تعذُّر حضور الأصل في حجيَّة الشهادة على الشهادة
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
هل يُعتبر في حجيَّة الشهادة على الشهادة تعذُّر حضور الأصل أو أنَّ حجيَّتها ثابتة حتى مع افتراض إمكان حضور الأصل لأداء الشهادة؟
الجواب:
المشهور بين الفقهاء شهرة عظيمة -كما أفاد صاحب الجواهر(1)- هو اعتبار تعذُّر حضور الأصل في حجيَّة شهادة الفرع يعني في حجيَّة الشهادة على الشهادة، فالشهادة على الشهادة تكون فاقدةً للحجيَّة إذا أمكن حضور الأصل لأداء الشهادة.
واستُدلَّ لذلك بعددٍ من الوجوه أهمُّها:
الوجه الأول: دعوى الإجماع التي نسبها صاحبُ الجواهر للخلاف بل قيل إنَّه لا يكاد يتحقَّق فيه خلاف، نعم حُكي الخلاف عن بعض الأصحاب ويُحتمل أنَّه الإسكافي كما نسب له ذلك الشهيدُ في الدروس بحسب ما أفاده صاحب الجواهر(2) وكذلك قوَّى القول بعدم الاشتراط الفاضل الهندي في كشف اللثام واستظهر من الشيخ في الخلاف الميل إليه(3) وعلى أيِّ تقدير فالمخالف -كما أفاد المحقَّق النراقي في المستند(4)- شاذٌّ نادر، يمكن دعوى الإجماع على خلافه. وكذلك أفاد صاحب الرياض أنَّه لا ريب في ندرته -القول بعدم اشتؤاط التعذر- ومخالفته الإجماع الظاهر والمحكيّ(5).
والجواب عن الاستدلال بالإجماع هو أنَّ مثل هذا الإجماع لو تمَّ فإنَّه لا يكون من الإجماعات التعبُّديَّة، وذلك لأنَّه محتمِلٌ للمدركيَّة، فلعلَّ المجمعين أو بعضهم استند فيما افتى به من اشتراط تعذُّر حضور الأصل على بعض الوجوه الأخرى التي سنذكرها لذلك فالمتعيَّن هو ملاحظة هذه الوجوه للنظر في صلاحيتها لإثبات دعوى اشتراط تعذُّر الأصل في حجيَّة شهادة الفرع.
الوجه الثاني: أنَّ شهادة الفرع أضعف من شهادة الأصل، ولا يُصار إلى شهادة الأضعف مع إمكان حضور الأقوى.
والجواب عن هذا الوجه هو أنَّ لا يعدو الاستحسان فإنَّه مع اقتضاء الإطلاقات لحجيَّة الشهادة على الشهادة لا يكون هذا الوجه صالحاً لتقييدها وإلا لصحَّ تقييد حجيَّة شهادة العدل بما إذا تعذَّر حضور أو وجود الأعدل.
الوجه الثالث: الاستدلال برواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) في الشهادة على شهادة الرجل وهو بالحضرة في البلد قال: نعم، ولو كان خلفَ ساريةٍ يجوز ذلك إذا كان لا يُمكنه أنْ يُقيمها هو لعلَّةٍ تمنعُه عن أنْ يحضره ويُقيمها فلا بأس بإقامة الشهادة على شهادتِه"(6).
فهذه الرواية من حيث الدلالة ظاهرةٌ في اعتبار عدم إمكان حضور الأصل في حجيَّة الشهادة على الشهادة إلا أنَّ الإشكال في سند الرواية فإنَّ طريق الشيخ الصدوق إلى محمد بن مسلم مشتملٌ على أحمد بن عبد الله بن أحمد وهو مجهول الحال، وأورد الرواية ذاتها الشيخ الطوسي في التهذيب(7) عن محمد بم مسلم بسندٍ مشتملٍ على ذبيان بن حكيم ولم يرد فيه توثيق ألا أنَّه يظهر من كلام النجاشي(8) في ترجمة أحمد بن يحيى بن حكيم أنَّ ذبيان من المعاريف، ولم يرد فيه طعن وهو ما يُقرِّب البناء على وثاقته، فإذا تمَّ ذلك فالرواية معتبرة، ويمكن الاستناد إليها في البناء على اعتبار تعذُّر حضور الأصل في حجيَّة الشهادة على الشهادة.
وكذلك يُمكن الاستناد إلى الرواية حتى مع القبول بضعف سندها وذلك بناءً على أنَّ عمل المشهور بمضمونها جابرٌ لضعف سندها إلا أنَّ ذلك يتمُّ عند إحراز استنادهم إليها، وهو غير بعيد.
وفي مقابل ذلك قد يقال إنَّه يمكن الاستدلال على عدم اشتراط تعذر حضور الأصل في حجيَّة شهادة الفرع بالروايات التي تصدَّت لافتراض تكذيب الأصل لشهادة الفرع والتي أفاد بعضها أنَّ الترجيح يكون للأعدل منهما، فمن تلك الروايات:
صحيحة عبد الرحمن ابن أبي عبد اللَّه عن أبي عبد اللَّه (عليه السلام): في رجل شهد على شهادة رجل فجاء الرجل فقال: إنّي لم أشهده قال: تجوز شهادة أعدلهما، وإن كانت عدالتهما واحدة لم تجز شهادته"(9).
معتبرة أبان عن عبد الرحمن قال: سألتُ أبا عبد اللَّه (عليه السلام) عن رجلٍ شهد شهادة على شهادة آخر فقال: لم أشهده فقال: تجوز شهادة أعدلهما"(10).
وصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد اللَّه (عليه السلام): في رجل شهد على شهادة رجل، فجاء الرجل فقال: لم أشهده، قال: فقال: تجوز شهادة أعدلهما، ولو كان أعدلهما واحداً لم تجز شهادته"(11).
فهذه الروايات تدلُّ على حجيَّة شهادة الفرع ونفوذها مطلقاً حتى مع فرض إمكان حضور الأصل وإلا لو كانت حجيَّة شهادة الفرع مشروطة بعدم إمكان حضور الأصل لكان مقتضى ذلك هو سقوط شهادة الفرع بمجرد حضور الأصل وتكذيبه والحال أنَّ هذه الروايات لم تنفِ الحجيَّة عن شهادة الفرع بل حكمت برجحانها في فرض كون الفرع أعدل من الأصل.
والجواب أنَّ هذه الروايات لم تفترض أنَّ أداء شهادة الفرع كان في ظرف إمكان حضور الأصل، فلعل شهادة الفرع كانت في ظرف تعذر الحضور ثم ارتفع التعذر عن حضور الأصل قبل أن يحكم القاضي، وعليه فلا تصلح هذه الروايات لنفي اشتراط تعذر الحضور حين أداء الفرع لشهادته.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
11 / شوال / 1446ه
10 / أبريل / 2025م
1- جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج41 / ص199.
2- جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج41 / ص199.
3- كشف اللثام -الفاضل الهندي- ج10 / ص366.
4- مستند الشيعة -النراقي- ج18 / ص392.
5- رياض المسائل -السيد علي الطبأطبائي- ج13 / ص393.
6- من لا يحضره الفقيه -الصدوق- ج3 / ص71، وسائل الشيعة ج27 / ص403.
7- تهذيب الأحكام -الشيخ الطوسي- ج6 / ص356.
8- رجال النجاشي -النجاشي- ص81.
9- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص405.
10- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص405.
11- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص405.