هل سُلب الحسين(ع) كامل ثيابه؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد
المسألة:
السلام عليكم
ورد في أكثر من مصدر من مصادر التأريخ أنَّ أحد الأعداء من جيش المعسكر الأموي ويُدعىٰ بحر بن كعب قد سلب سراويل الحسين (ع) فبقي مجرَّداً، فهل يُتصور أنَّ سيَّد الشهداء (ع) قد سُلب كلَّ ما عليه من ثياب حتى السراويل؟!
الجواب:
الحسينُ (ع) أكرمُ على الله من أنْ يقبلَ عليه ذلك:
إنَّ الحسينَ (ع) أكرمُ على الله تعالى من أنْ يقبلَ عليه ذلك، إنَّ الحسين (ع) كجدِّه المصطفى (ص) أكرمَه اللهُ جلَّ وعلا بأنْ حجبَ أبصار الناس عن أنْ يطَّلعوا منه على عورة حتى بعد وفاته، فقد ورد في المستفيض من رواياتِ الفريقين أنَّه ما مِن أحدٍ مِن سائر الناس اتَّفق له ذلك دون أنْ يعمى - قبل أنْ يتهيأَ له النظر- ودون أن ْيذهبَ بصرُه كما في بعض الروايات، وفي لسان بعضِها "إلا وطُمست عيناه" وفي أخرى "إلا انفقأت عيناه" وفي رواية الخصال "تفقأت عيناه".(1)
كلُّ فضلٍ آتاه اللهُ نبيَّه (ص) فللإمام مثلُه إلا النبوَّة:
ولا ريب أنَّ تلك فضيلةٌ وكرامةٌ أكرمَ اللهُ تعالى بها نبيَّه (ص) وقد أفاد الشيخ الصدوق رحمه الله تعالى أنَّه: " ويجب أنْ يُعتقد.. أنَّ كلَّ فضلٍ آتاه اللهُ عزَّوجلَّ نبيَّه (ص) فقد آتاه الإمام إلا النبوَّة" (2)
ويُؤيدُ ذلك ما أورده الشيخُ الكليني في الكافي بسنده عن مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) يَقُولُ: الأَئِمَّةُ بِمَنْزِلَةِ رَسُولِ اللَّه (ص) إِلَّا أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ ولَا يَحِلُّ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَا يَحِلُّ لِلنَّبِيِّ (ص) فَأَمَّا مَا خَلَا ذَلِكَ فَهُمْ فِيه بِمَنْزِلَةِ رَسُولِ اللَّه (ص)"(3) فمُطلق الوظائف والكمالات والملكات والمِنح الإلهيَّة والفضائل والخصائص والكرامات التي أكرم اللهُ تعالى بها نبيَّه الكريم (ص) فهي جارية في الأئمة (ع) من بعده ما خلا النبوَّة وما خصَّ الله به نبيَّه (ص) من جواز الزواج بأكثر من أربع، فما سوى هذين الشأنين ثابتٌ- بمقتضى الواضح من مفاد الرواية- لأئمة أهل البيت (ع) فقوله : "فَهُمْ فِيه بِمَنْزِلَةِ رَسُولِ اللَّه (ص)" لا يختصُّ بالشؤون المرتبطة بالهداية كالعصمة والعلم وإلا لم يكن ثمة معنى لاستثناء ما يحلُّ له من النساء، ويُؤكِّد استظهار الإطلاق والاستيعاب العديد من الروايات التي تحدَّثت عن صفات الإمام التي لا ربط لها بشؤون الهداية والتبليغ وأنَّ الإمام كرسول الله (ص) لا يتثاءب ولا يتمطى ولا يُرى له ظلٌّ " فيء" ، ويُولد مختوناً مطهَّراً، ولا يحتلم، وتنام عينه ولا ينام قلبه، ويري مَن خلفه كرؤيته لمَن هو أمامه، ولا يبتلى بعاهاتٍ أو أمراضٍ مٌشينةٍ ومُوهِنة أو مُنفِّرة، "ونَجْوُه كَرَائِحَةِ الْمِسْكِ والأَرْضُ مُوَكَّلَةٌ بِسَتْرِه وابْتِلَاعِه" وغير ذلك.(4)
وكذلك ما ورد في المحتضر لحسن بن سليمان الحلي قال: وروي في الحديث عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال:" كلّما كان للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فلنا مثله إلاّ النبوّة والأزواج" (5) وهذه الرواية كالتي سبقتها في الظهور وأنَّ كلَّ ما للرسول (ص) من كمالات وخصائص وفضائل وكرامات فللأئمة من أهل البيت (ع) مثلها إلا النبوَّة والأزواج. ولقد أجاد المؤلف بقوله تعليقاً على الرواية:" والاستثناء دليل العموم ، فهم شركاؤه في كلِّ ما رويناه له من الفضل، وما لم نروه، وما لم يصلْ علمُه إلينا"(6)
وأورد الشيخ الصدوق في الأمالي بسنده: عن أبي جعفرٍ محمد بن عليٍّ الباقر عن أبيه عن جده (عليهم السلام) قال: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات يوم وهو راكب، وخرج علي ( عليه السلام ) وهو يمشي، فقال له : يا أبا الحسن ... وما أكرمني الله بكرامة إلا وقد أكرمَك بمثلها، وخصَّني بالنبوة والرسالة" (7)
وكذلك يُمكن استفادة ما ذكرناه من الروايات التي أفادت أنَّه يجري لآخرهم ما يجري لأولهم، فمن ذلك ما أورده الحميري القمِّي في قرب الإسناد عن أحمد بن محمد بن عيسى عن البزنطي عن الرضا أنه عليه السلام كتب إليه: قال أبو جعفر عليه السلام : " .. لا يستكمل عبد الايمان حتى يعرف أنَّه يجري لآخرهم ما يجري لأولهم.."(8)
توجيهُ النصوص التأريخيَّة:
وممَّا ذكرناه يتَّضح أنَّه لا يمكن الوثوق بل ولا القبول بما يظهر من كلمات بعض المؤرِّخين(9) من أنَّ الإمام الحسين (ع) قد سُلب كامل ما عليه من الثياب بعد استشهاده، نعم يُمكن القبول بأنَّه (ع) قد سُلب ثيابه الظاهرة كالعمامة والقطيفة والبرنس والجبَّة والقميص وسراويله الظاهرة، وأمَّا ما عدا ذلك فيمتنع القبول بأنَّه قد سُلب إيَّاها لمنافاة ذلك لمقتضى الكرامة التي أكرم اللهُّ تعالى بها نبيَّه (ص) والأئمة من أهل بيته (ع)، هذا مضافاً إلى أنَّ كلمات المؤرِّخين ليست صريحةً في أنَّه (ع) قد سُلب كامل ثيابه لذلك يتعيَّن حملُها - بقرينة امتناع الاطلاع من المعصوم على عورة – يتعيَّن حملُها على أنَّه قد سُلب ثيابه الظاهرة، ويؤكِّد ذلك ما ذكره ابن سهل الرزاز الواسطي المتوفي سنة 292ه من أنَّ الإمام الحسين (ع) دُفن في ثيابه قال: فقال له أبو إسحق الشيباني وإنَّ الحسين بن علي رضوان الله عليهما قُتل وعليه جبَّة خزٍّ، وقد نصل خضابُه وكان يخضبُ بالسواد فدُفنَ في ثيابِه"(10)
ويُؤكِّد ذلك أيضاً ما أورده ابنُ شهراشوب في المناقب قال:" .. ويروى أنَّه أخذ عمامته جابر بن زيد الأزدي وتعمَّم بها فصار في الحال معتوهاً، وأخذ ثوبَه جعوبة بن حوية الحضرمي ولبسه فتغيَّر وجهُه وحُصَّ شعره وبرص بدنُه، وأخذ سراويلَه الفوقاني بحيرُ بن عمرو الجرمي وتسرولَ به فصار مُقعدا"(11) فما سلبَه اللعينُ- بحسب هذا النص- هو سراويله الفوقاني.
فهذا النصُّ وكذلك الذي قبله صالحٌ لتفسير ما ذكره بعضُ المؤرِّخين من أنَّ اللعين بعد ما سلبَ سراويله تركه مجرَّداً، فإنَّ هذا التعبير ليس صريحاً في أنَّه جرَّده من كامل ثيابه، نعم هو ظاهرٌ في ذلك، ولهذا يكون مقتضى الجمع بينه وبين النصَّين المذكورين هو حملُ التجريد على إرادة التجريد من الثياب الظاهرة . هذا مع قطع النظر عن القرينة الأولى وهي امتناعُ الاطلاع من المعصوم على عورة وإلا فمعها يلزمُ طرحُ هذه النصوص إنْ لم يتمَّ القبولُ بحملها على إرادة تجريده (ع) من ثيابِه الظاهرة دون الثيابِ الساترة .
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
4 محرم الحرام 1447ه
30 يونيو 2025م.
-------------------
1-الخصال- الصدوق-ص 573، الأمالي- الشيخ الطوسي- ص660، مستدرك الوسائل – النوري- ج2/197، مناقب آل أبي طالب- ابن شهراشوب- ج1/ 205، مجمع الزوائد- الهيثمي-ج9/ 36، شرح مسند أبي حنيفة-ملا علي القاري-ص 306، الطبقات الكبرى – ابن سعد-ج2/ 278، دلائل النبوة – البيهقي- ج7/244، البداية والنهاية- ابن كثير- ج5/ 282، كفاية الطالب اللبيب في خصائص الحبيب- جلال الدين السيوطي- ج2/ 276، الشفا بتعريف حقوق المصطفي-القاضي عياض- ج1/ 66.
2- الهداية- الشيخ الصدوق- ص 27.
3-الكافي – الكليني- ج1/ 270.
4- الكافي – الكليني- ج1/ 388. الخصال - الصدوق- ص 428، 528، من لايحضره الفقيه- الصدوق-ج4/ 418، معاني الأخبار- الصدوق-ص 102، عيون أخبار الرضا (ع) - الصدوق-ج1/ 192.
5- المحتضر -حسن بن سليمان الحلي-ص 47.
6- المحتضر -حسن بن سليمان الحلي-ص 47.
7-الأمالي- الصدوق-583.
8- قرب الإسناد- الحميري القمي- ص 351. الاختصاص – المفيد- ص22 تحف العقول ص 453. الأصول الستة عشر ص 237. الكافي- الكليني- ج1/ 198، بصائر الدرجات - الصفار- 219.
9-ولما بقى الحسين في ثلاثة رهط أو أربعة دعا بسراويل محققة .. فلما قتل أقبل بحر بن كعب فسلبه إياه فتركه مجردا" تاريخ الطبري- ج4/ 345، " " وأخذ سراويله بحر الملعون بن كعب التميمي ، فتركه مجردا" الطبقات الكبرى- ابن سعد – ترجمة الإمام الحسين-ص 78. " وسلب الحسين ما كان عليه فأخذ سراويله بحر بن كعب وأخذ قيس بن الأشعث قطيفته وكانت من خز وكان يسمى بعد قيس قطيفة وأخذ نعليه رجل من بنى أود يقال له الأسود وأخذ سيفه رجل من بنى نهشل بن دارم فوقع بعد ذلك إلى أهل حبيب بن بديل قال ومال الناس على الورس والحلل والإبل وانتهبوها" تاريخ الطبري-الطبري-ج4/ 346، "
10- تاريخ واسط – أسلم بن سهل الرزاز الواسطي- ج1/ 104، بغية الطلب في تاريخ حلب- عمر بن أحمد العقيلي- ج6/ 2618.
11-مناقب آل أبي طالب- ابن شهراشوب- ج3/ 214.