للإمام العفو بعد الإقرار بما يُوجب الحدَّ

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

إذا أقرَّ المكلَّف بما يوجب حدَّ الزنا أو غيره من الحدود الشرعيَّة فهل يحقُّ للإمام (ع) العفو عنه أو يتعيَّن إقامة الحدِّ عليه؟

الجواب:

المشهور - بل ادُّعي عدم الخلاف كما في الرياض(1) والجواهر(2) هو أنَّ المرتكب لموجبٍ من موجبات الحدِّ إذا ثبت عليه بالإقرار دون البينة وثبت أنَّه قد تاب بعد الإقرار أنَّ للإمام العفو عنه كما أنَّ له أنَّ له إقامة الحدِّ عليه، وخصَّ ابنُ ادريس(3) الحلي ذلك بما إذا كان الإقرار بموجبِ الرجم، ففي هذا المورد خاصَّة قام الإجماع على أنَّ الإمام بالخيار بين العفو وإقامة الحدِّ، وفيما عدا هذا المورد يتعيَّن على الإمام إقامة الحدِّ عليه وذلك لإطلاقات الأمر بإقامة الحدود وعدم جواز تعطيلها، فلا يصح تعطيل حدٍّ من حدود الله تعالى إلا مع قيام الدليل، وحيث لم يقم الدليل -وهو الإجماع في المقام- إلا في موردِ الإقرار بموجب الرجم لذلك يتعيَّن على الإمام إقامة الحدِّ فيما عداه.

مستند المشهور في جواز العفو مع الإقرار:

وأجيب عن ذلك بأنَّ دليل الإطلاق -وأنَّ للإمام العفو أو إقامة الحدِّ مطلقاً في فرض ثبوت موجب الحد بالإقرار- هو معتبرة طلحة بن زيد عن جعفر (عليه السلام) قال: حدّثني بعض أهلي أنّ شابّاً أتى أمير المؤمنين (عليه السلام) فأقرّ عنده بالسرقة، قال: فقال له عليٌّ (عليه السلام): إنّي أراك شابّاً لا بأس بهبتك، فهل تقرأ شيئاً من القرآن؟ قال: نعم، سورة البقرة، فقال: قد وهبت يدك لسورة البقرة، قال: وإنّما منعه أنْ يقطعه لأنّه لم يقم عليه بيّنة"(4) فإنَّ الظاهر من قوله (ع): وإنّما منعه أنْ يقطعه لأنّه لم يقم عليه بيّنة" هو أنَّ للإمام العفو عن مرتب موجب الحد إذا لم يثبت ذلك من طريق البيِّنة ويؤيد الإطلاق وعدم اختصاص ذلك بحدِّ السرقة برواية أبي عبد الله البرقي عن بعض أصحابه عن بعض الصادقين ( عليهم السلام ) قال: جاء رجلٌ إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فأقرَّ بالسرقة، فقال له: أتقرءُ شيئاً من القرآن؟ قال: نعم، سورة البقرة، قال: قد وهبتُ يدَك لسورة البقرة، قال: فقال الأشعث: أتعطِّل حدَّاً من حدود الله؟ فقال: وما يُدريك ما هذا؟ إذا قامت البيِّنةُ فليس للإمام أنْ يعفو، وإذا أقرَّ الرجل على نفسِه فذاك إلى الإمام إنْ شاء عفا، وإنْ شاء قطع"(5) فإنَّ الرواية شديدة الظهور في الإطلاق، وذلك لأنَّ الإمام (ع) كان بصدد رد الإشكال الذي تجاسر عليه الأشعث فأفاد في مقام رفع ما توهمه الأشعث بأنَّ المورد الذي ليس للإمام أن يعطِّل معه إقامة الحد هو ما لو ثبت موجب الحد من طريق البيِّنة دون الإقرار.

وكذلك هو مؤيَّد بما رواه الحسن بن علي بن شعبة في (تحف العقول) عن أبي الحسن الثالث ( عليه السلام ) -في حديث- قال: وأمَّا الرجل الذي اعترف باللواط فإنَّه لم يقم عليه البينة، وإنَّما تطوع بالإقرار من نفسه، وإذا كان للإمام الذي مِن الله أن يُعاقب عن الله كان له أنْ يمن عن الله، أما سمعت قول الله: { هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}"(6)(7)

فالرواية ظاهرة في أنَّ موجب الحد حين يثبت بالإقرار يكون معه الإمام بالخيار بين إقامة الحد وبين العفو.

ويُمكن الاستدلال أيضاً على أنَّ الإمام بالخيار بين العفو إقامة الحد -كما أفاد السيد الخوئي (8)- بصحيح ضُرَيْسٍ الْكُنَاسِيِّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ع قَالَ لَا يُعْفَى عَنِ الْحُدُودِ الَّتِي لِلَّه دُونَ الإِمَامِ فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ حَقِّ النَّاسِ فِي حَدٍّ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُعْفَى عَنْه دُونَ الإِمَامِ" (9) نعم يتعيَّن تقييد هذه الرواية بما إذا لم يثبت الحد بالبيِّنة وذلك لقيام الأدلَّة على أنَّه ليس للإمام العفو في فرض ثبوت موجب الحد بالبيِّنة.

هل يختص جواز العفو بتوبة المقرِّ:

ثم إن ثبوت الاختيار للإمام هل يختص بفرض إحرازه لتوبة المقرِّ أو أنَّ له العفو حتى في فرض عدم الاحراز لتوبة المقرِّ؟

ظاهر كلمات المشهور هو اعتبار الاحراز لتوبة المقر، فليس للإمام اختيار العفو لمجرَّت ثبوت موجب الحد بالإقرار بل يتعيَّن مضافاُ لذلك إحراز توبته.

وأورد السيد الخوئي(10) على ذلك بأنَّه لا ظهور للروايات في اعتبار إحراز التوبة بل هي ظاهرة في الإطلاق من هذه الجهة حيث لم يقيَّد في شيء منها جواز عفو الإمام عن المقرِّ بتوبته نعم قد يستشعر ذلك من التعبير بالتطوع في رواية تحف العقول لكنه لا يعدو الإشعار فهو لا يرقى لمستوى الظهور على أنَّ الرواية ضعيفة السند بالإرسال ولهذا لا دليل على اشتراط جواز عفو الإمام عن المقرِّ بإحراز توبته إلا أنْ يتمَّ الإجماع على ذلك وهو غير تام.

نعم قد يدَّعى أنَّ الإقرار بموجب الحد ابتداءً ملازم أو قل كاشف عرفاً عن الندم والتوبة ومورد معتبرة طلحة وكذلك رواية البرقي ظاهر في الإقرار الابتدائي، فالمعتبرة وإن لم تكن ظاهرة في اعتبار التوبة لكنها ليست ظاهرة في الإطلاق، ولهذا يلتزم بمورد المعتبرة وهو الإقرار الابتدائي الكاشف عن التوبة ويكون المرجع فيما عدا ذلك هو إطلاقات ما دلَّ على لزوم إقامة الحد عند ثبوت موجبه.

والجواب عن ذلك هو أنَّ الإقرار الابتدائي فضلاً عن غيره لا يكشف دائماً عن التوبة فقد ينشأ الإقرار عن إدراك المقرِّ بأنَّ إقامة البيِّنة عليه ممكنة وقريبة فيُبادر إلى الإقرار. ولهذا لا تصحُّ دعوى أنَّ مورد معتبرة طلحة هو الإقرار الناشيء عن التوبة، فهي ليست ظاهرة في أكثر من مبادرة السارق إلى الإقرار وأمَّا أنَّ إقراره نشأ عن التوبة أو نشأ عن منشأ آخر فالرواية ليس لها ظهور في شيء من ذلك. وعليه يكون قوله (ع): "وإنّما منعه أنْ يقطعه لأنّه لم يقم عليه بيّنة" ظاهر في أنَّ الإقرار وحده مصحِّح للعفو.

والحمد لله ربِّ العالمين

الشيخ محمد صنقور

25 / ذي الحجة / 1446ه

22 / يونيو / 2025م

 


1- رياض المسائل -السيد الطبأطبائي- ج13 / ص435.

2- جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي-ج41 / ص293.

3- رياض المسائل -السيد الطبأطبائي- ج13 / ص435.

4- تهذيب الأحكام -الشيخ الطوسي- ج10 / ص127، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج28 / ص41.

5- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج28 / ص41.

6- سورة ص / 39.

7- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج28 / ص41.

8- مباني تكملة المنهاج -السيد الخوئي- ج41 / ص216.

9- الكافي -الكليني- ج7/ 252، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج28 / ص40.

10- مباني تكملة المنهاج -السيد الخوئي- ج41 / ص217.