيرتين هي التخيير بين التسبيح والقراءة سواءً كان منفرداً أو كان إماماً أو مأموماً، نعم وقع الخلاف بينهم فيما هو الأفضل.

مستند البناء على التخيير للمنفرد:

واستُدلًّ على التخيير للمنفرد بعددٍ من الروايات:

منها: صحيحة مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) عَنِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الإِمَامِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأَخِيرَتَيْنِ؟ فَقَالَ: "الإِمَامُ يَقْرَأُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ ومَنْ خَلْفَه يُسَبِّحُ، فَإِذَا كُنْتَ وَحْدَكَ فَاقْرَأْ فِيهِمَا وإِنْ شِئْتَ فَسَبِّحْ"(2) وموضع الاستدلال بالرواية قوله (ع): "فاذا كنتَ وحدَك فاقرأ فيهما وإنْ شئتَ فسبّح".

ومنها: صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد اللَّه (عليه السلام) "قال: إذا كنتَ إماماً فاقرأ في الركعتين الأخيرتين بفاتحة الكتاب، وإنْ كنتَ وحدَك فيسعُك فعلتَ أو لم تفعل"(3) وموضع الاستدلال بالرواية هو قوله في ذيلها: "وإنْ كنتَ وحدك فيسعُك فعلتَ أو لم تفعل" يعني أنتَ في سعةٍ من جهة ترك القراءة، فيتعين عليه لو ترك القراءة اختيار التسبيح، إذ لا يسعه تركهما معاً لوضوح أنَّه مكلَّف بأحدهما.

ومنها: صحيحة عبيد بن زرارة قال: "سألتُ أبا عبد اللَّه (عليه السلام) عن الركعتين الأخيرتين من الظهر، قال: "تُسبّح وتحمد اللَّه، وتستغفر لذنبك، وإنْ شئتَ فاتحة الكتاب، فإنّها تحميدٌ ودعاء"(4).

وهذه الرواية غير مختصة بالمنفرد، فالاستدلال بها على أنَّ التخيير وظيفةٌ للمنفرد يكون بالإطلاق، كما أنَّ موردها صلاة الظهر إلا أنَّه يُمكن تتميم الاستدلال بها من طريق عدم القول بالفصل، إذ لا قائل بالتفصيل بين الظهر وسائر الفرائض.

مستند البناء على التخيير للإمام:

وأمَّا وظيفة الإمام في الركعتين الأخيرتين فمقتضى صحيحة معاوية بن عمَّار وصحيحة منصور بن حازم هو تعيُّن القراءة، فذلك هو مفاد قوله (ع) -في صحيحة معاوية بن عمار-: "الإمام يقرأ بفاتحة الكتاب .." وهو مفاد قوله (ع) في صحيحة منصور-: "إذا كنتَ إماماً فاقرأ في الركعتين الأخيرتين بفاتحة الكتاب .." إلا أنَّ مقتضى الجمع -كما أفاد السيد الخوئي(5)- بين الصحيحتين وبين صحيحة سالم ابن أبي خديجة عن أبي عبد اللَّه (عليه السلام) قال: "إذا كنت إمام قوم فعليك أنْ تقرأ في الركعتين الأولتين، وعلى الذين خلفك أنْ يقولوا: سبحان اللَّه والحمد للَّه ولا إلَه إلّا اللَّه واللَّه أكبر وهم قيام، فإذا كان في الركعتين الأخيرتين فعلى الذين خلفَك أنْ يقرؤوا فاتحة الكتاب وعلى الإمام أنْ يُسبّح مثل ما يُسبّح القوم في الركعتين الأخيرتين"(6).

مقتضى الجمع هو رفع اليد عن ظهور الصحاح الثلاث في التعيين والبناء على جواز اختيار الإمام للقراءة وجواز اختياره للتسبيح. فالصحيحتان نصٌ في مشروعيَّة القراءة وظاهرتان في وجوبها، وصحيحة سالم نصٌّ في مشروعية التسبيح وظاهرةٌ في وجوبه فنرفع اليد عن ظهور الصحيحتين في وجوب القراءة تعييناً بقرينة نصِّ صحيحة سالم في مشروعيَّة التسبيح، ونرفع اليد عن ظهور صحيحة سالم في وجوب التسبيح تعييناً بقرينة نصِّ الصحيحتين في مشروعيَّة القراءة، وهذا هو مقتضى قاعدة حمل الظاهر على النص والذي هو من مصاديق الجمع العرفي.

وعليه فلا موجب لحمل الصحيحتين على التقيَّة لموافقتهما العامة حيث إنَّهم ملتزمون بالقراءة في الأخيرتين مطلقاً، فإنَّ الحمل على التقية إنَّما يكون في فرض استحكام التعارض وعدم إمكان الجمع العرفي، وأمَّا في فرض إمكان الجمع العرفي كما في المقام فلا مساغ لحمل الصحيحتين على التقيَّة، ولهذا يتعيَّن البناء -بمقتضى الجمع العرفي- على أنَّ وظيفة الإمام في الأخيرتين هي التخيير بين القراءة والتسبيح.

وظيفة المأموم في الركعتين الأخيرتين:

وأمَّا وظيفة المأموم في الركعتين الأخيرتين فمقتضى صحيحة معاوية بن عمَّار هو تعيُّن التسبيح قال: سألتُ أبا عبد اللَّه (عليه السلام) عن القراءة خلف الإمام في الركعتين الأخيرتين‏؟ فقال: الإمام يقرأ بفاتحة الكتاب ومَن خلفه يُسبّح" فإنَّ ظاهر جواب الإمام (ع) هو تعيَّن التسبيح على المأموم، وكذلك هو الظاهر من صحيحة سالم بن أبي خديجة عن أبي عبد اللَّه (عليه السلام) حيث ورد فيها: "وعلى الإمام أنْ يُسبّح مثل ما يُسبّح القوم في الركعتين الأخيرتين" فإنَّ ظاهر الفقرة المذكورة هو المفروغيَّة عن كون وظيفة المأموم في الأخيرتين هو التسبيح.

نعم ورد في صحيحة عبد الله بن سنان أنَّ وظيفة المأموم في الركعتين الأخيرتين من الصلوات الإخفاتية هو التخيير بين القراءة والتسبيح قال: قال أبو عبد اللَّه (عليه السلام): إنْ كنتَ خلف الإمام في صلاة لا يُجهرُ فيها بالقراءة حتى يفرغ، وكان الرجل مأموناً على القرآن فلا تقرأ خلفَه في الأولتين، وقال يُجزئك التسبيح في الأخيرتين، قلتُ: أيّ شيء تقولُ أنتَ؟ قال: أقرأ فاتحة الكتاب"(7).

فإنَّ الظاهر من قوله (ع): "يُجزئك التسبيح في الأخيرتين" هو التخيير، ويُؤيده سؤال ابن سنان للإمام (ع) عمَّا يفعله، فلو كان المستظهَر من جوابه الأول تعيُّن التسبيح لم يكن معنى لسؤال الإمام (ع) عمَّا يفعله هو، فسؤال الإمام عمَّا يفعله كان لغرض التعرُّف على ما هو الأفضل التسبيح أو القراءة، فالرواية ظاهرة في التخيير كما هو واضح، نعم الظاهر من اِلتزام الإمام بالقراءة هو أنَّها أفضل الخيارين.

وعليه يكون مقتضى الجمع بين صحيحة عبد الله بن سنان وبين مثل صحيحة معاوية بن عمَّار هو أنَّ وظيفة المأموم في الركعتين الأخيرتين هو التسبيح إلا في صلاتي الظهرين فإنَّ وظيفته التخيير كما هو مقتضى صحيحة عبد الله بن سنان يعني أنَّ هذه الصحيحة يقيَّد بها مثل صحيحة معاوية بن عمَّار.

والمتحصَّل ممَّا ذكرناه أنَّ وظيفة المنفرد والإمام في الركعتين الأخيرتين هو التخيير، وكذلك هي وظيفة المأموم في الصلوات الإخفاتية، وأمَّا وظيفة المأموم في الصلوات الجهرية فهو تعيُّن التسبيح إلا أنْ يقال بحجيَّة الإجماع المدَّعى في المقام والقاضي بأنَّ وظيفة المصلِّي مطلقاً هو التخيير بين القراءة والتسبيح فإنْ تمَّ وإلا فمقتضى مثل صحيحة معاوية بن عمَّار هو تعيُّن التسبيح للمأموم في الركعتين الأخيرتين، وهو كذلك الأوفق بالإحتياط.

والحمد لله ربِّ العالمين

الشيخ محمد صنقور 

3 / جمادى الأولى / 1446ه

6 / نوفمبر / 2024م


1- جواهر الكلام -النجفي- ج9 / ص319.

2- الكافي -الكليني- ج6 / ص319، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج6 / ص108. 

3- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج6 / ص126.

4- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج6 / ص108.

5- المستند في شرح العروة الوثقى -السيد الخوئي- ج14 / ص452.

6- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج6 / ص127.

7- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج6 / ص126.