الرجوع عن الشهادة في الحقِّ المالي
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
لو تراجع الشاهدان أو أحدهما عن شهادتهما في حقٍّ مالي وأقرَّا بخطئهما فيما شهدا به فهل تسقط شهادتهما عن الحجيَّة؟
الجواب:
إذا تراجع الشاهدان عن شهادتهما في حقٍّ مالي فتارةً يقع التراجع قبل أن يبتَّ القاضي في القضيَّة، وتارةً يقع التراجع بعد أنْ يفصل القاضي في القضيَّة استناداً إلى شهادتهما.
تراجع الشاهدين قبل الفصل في الحكم:
ففي الفرض الأول ذهب المشهور إلى سقوط شهادتهما عن الحجيَّة وعدم صحة الاستناد إليهما في الحكم بل أفاد صاحب الجواهر رحمه الله (1) أنَّه لم يجد في ذلك خلافاً كما اعترف بذلك غير واحدٍ من الأعلام نعم نُسب إلى الفاضل الهندي في كشف اللثام القول بأنَّ الأقوى القبول إذا كانا معروفين بالعدالة والضبط(2)
والوجه فيما ذهب إليه المشهور – كما أفاد السيد الخوئي (3) - هو قصور ما دلَّ على حجيَّة البينة عن الشمول لهذا الفرض، فعمومات الأدلَّة منصرفة عن فرضيَّة تراجع الشهود عن شهادتهم. والذي يؤكِّد ذلك هو ما عليه سيرة العقلاء من عدم الاعتداد بخبر الثقة إذا تراجع عمَّا أخبر عنه وأقرَّ بخطئه بل إنَّ سيرة العقلاء تصلح قرينةً على أنَّ المراد الجدِّي من إطلاقات حجيَّة البيِّنة مختصٌّ بما إذا أقام الشهود على شهادتهم ولم يتراجعوا عنها.
على أنَّ تراجع الشهود عن شهادتهم يُعدُّ تكذيباً لما شهدوا به وبذلك يقع التعارض بين الكلامين ولا مُصحِّح لترجيح الكلام الأول على الثاني فيسقطان معاً عن الحجيَّة.
وبتعبير آخر: إنَّ التراجع عن الشهادة الأولى قد يتمُّ بنفي مفادها كما لو شهدا أولاً أنَّ زيداً أتلف مال عمرو، ثم تراجعا وقالا إنَّ زيداً لم يتلف مال عمرو فبين الشهادتين تكاذبٌ وتعارض مستحِكم، ولهذا تسقطان معاً عن الحجيِّة. ولا موجب لترجيح الشهادة الأولى على الثانية.
وقد يتمُّ التراجع عن الشهادة الأولى بالقول إنَّ ما شهدا به كان خطأ وأنَّهما لا يعلمان أنَّ زيدا أتلف مال عمرو أو لم يتلفه، وفي هذه الصورة يكون كذلك التراجع تكذيباً للشهادة الأولى لأنَّ مقتضى مفاد الشهادة الأولى هي دعوى علمهما بإتلاف زيدٍ لمال عمرو ومفاد الشهادة الثانية هو نفي العلم بإتلاف زيدٍ لمال عمرو، فالشهادة الثانية متصدِّية لتكذيب الأولى، وبذلك لا مُصحِّح لترجيح الأولى، ولهذا تسقطان عن الحجيِّة، بل إنَّ المرتكز العقلائي يقضي بأنَّ الشهادة الثانية موجبة لإلغاء الشهادة الأولى واعتبارها بمنزلة العدم.
هذا وقد استُدلَّ للمشهور بمرسلة جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ عَمَّنْ أَخْبَرَه عَنْ أَحَدِهِمَا (ع) فِي الشُّهُودِ إِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ وقَدْ قُضِيَ عَلَى الرَّجُلِ ضُمِّنُوا مَا شَهِدُوا بِه وغُرِّمُوا، وإِنْ لَمْ يَكُنْ قُضِيَ طُرِحَتْ شَهَادَتُهُمْ ولَمْ يُغَرَّمِ الشُّهُودُ شَيْئاً "(4)
وموضع الشاهد من الرواية قولُه (ع): وإِنْ لَمْ يَكُنْ قُضِيَ طُرِحَتْ شَهَادَتُهُمْ ولَمْ يُغَرَّمِ الشُّهُودُ شَيْئاً " وهي ظاهرة في المطلوب حيث أفادت أنَّ الشهود إذا رجعوا عن شهادتهم طُرحت شهادتهم وهو معنى سقوطها عن الحجيَّة، فالرواية تامَّة من حيث الدلالة إلا أنَّ الإشكال في سندها من جهة الإرسال، نعم أفاد بعض الأعلام أنَّ ذلك لا يضرُّ بحجيتها بعد اعتضادها بالشهرة العظيمة.
وفي مقابل ذلك قد يُستدلُّ لما نُسب لكاشف اللثام بصحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد اللَّه (عليه السلام) قال: "كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يأخذ بأوّل الكلام دون آخره" إلا أنَّ الرواية لا تخلو من إجمال ولا يبعد أنَّها بصدد بيان حكم الإنكار بعد الإقرار، وأنَّ مفادها هو أنَّ مَن أقرَّ على نفسه بشيءٍ كان إقراره نافذٌ وحجَّة عليه، ولا يعتدُّ بتراجعه وإنكاره بعد ذلك، فالمعتبر هو إقراره الأول دون إنكاره .
هذا وقد أفاد السيد الخوئي(5) أنَّ الرواية وإن ذُكرت في التهذيب المطبوع(6) بالنحو الذي ذكرناه إلا أنَّها مذكورة في نسخةٍ أخرى صحيحة خطية للتهذيب وكذلك في الوسائل هكذا: " كان أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يأخذ بأوّل الكلام دون آخره"(7) ومع تعارض النسخ لا يصح الاستناد إلى شيء منها لعدم إحراز ما هو الصادر عن الإمام (ع) .
تراجع الشاهدين بعد الفصل في الحكم:
وأمَّا الفرض الثاني وهو ما إذا وقع تراجع الشاهدين بعد أنْ حكم القاضي استناداً إلى شهادتهما وبعد استيفاء المحكوم له المال من المحكوم عليه واتلافه ففي هذا الفرض أدُّعي الإجماع بقسميه -كما أفاد صاحب الجواهر – على أنَّ الحكم لا يُنقض ولكن يتعيَّن على الشاهدين الضمان
أمَّا عدم انتقاض الحكم فلأنَّه وقع وفقاً للموازين الشرعية وتراجع الشاهدين لا يكشف بنحو القطع خطأ الحكم الصادر فلعلَّ الشاهدين أخطئا في التراجع ولعلَّهما كذبا في إقرارهما بالتراجع، ولهذا لا مُصحِّح لنقض الحكم، غايته أنَّ على الشاهدين ضمان المال للمحكوم عليه، وذلك لأنَّ إتلاف المال وإنْ باشره المحكوم له إلا أنَّ ذلك وقع منه استناداً إلى حكم الحاكم، والحاكم إنَّما حكم استناداً إلى شهادة الشاهدين فالإتلاف للمال مستندٌ إليهما في المآل، ويُمكن الاستدلال على ذلك بما دلَّ على تضمين شهود الزور كما في صحيحة جَمِيلٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه ع فِي شَاهِدِ الزُّورِ قَالَ إِنْ كَانَ الشَّيْءُ قَائِماً بِعَيْنِه رُدَّ عَلَى صَاحِبِه وإِنْ لَمْ يَكُنْ قَائِماً ضَمِنَ بِقَدْرِ مَا أُتْلِفَ مِنْ مَالِ الرَّجُلِ"(8)
وصحيحة جَمِيلٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه ع فِي شَهَادَةِ الزُّورِ إِنْ كَانَ الشَّيْءُ قَائِماً بِعَيْنِه رُدَّ عَلَى صَاحِبِه وإِلَّا ضَمِنَ بِقَدْرِ مَا أُتْلِفَ مِنْ مَالِ الرَّجُلِ"(9)
فالصحيحتان كما أفاد السيد الخوئي وإنْ كان موردهما شاهد الزور إلا أنَّ الظاهر منهما أنَّ منشأ الحكم بتضمينه هو استناد إتلاف المال لشهادته، وبذلك لا يكون ثمة فرق بين شهادة الزور وغيرها من هذه الجهة، فمناط الضمان بحسب ظاهر الروايتين هو استناد الإتلاف للشهادة وهو متحقِّق في الموردين .
هذا ويمكن الاستدلال أو التأييد للحكم بضمان الشاهدين بمرسلة جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ عَمَّنْ أَخْبَرَه عَنْ أَحَدِهِمَا ع فِي الشُّهُودِ إِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ وقَدْ قُضِيَ عَلَى الرَّجُلِ ضُمِّنُوا مَا شَهِدُوا بِه وغُرِّمُوا وإِنْ لَمْ يَكُنْ قُضِيَ طُرِحَتْ شَهَادَتُهُمْ ولَمْ يُغَرَّمِ الشُّهُودُ شَيْئاً"(10) فهي صريحة في الحكم بضمان الشهود وتغريمهم إذا رجعوا عن شهادتهم بعدما قضيَ على الرجل .
وكذلك يمكن التأييد بمعتبرة السكوني عن جعفر، عن أبيه، عن علي (عليهم السلام) «أنّ النبيَّ (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) قال: " مَن شهد عندنا ثمّ غيَّر أخذناه بالأوّل وطرحنا الأخير"(11) فإنَّ المستظهر من قوله (ص): "أخذناه بالأوّل" هو تحميله تبعات شهادته الأولى.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
19 شوال 1446ه
18 أبريل 2025م
-------------------
1-جواهر الكلام- الشيخ حسن النجفي- ج41/ 220.
2-جواهر الكلام- الشيخ حسن النجفي-ج41/ 221.
3-مباني تكملة المنهاج - السيد الخوئي- ج41/ 183.
4- الكافي- الكليني-ج7/ 383، وسائل الشيعة- الحر العاملي- ج27/ 336.
5-مباني تكملة المنهاج - السيد الخوئي-ج41/ 184.
6- تهذيب الأحكام - الشيخ الطوسي- ج6/ 310.
7- وسائل الشيعة- الحر العاملي- ج27/ 216,
8-الكافي- الكليني- ج7/ 384، وسائل الشيعة- الحر العاملي- ج27/ 327.
9- الكافي- الكليني- ج7/ 384، وسائل الشيعة- الحر العاملي- ج27/ 328.
10-الكافي- الكليني-ج7/ 383، وسائل الشيعة- الحر العاملي- ج27/ 336.
11- وسائل الشيعة- الحر العاملي- ج27/ 328.