التراجع عن الشهادة بموجبٍ من موجبات الحدِّ الشرعي
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
إذا شهد شاهدان عادلان على أحدٍ بفعلِ ما يُوجب حدَّاً من الحدود الشرعيَّة أو شهد أربعة عدول على أحد بالزنا ثم تراجعا أو تراجعوا أو تراجع بعضُهم عمَّا شهدوا به واعتذروا عن ذلك بالاشتباه والخطأ فهل تسقط بذلك شهادتُهم عن الحجيَّة؟ وماذا لو وقع التراجع بعد صدور الحكم وتنفيذه؟
الجواب:
إذا تراجع الشاهدان أو الشهود عن شهادتهم في موجب من موجبات الحدِّ الشرعي فتارةً يقعُ التراجع قبل صدور الحكم، وتارةً يقعُ بعد صدور الحكم وتنفيذه استناداً إلى شهادة الشهود، وتارة يقعُ التراجعُ بعد صدور الحكم وقبل تنفيذه .
التراجع قبل صدور الحكم:
أمَّا الفرض الأول وهو ما لو وقع التراجع قبل صدور الحكم فذهب المشهور إلى سقوط شهادتِهم عن الحجيَّة بل أفاد صاحب الجواهر(1) أنَّه لم يجد خلافاً في ذلك.
والوجه في سقوط الشهادة عن الحجيَّة وعدم صحة الحكم استنادا إليها هو قصور أدلَّة حجيَّة البينة عن الشمول لهذا الفرض، فأدلَّة حجية البيِّنة منصرفة عن فرضيَّة تراجع الشهود عما شهدوا عليه، ويؤيِّد ذلك ما عليه سيرة العقلاء من عدم الاعتداد بخبر الثقة إذا تراجع عمَّا أخبر به واعتذر بالخطأ والاشتباه، هذا مضافاً إلى وقوع التعارض والتكاذب بين شهادتهم الثانية وشهادتهم الأولى ومقتضى ذلك هو سقوط الشهادتين عن الحجيَّة، إذ لا مصحِّح لترجيح الشهادة الأولى على الثانية، وقد فصلنا ذلك عند الحديث حول تراجع الشهود عن شهادتهم في الحقوق الماليَّة .
ويؤكد ذلك أو يدلُّ عليه ما ورد في مرسلة جميل بن دراج عَمَّنْ أَخْبَرَه عَنْ أَحَدِهِمَا (ع) فِي الشُّهُودِ إِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ .. قال (ع): وإِنْ لَمْ يَكُنْ قُضِيَ طُرِحَتْ شَهَادَتُهُمْ.."(2)
التراجع بعد صدور الحكم وتنفيذه:
وأمَّا الفرض الثاني وهو ما لو وقع التراجع بعد صدور الحكم وتنفيذه كما لو شهد شاهدان على أحدٍ بالسرقة فأصدر القاضي الحكم بقطع يده وتمَّ تنفيد الحكم بحقِّه وبعده جاء الشاهدان وأظهرا التراجع عمَّا شهدا به، ففي مثل هذا الفرض يتعيَّن على الحاكم تغريم كلٍّ من الشاهدين دية القطع، يتحمَّل كلٌّ منهما نصف الدية لو وقع التراجع منهما معاً، وإذا تراجع أحدُهما دون الآخر غرِّم المتراجع نصفَ دية القطع.
وهكذا لو شهد أربعةٌ من الشهود على أحدٍ بالزنا فحُكم على المشهود عليه بالرجم استناداً إلى شهادتهم فإذا تمَّ تنفيذ الحكم وبعده جاء الشهود وأظهروا التراجع عن شهادتهم معتذرين بالاشتباه والخطأ فإنَّ عليهم ضمان دية المشهود عليه لأوليائه، يتحمَّل كلُّ واحد منهم ربع الدية.
ومستند ذلك هو ما نصَّت عليه العديد من الروايات الواردة عن أهل البيت (ع):
منها: صحيحة مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: قَضَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) فِي رَجُلٍ شَهِدَ عَلَيْه رَجُلَانِ بِأَنَّه سَرَقَ فَقَطَعَ يَدَه حَتَّى إِذَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ جَاءَ الشَّاهِدَانِ بِرَجُلٍ آخَرَ فَقَالا هَذَا السَّارِقُ ولَيْسَ الَّذِي قَطَعْتَ يَدَه إِنَّمَا شَبَّهْنَا ذَلِكَ بِهَذَا فَقَضَى عَلَيْهِمَا أَنْ غَرَّمَهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ ولَمْ يُجِزْ شَهَادَتَهُمَا عَلَى الآخَر"(3)
ومنها: معتبرة السكوني عن جعفر عن أبيه عن عليٍّ ( عليهم السلام ) في رجلين شهدا على رجلٍ أنَّه سرق، فقُطعت يدُه، ثم رجع أحدُهما فقال: شبه علينا، غُرِّما دية اليد من أموالِهما خاصَّة، وقال في أربعة شهدوا على رجلٍ أنَّهم رأوه مع امرأةٍ يجامعها وهم ينظرون، فرُجم، ثم رجع واحدٌ منهم؟ قال : يُغرَّم ربع الدية إذا قال : شُبِّه عليَّ، وإذا رجع اثنان وقالا: شُبِّه علينا غُرِّما نصف الدية، وإن رجعوا كلهم وقالوا: شُبِّه علينا غُرِّموا الدية، فانْ قالوا : شهدنا بالزور قُتلوا جميعا"(4)
ومنها: معتبرة السكوني عن جعفر عن أبيه أنَّ رجلين شهدا على رجل عند عليٍّ ( عليه السلام ) أنَّه سرق، فقطع يده، ثم جاءا برجلٍ آخر فقالا: أخطأنا هو هذا، فلم يقبل شهادتهما، وغرَّمهما ديةَ الأول"(5)
ومنها: رواية مِسْمَعٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع): أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (ع) قَضَى فِي أَرْبَعَةٍ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُمْ رَأَوْه مَعَ امْرَأَةٍ يُجَامِعُهَا فَيُرْجَمُ ثُمَّ يَرْجِعُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قَالَ: يُغَرَّمُ رُبُعَ الدِّيَةِ إِذَا قَالَ: شُبِّه عَلَيَّ ، فَإِنْ رَجَعَ اثْنَانِ وقَالا: شُبِّه عَلَيْنَا غُرِّمَا نِصْفَ الدِّيَةِ، وإِنْ رَجَعُوا جَمِيعاً وقَالُوا: شُبِّه عَلَيْنَا غُرِّمُوا الدِّيَةَ، وإِنْ قَالُوا شَهِدْنَا بِالزُّورِ قُتِلُوا جَمِيعاً"(6)
فهذه الروايات صريحة في تغريم الشهود إذا وقع التراجع بعد صدور الحكم وتنفيذه وأنَّ كلَّ شاهدٍ يغرَّم بمقدار حصته من البينة، فلو تراجع الشهود الأربعة على الزنا فإنَّ كلَّ واحدٍ منهم يتحمَّل ربع الدية، وإذا وقع التراجع من البعض دون البعض الآخر فإنَّ المتراجع يتحمَّل مقدار حصته وهي الربع. فذلك هو مفاد مثل معتبرة السكوني إلا أنَّه يظهر من بعض الروايات خلاف ذلك وأنَّه إذا تراجع أحد الشهود دون البقيَّة فإنَّه يتحمَّل تمام الدية، فذلك هو ما يظهر من معتبرة مسمع كردين عن أبي عبد اللَّه (عليه السلام): في أربعة شهدوا على رجل بالزنا، فرجم، ثمّ رجع أحدهم فقال: شككت في شهادتي قال: عليه الدية قال: قلت: فإنّه قال: شهدت عليه متعمّداً قال: يقتل"(7)
فظاهر قوله (ع): "عليه الدية" هو أنَّه يتحمَّل الدية كاملة إلا أنَّه يتعين رفع اليد عن ظهور الرواية في ذلك وحملها على إرادة تحمُّله من الدية بمقدار حصَّته، فهذا هو مقتضى الجمع العرفي المبتني على حمل الظاهر على الصريح، فمعتبرة السكوني صريحةٌ في عدم تحمٌّله لأكثر من حصَّته، وأمَّا معتبرة مسمع بن كردين فدلالتها على تحمُّله لتمام الدية إنَّما هو بالظهور فتكون معتبرة السكوني الصريحة قرينةً عرفاً على عدم إرادة هذا الظهور، وهذا هو معنى حمل الظاهر على الصريح أي أنَّ الصريح يكون قرينةً عرفيَّة على عدم الإرادة الجدِّية لما ظهر بدواً من الرواية الأخرى.
التراجع بعد صدور الحكم وقبل التنفيذ:
وأمَّا الفرض الثالث وهو ما لو وقع التراجع بعد صدور الحكم وقبل التنفيذ فالمشهور بين الفقهاء هو انتقاض الحكم بل أفاد صاحب الجواهر رحمه الله أنَّه لم يجد خلافاً في ذلك إلا ما تُشعره عبارة القواعد للعلامة باحتمال العدم(8) وأفاد المحقق النراقي في المستند أنَّه لا خلاف بين الفقهاء ظاهر في ذلك إلا ما يحكي عن المحقِّق الحلِّي والعلامة الحلِّي في بعض كتبه وفخر المحقِّقين من التردد(9)
والوجه فيما ذهب إليه المشهور من الحكم من انتقاض الحكم بتراجع الشهود قبل التنفيذ هو أنَّ تراجعهم يُورث الشبهة، والحدودُ تُدرأ بالشبهات.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
23 شوال 1446ه
22 أبريل 2025م
-----------------------
1- جواهر الكلام - الشيخ حسن النجفي- ج41/ 220.
2-الكافي- الكليني-ج7/ 383، وسائل الشيعة- الحر العاملي- ج27/ 336.
3- الكافي- الكليني-ج7/ 384، وسائل الشيعة- الحر العاملي- ج27/ 332.
4-وسائل الشيعة- الحر العاملي- ج27/ 332.
5- وسائل الشيعة- الحر العاملي- ج27/ 332.
6-الكافي – الكليني-ج 7/ 366. وسائل الشيعة- الحر العاملي- ج 29/ 129.
7-وسائل الشيعة – الحر العاملي- ج 27/ 329.
8- جواهر الكلام - الشيخ حسن النجفي- ج41/ 220.
9-مستند الشيعة- المحقق النراقي- ج18/ 416.