الزَّواج من الكتابيَّة

بسم الله الرحمن الرحيم 

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

ما هو الدليل على جواز الزواج من المرأة الكتابية؟

الجواب:

جواز نكاح الكتابيَّة ليس موردًا للوفاق بين الفقهاء، والمشهور بين المتأخِّرين هو جواز التمتُّع بالكتابيَّة وعدم جواز نكاحها دوامًا (1).

وكيف كان فقد تمسَّك القائلون بجواز نكاح الكتابيَّة مطلقًا دوامًا ومتعة بقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾(2)، إلى قوله تعالى: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ﴾(3). وهذه الآية من سورة المائدة، وقد ورد في الصحيح(4) أن سورة المائدة آخر سورة نزلت فهي غير منسوخة.

جواب دعوى النسخ:

وعليه يكون قوله تعالى: ﴿وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾(5)، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشْرِكِينَ﴾(6)، غير صالحين لنسخ الآية الواردة في سورة المائدة، على أنَّه يمكن القول بعدم التنافي المستحكِم بين الآية الواردة في سورة المائدة والآيتين المذكورتين، وذلك لأنَّ العلاقة بينهما علاقة الإطلاق والتقييد فيُحمل المطلق على المقيَّد، وتكون النتيجة هو عدم جواز نكاح الكوافر والمشركات إلا أنْ يكنَّ من أهل الكتاب. وأمَّا ما ورد -كما في صحيحة زرارة: أنَّ آية ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ ..﴾ منسوخة بآية: ﴿وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾(7) ما ورد كما في موثقة الحسن بن الجهم من أنَّ آية ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ ..﴾ منسوخة بقوله تعالى: ﴿وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشْرِكِينَ﴾(8) فلا يصحُّ البناء عليه، إذ لا يثبت النسخ بخبر الواحد كما هو واضح، هذا مضافاً إلى منافاتهما للأخبار الدالَّة على أنَّ سورة المائدة محكمة لم يُنسخ منها شيء. 

الروايات الدالَّة على جواز نكاح الكتابية مطلقًا.

هذا وقد دلَّت رواياتٌ مستفيضة -وفيها ما هو معتبر سنداً- على جواز نكاح الكتابية مطلقًا.

منها: ما ورد في موثَّقة محمد بن مسلم عن أبي جعفر(ع) قال: "سألتُه عن نكاح اليهوديَّة والنَّصرانيَّة فقال (ع): "لا بأس، أما علمتَ أنَّه كانت تحت طلحة بن عبد الله يهوديَّة على عهد النبيِّ (ص)"(9).

ومنها: ما ورد في صحيحة معاوية بن وهب وغيره جميعًا عن أبي عبد الله (ع) في الرّجل يتزوَّج اليهوديَّة والنصرانية فقال (ع): "إذا أصاب المسلمة فما يصنع باليهوديَّة والنَّصرانيَّة! فقلتُ له: يكون له فيها الهوى قال (ع): إنْ فعل فليمنعْها من شربِ الخمر وأكلِ لحم الخنزير، واعلم أنَّ عليه في دينِه غضاضة"(10).

ومنها: الحسن بن محبوب عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام في رجلٍ تزوج ذمِّية على مسلمة قال: يُفرَّق بينهما، ويُضرب ثُمن الحدِّ اثنى عشر سوطا ونصفاً، فإنْ رضيت المسلمة ضُرب ثمن الحدِّ، ولم يفرَّق بينهما، قلتُ: كيف يضرب النصف؟ قال: يؤخذ بالسوط بالنصف فيضرب به"(11).

فهو إنَّما يُضربُ ثُمْن الحدِّ لأنَّه تزوَّج الذميَّة على المسلمة قبل استرضاء المسلمة، فإذا رضيتْ بعد ذلك فالرواية صريحة بأنَّه لا يُفرق بينه وبين الذميَّة، فهي واضحة في أصل جواز نكاح الذمِّية غايته أنَّه لا يصح لمَن تحته مسلمة أنْ يتزوَّج من ذميَّة قبل استئذان الزوجة المسلمة. 

ومنها: موثقة سَمَاعَةَ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: سَأَلْتُه عَنِ الْيَهُودِيَّةِ والنَّصْرَانِيَّةِ أيَتَزَوَّجُهَا الرَّجُلُ عَلَى الْمُسْلِمَةِ قَالَ: لَا، ويَتَزَوَّجُ الْمُسْلِمَةَ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ والنَّصْرَانِيَّةِ"(12).

فالرواية شديدة الظهور في المفروغيَّة عن جواز نكاح اليهوديَّة والنصرانيَّة غايته أنَّ الرواية منعتْ من الزواج منهما على المسلمة دون العكس، فإنَّه يجوز لمَن تحته كتابية أنْ يتزوج عليها امرأة مسلمة.

مناقشة ما استدلَّ به على المنع:

وأمَّا الروايات الدالَّة على جواز التمتُّع بالكتابيَّة فهي غير منافية لما دلَّ على الجواز مطلقاً، وأمَّا الروايات التي أفادت بأنَّه لا ينبغي للمسلم الزواج من الكتابيَّة في غير ظرف الضرورة أو عدم الوجدان للمسلمة فهي كذلك لا تصلحُ لإثبات الحرمة في غير ظرف الضرورة، فإنَّ روايات الجواز مطلقاً تصلحُ أن تكون قرينة على أنَّ المراد من هذه الروايات هو الحثُّ على التنزُّه عن الزواج من الكتابيَّة في فرض عدم الضرورة، ويُؤكد ذلك ما ورد من التعبير في رواياتٍ عديدة بمثل "لا أحب" كصحيحة عَبْدِ اللَّه بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: سَأَلَه أَبِي وأَنَا أَسْمَعُ عَنْ نِكَاحِ الْيَهُودِيَّةِ والنَّصْرَانِيَّةِ؟ فَقَالَ (ع): "نِكَاحُهُمَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نِكَاحِ النَّاصِبِيَّةِ، ومَا أُحِبُّ لِلرَّجُلِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْيَهُودِيَّةَ ولَا النَّصْرَانِيَّةَ مَخَافَةَ أَنْ يَتَهَوَّدَ وَلَدُه أَوْ يَتَنَصَّرَ"(13).

وأمَّا معتبرة زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (ع) عَنْ نِكَاحِ الْيَهُودِيَّةِ والنَّصْرَانِيَّةِ فَقَالَ (ع): "لَا يَصْلُحُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَنْكِحَ يَهُودِيَّةً ولَا نَصْرَانِيَّةً وإِنَّمَا يَحِلُّ لَه مِنْهُنَّ نِكَاحُ الْبُلْه"(14) فهي وإنْ كانت ظاهرة في نفسها في حرمة نكاح غير البُلْه من الكتابيَّات إلا أنَّه يتعيَّن رفع اليد عن هذا الظهور وحملُه على إرادة الكراهة والغضاضة، وذلك لصراحة الروايات الدالَّة على الجواز مطلقاً، فإنَّ ذلك هو مقتضى الجمع العرفي أي أنَّ مقتضاه حملُ الظاهر على الصريح، وحمل الظاهر على الأظهر، وبه لا تصل النوبة للترجيح بمخالفة العامَّة، لأنَّ الترجيح بذلك إنَّما يكون في فرض استحكام التعارض بين الأخبار. 

وعليه فالصحيح هو جواز نكاح الكتابيَّة مُطلقاً على كراهةٍ شديدة في غير ظرف الضرورة ولغير البُله ورغم ذلك فالاحتياط سبيل النجاة.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

-----------------------------------------------

1- الحدائق الناضرة -الشيخ يوسف البحراني- ج24 / ص5.

2- سورة المائدة / 5.

3- سورة المائدة / 5.

4- تهذيب الأحكام -الطوسي- ج1 / ص361، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج1 / ص459. صحيحة زرارة وكذلك صحيحة الحلبي

5- سورة الممتحنة / 10.

6- سورة البقرة / 221.

7- الكافي -الكليني- ج5 / ص358، وسائل الشيعة -الحر العاملي-ج1/ ص534.

8- الكافي -الكليني- ج5 / ص357، وسائل الشيعة -الحر العاملي-ج1 / ص534.

9- تهذيب الأحكام -الطوسي- ج7 / ص298، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج20 / ص541.

10- تهذيب الأحكام -الطوسي- ج7 / ص298، الكافي -الكليني- ج5 / ص356، من لا يحضره الفقيه -الصدوق- ج3 / ص407، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج20 / ص536. 

11- من لا يحضره الفقيه -الصدوق- ج3 / ص226، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج20 / ص545. 

12- الكافي -الكليني- ج5/ ص357، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج20 / ص544.

13- الكافي -الكليني- ج5 / ص351، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج20 / ص534.

14- الكافي -الكليني- ج5 / ص356، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج20 / ص539.