حكم أكل الغراب بنظر الإماميَّة

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

السؤال:

ما هو حكم أكل الغراب بنظر الإماميَّة؟

الجواب:

اختلف فقهاء الإماميَّة في حكم أكل الغراب ويُمكن إنهاء أقوالهم إلى خمسة:

الأول: الحكم بحلِّيته مطلقاً على كراهة.

الثاني: الحكم بحرمته مطلقاً.

الثالث: التفصيل بين الغراب الأبقع والكبير الذي يسكن الجبال وبين الزاغ والغذَّاف والذي يميل ميلاً يسيراً إلى الرماد، ولعلَّه يُعرف بالرمادي، فالأولان محكومان بالحرمة، والآخران محكومان بالحليَّة.

الرابع: أنَّ المحلَّل من الغربان هو خصوص الزاغ وهو الصغير من الغربان السود وما عداه فهو محرَّم وهم ثلاثة أصناف:

الأول: الغذَّاف الذي يأكل الجيف ويفترس ويسكن الخربات وهو الكبير من الغربان السود.

الثاني: الغراب الأغبر الكبير لأنَّه يفترس ويصيد الدَّراج، فهو من جملة سباع الطير.

والثالث: الغراب الأبقع الذي يسمَّى العقعق طويل الذنب.

والعمدة هو ملاحظة الروايات وهي طائفتان:

الطائفة الأولى: وهي التي يظهر منها حليَّة أكل الغراب مطلقاً، وهي معتبرة زرارة عن أحدهما (ع) أنَّه قال: "إنَّ أكل الغراب ليس بحرام، إنَّما الحرام ما حرّم اللهُ في كتابه ولكن الأنفس تتنزَّه عن كثيرٍ من ذلك تقزُّزاً"(1) وأمّا ومعتبرة غياث بن إبراهيم عن جعفر بن محمد (ع) أنَّه كره أكل الغراب لأنَّه فاسق(2) فدلالتها على الحليَّة مبنيٌّ على إرادة الكراهة المصطلحة، وليس من قرينةٍ تدلُّ على إرادة هذا المعنى، فهي على أحسن التقادير مجملة.

وأمّا الطائفة الثانية: وهي التي يظهر منها الحرمة مطلقاً، فهي روايات، منها معتبرة عليِِّ بن جعفر عن أخيه أبي الحسن (ع) قال: سألتُه عن الغراب الأبقع والأسود أيحلُّ أكلهما؟ فقال: "لا يحلُّ أكلُ شيءٍ من الغربان زاغ ولا غيره".(3)

دعوى إمكان الجمع العرفي وجوابه:

هذا وقد ادُّعي إمكان الجمع العرفي بين الطائفتين، وحاصلُه أنَّ الطائفة الأولى لمَّا كانت نصَّاً في الحليَّة والطائفة الثانية ظاهرةٌ في الحرمة فهذا يقتضي تقديم الطائفة الأولى حملاً للظاهر على النص، وبذلك تكون نتيجة الجمع هو حمل الطائفة الثانية على إرادة الكراهة، فنفيُ الحلِّ الوارد في معتبرة عليِّ بن جعفر وإنْ كان ظاهراً في الحرمة إلا أنَّ هذا الظهور ينتفي عند ملاحظة الطائفة الأولى والتي هي نصٌّ في الحليَّة، وبذلك تتعيَّن إرادة الكراهة من قوله: "لا يحلُّ أكلُ شيء من الغربان".

والجواب عن هذه الدعوى أنَّ هذا الجمع يتمُّ لو كان لسان الحرمة في معتبرة عليِّ بن جعفر هو النهي عن الأكل أمَّا بعد أنْ كان لسانُها هو عدم الحل فالتعارض مستقر.

وبتعبير آخر: إنَّ صناعة الجمع العرفي تقوم على أساس اعتبار الروايتين نصَّاً واحداً فإنْ وجد العُرف انسجاماً بينهما فعندئذٍ يكون الجمع عرفيَّاً، وإنْ وجد تناقضاً فالتعارضُ يُصبح مستقراً، ونحن عندما نجمع بين قوله: أكل الغراب ليس بحرام وبين قوله: لا يحلُّ أكلُ شيءٍ من الغربان فإنَّنا نجد تناقضا وتكاذباً بين التعبيرين، وهو ما يُوجب استقرار التعارض بينهما، وبذلك يكون الجمع المذكور ساقطاً، والمرجعُ عندئذٍ هو مرجِّحات باب التعارض.

الترجيح بالتقية:

وفي المقام ثمة مرجِّح جهتي وهو يقتضي ترجيح جانب الحرمة، ذلك، لأنَّ الحليَّة موافقة لبعض آراء العامَّة، وهو ما يقتضي حمل الطائفة الأولى على الصدور تقيةً بعد استحكام التعارض. وأمَّا التقديم بدعوى أنَّ روايات الحرمة أصحُّ سنداً كما أفاد صاحب الجواهر فهو غير تام، إذ أنّه علاوةً على أنَّ ذلك ليس من مرجِّحات باب التعارض هو غير تامٍّ صغروياً، إذ أنَّ رواية الحليَّة صحيحة السند بل إنَّ في سندها زرارة والذي هو من أصحاب الإجماع. نعم لو كانت روايات الحليَّة ضعيفة السند لأمكن ترجيح روايات الحرمة بالسند إلا أنَّ ذلك ليس على أساس أنَّه من مرجِّحات باب التعارض بل لأنَّ روايات الحليَّة تكون عندئذٍ ساقطة عن الحجيَّة.

وجهُ التفصيل وجوابه:

بقي الكلام في بيان وجه التفصيل، فقد احتمل صاحبُ الجواهر (رحمه الله) أنَّ المنشأ لذلك هو ما أفاده الشيخ الطوسي(رحمه الله) في الخلاف من ورود الرخصة في الزاغ والغذَّاف، ولم يذكر متن الرواية التي ورد فيها الترخيص كما أنَّه لم يذكر سندها، وبذلك تكون دعوى ورود الترخيص في قوَّة الرواية المرسَلة والتي لاحجيَّة لها لولا دعوى الانجبار بفتوى المشهور.

إلا أنَّ دعوى الاشتهار في الفتوى بحليَّة الصنفين المذكورين ليست محقَّقة بين القدماء، ولو تمَّت فلا يحرز استنادهم لما أرسله الشيخ في الخلاف، فلعلَّ منشأ الفتوى هو أمرٌ آخر كقاعدة أنَّ الجمع مهما أمكن فهو أولى من الطرح.

ومن هنا انفتح وجهٌ آخر للتفصيل وهو أنَّ منشأه هو الجمع بين رواية الحلِّ وروايات الحرمة إلا أنَّ هذا الجمع لا يعدو كونه تبرعيَّاً، فهو وإنْ ذكر أنَّ سببه هو أنَّ مثل الزاغ يأكل الحبوب بخلاف الأبقع مثلاً فإنَّه يأكل الجيف فيكون من الطيور الجارحة فإنَّ هذا السبب لا يُصحِّح الجمع المذكور، إذ أنَّ قوام الجمع العرفي هو أنَّ العرف يرى أنَّ بين الروايات المتصدية لبيان حكم موضوعٍ واحد تمامَ الانسجام بعد اعتبارها نصاً واحدا، وهذه الضابطة لا تنطبق على محلِّ البحث، إذ مع اعتبار أنَّ الروايات المتصدِّية لبيان حكم الغراب نصَّاً واحداً يرى العرف أنَّها متناقضة و متكاذبة فيما بينها، نعم لو كانت مرسلة الشيخ تامَّة السند لكانت شاهد جمعٍ ولكنَّها لمَّا كانت ضعيفة السند فإنَّ التعارض يبقى مستقراً وهو ما يُوجب معالجته على أساس مرجِّحات باب التعارض، وقد اتَّضح أنَّ مرجحات باب التعارض تقتضي إسقاط رواية الحلِّ عن الحجيَّة، وبذلك يتعيَّن القول بحرمة أكلِ الغراب مطلقاً.

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور


1- وسائل الشيعة -الحر العاملي- باب 8 من أبواب الأطعمة المحرمة ج 24 / ص125.

2- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص126.

3- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص126.