معنى قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ﴾

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

ما معنى قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(1)؟

الجواب:

مفاد الآية -إجمالاً- هو مخاطبة المؤمنين بأنْ يُعرضوا عن الكافرين وأنْ يتركوا مجازاتهم على سوء ما يصنعون، فلا يتعرَّضون لهم بالأذى مقابل ما يلقونه منهم.

فمعنى المغفرة في الآية هو الإعراض والصفح والإغضاء وترك المجازاة وعدم المقابلة لهم بالمثل، فلا يقابلون السُّباب بالسُّباب، ولا الظلم بالظلم، ولا السخرية بمثلها.

 المراد من أيام الله:

والمقصود من الذين لا يرجون أيام الله هم الكافرون والمنافقون، ولا يبعد شمولها للعصاة الفسقة الذين لا يخشون الله واليوم الآخر.

والمراد من أيام الله تعالى هي الأيام التي أوقع اللهُ تعالى فيها العذاب على الطغاة والعصاة من عباده كيوم الطوفان، واليوم الذي أغرق اللهُ فيه فرعونَ وجنوده، واليوم الذي أهلك فيه قومَ عادٍ، وقوم ثمود، واليوم الذي أهلك اللهُ تعالى فيه قومَ لوطٍ وقومَ شعيب وغيرها، وكذلك فإنَّ يوم القيامة من أيام الله التي توعَّد الله تعالى فيه العصاة والكافرين بالعذاب، فأيام الله تعالى هي الوقائع التي سلفت والتي انجز اللهُ بها وعيده بالعذاب على الكافرين والعصاة وكذلك هي الوقائع التي توعَّد الله بإيقاعها فيما يُستقبل من الزمان.

من هم الذين لا يرجون أيام الله:

فالذين لا يرجون أيام الله تعالى هم الذين لا يخشون وعيد الله ونقمته، فلا يخافون أنْ يُصيبهم ما أصاب العصاة والطغاة من عذاب الله في الحُقَب الماضية، ولا يخافون وعيده بالعذاب في الآخرة، ذلك لأنَّهم لا يؤمنون بصدق ما أنبأت عنه الأنبياء من الوقائع السالفة، ولا يُؤمنون بوعيد الله في الآخرة. فذلك هو ما ينشأ عنه عدم الخوف والخشية.

ثم إنَّ الرجاء وإنْ لم يكن مستعملاً -كما قيل- في معنى الخوف، فلا يُقال للراجي أنَّه الخائف، ولا يُقال رجوتُك بمعنى خفتك إلا أنَّه إذا كان مسبوقاً بالجحود أي كان منفياً فإنَّه يُستعمل -بحسب لغة الحجاز-(2) في معنى نفي الخوف والخشية.

كما في قول الشاعر:

 لعمرُك ما أرجو إذا كنتُ مسلماً ** على أي جنبٍ كان للهِ مصرعي(3)

يعني لا أبالي ولا أخافُ ولا أخشى أيَّ مصرعٍ وأيَّ قتلةٍ أُقتل بها ومن ذلك قوله تعالى: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾(4) أي لا تخافون ولا تخشون عظمته جلَّ وعلا.

ولعلَّ منشأ استعمال نفي الرجاء في معنى نفي الخوف والخشية أنَّ الرجاء يستبطن معنى الترقُّب والتوقُّع للشيء فالذي لا يتوقَّع المحذور فإنَّه لا يخشاه ولا يخافه.

وعلى أيِّ تقدير فإنَّ المراد من الموصوفين بالذين: ﴿لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ﴾ هم الكافرون ومَن بحكمهم، ووصفُهم بالذين لا يرجون أيام الله إمَّا أن يكون بمعنى أنَّهم لا يترقبون ولا يتوقعون أيام الله وهو ما ينتج في المآل عدم الخشية والخوف، لأنَّ الخوف من المحذور فرع الإيمان بوقوعه أو الظن بوقوعه، فيكون المراد من وصفهم بالذين لا يرجون أيام الله هو الكناية عن عدم الإيمان بوعيد الله تعالى، وإمَّا أن يكون وصفهم بالذين لا يرجون أيام الله استُعمل في المعنى الذي يستعمله عرب الحجاز وهو عدم الخوف والخشية، وبناءً عليه يكون أيضاً مؤدَّى وصفهم بذلك هو التعبير عن عدم إيمانهم بأيام الله ووعيده، فسواءً قلنا بأنَّ معنى لا يرجون هو أنَّهم لا يتوقَّعون أو قلنا بأن معنى لا يرجون هو أنَّهم لا يخافون فإنَّ النتيجة المستفادة من هذا الوصف هو أنَّهم لا يؤمنون، لأنَّ عدم التوقع ينشأ عن عدم الإيمان بل وعدم الظنِّ بالصدق، وعدم الخوف ينشأ أيضاً عن عدم الإيمان بالوعيد بل وعدم الظنِّ بصدقه، لأن العذاب يخافه العقلاء، فمتى ما آمنوا بوقوعه أو ظنَّوا بوقوعه فإنَّ الأثر الحتمي المترتِّب على ذلك هو الخوف، فعدمُ الخوف يساوق عدم الإيمان القطعي والظنِّي، فكأنَّ مفاد الآية أنَّ وعيد الله على لسان أنبيائه لم يورثهم علماً ولا ظنَّاً.

والمتحصَّل من مفاد الآية هو الأمر للمؤمنين بأنْ يكفُّوا عن الكافرين والعصاة وأنْ يُعرضوا عنهم وأن لا يتعرَّضوا لهم وأن لا يقابلوا إساءتهم بالإساءة فإنَّ الله تعالى هو مَن تكفل بمجازاتهم وإدانتهم يوم القيامة بما كانوا يكتسبونه في الدنيا من آثام. فمودَّى الآية المباركة قريبٌ من مفاد قوله تعالى: ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾(5) وقوله تعالى: ﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾(6) وقوله تعالى:﴿وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا / إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا﴾(7) فمفاد الآيات هو الأمر بالإعراض عن الكافرين ومن بحكمهم، فإنَّ الله قد تكفَّل بمجازاتهم بأسوأ ما كانوا يعملون.

وليس المراد من الآيات هو الترك لنصيحتهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ومجادلتهم بالتي هي أحسن، فإنَّ ذلك غير مرادٍ قطعاً، وإنَّما المراد من الآية وكذلك الآيات المذكورة هو الإعراض عنهم حين لا تُجدي معهم النصيحة والمجادلة بالمعروف، فمثل هؤلاء يكون المأمور به هو الإعراض عنهم وتركهم والمصير البائس الذي ينتظرهم والذي توعَّدهم الله تعالى بملاقاته.

دعوى أن الآية منسوخة بآيات القتال:

هذا وقد ذهب جمهورُ المفسِّرين(8) من أبناء العامَّة إلى أنَّ الآية منسوخةٌ، واختلفوا قي ناسخها، فقيل إنَّها نُسخت بآية السيف، وهي قوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾(9) وقيل إنَّها منسوخة بقوله تعالى:﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ﴾(10) وقيل إنَّها منسوخةٌ بقوله تعالى: ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ﴾(11) وقيل إنَّها منسوخة بقوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾(12).

مناقشة الدعوى وإثبات أنَّ الآية محكمة:

إلا أنَّ الصحيح أنَّ الآية محكمة ولا موجب للبناء على نسخها، فإنَّ الحكم بنسخ آيةٍ لأخرى يتوقَّف على إحراز أمرين الأول: هو نزول الآية المدَّعى أنَّها منسوخة قبل الآية المدَّعى أنَّها ناسخة، والأمر الثاني: إحراز التنافي بين مفاد الآيتين بحيث لا يُمكن الجمع العرفي بينهما، وكلٌّ من الأمرين غيرُ محرزٍ في المقام.

أمَّا الأمر الأول: فمِن غير المعلوم ما هو تاريخ نزول الآية أعني قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ فلعلَّها لم تنزل في مكة -كما قيل- وأنَّ نزولها وقع بعد غزوة بني المصطلق -كما رُوي ذلك(14)- فلو صحَّ أنَّ نزولَها وقع بعد غزوة بني المصطلق والتي كانت في السنة الرابعة أو الخامسة من الهجرة فإنَّها ستكون متأخِّرة نزولاً عن تاريخ نزول آيات القتال، ولا يصحُّ أنْ يكون المتقدِّم ناسخاً للمتأخر، فلأنَّ مِن غير المُحرَز تقدُّم الآية المدَّعى كونها منسوخة لذلك لا يصحُّ البناء على أنَّها منسوخة.

وأمَّا الأمر الثاني: فالآية ليست منافية لآيات القتال ليدَّعى أنَّها منسوخةٌ بها، أي أنَّه يمكن الجمع العرفي بين الآية وبين آيات القتال، فالآية المباركة تأمر بالإعراض عن الذين لا يرجون أيام الله تعالى، فهي تشمل بإطلاقها المشركين وأهل الكتاب والمنافقين والفسقة من المسلمين وبذلك يمكن الجمع بينها وبين آيات القتال بأنْ يقال إنَّ آيات القتال مقيِّدة للآية وليست ناسخة لوضوح أنَّ آيات القتال إنَّما تأمر بقتال المشركين أو مطلق الكافرين ولا تشمل المنافقين والفسقة من المسلمين بل ولا تشمل مطلق أهل الكتاب.

هذا أولاً وثانياً قد يُقال إنَّ مفاد الآية هو الأمر بالإعراض عن الذين لا يرجون أيام الله في موارد إساءاتهم الشخصيَّة لآحاد المسلمين أو في الموارد التي لا تكون شرائط وجوب الجهاد بالسيف متوافرة، فإنَّ وجوب الجهاد بالسيف له شروط منصوصة في القرآن المجيد والسنَّة الشريفة، وعليه تكون العلاقة بين الآية وبين آيات القتال هو علاقة الإطلاق والتقييد ولذلك لا تصلح آيات القتال لنسخ الآية لإمكان الجمع العرفي بينها. فالصحيح أنَّ الآية محكمة ولا مُوجب للبناء على نسخها.

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور

11 شهر رمضان 1446ه

12 مارس 2025م

 


1- سورة الجاثية / 14.

2- التبيان في تفسير القرآن -الشيخ الطوسي- ج3 / ص314.

3- التبيان في تفسير القرآن -الشيخ الطوسي- ج3 / ص315.

4- سورة نوح / 13.

5- سورة الزخرف / 89.

6- سورة الزخرف / 83.

7- سورة المزمل / 11-12.

8- نواسخ القرآن -ابن الجوزي- 224.

9- سورة التوبة / 5.

10- سورة التوبة / 29.

11- سورة الأنفال / 57.

12- سورة الحج / 39.

13- قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد عمر بن الخطاب خاصة، وأراد بالذين لا يرجون أيام الله عبد الله بن أبي، وذلك إنهم نزلوا في غزاة بني المصطلق على بئر يقال لها المريسيع، فأرسل عبد الله غلامه ليستقي الماء، فأبطأ عليه فلما أتاه قال: ما حبسك؟ قال: غلام عمر قعد على قف البئر فما ترك أحدا يستقى حتى ملا قرب النبي وقرب أبي بكر وملأ لمولاه، فقال عبد الله: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل: سمن كلبك يأكلك، فبلغ قوله عمر رضي الله عنه، فاشتمل بسيفه يريد التوجه إليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية" أسباب نزول الآيات -النيسابوري- ص253.