نحوسة صفر!!
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآله الطاهرين المعصومين
اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم وأكرمنا بنور الفهم وافتح علينا أبواب رحمتك وافتح علينا خزائن علومك ومعرفتك.
نحوسة صفر
ثمة نقولات يتداولها الناس يرون أنَّها قد وردت عن أهل البيت (ع) وحاصل هذه النقولات هي أن شهر صفر شهرٌ منحوس مشئوم تتنزل فيه البلايا والمحن على الناس، وإن اندفاع هذه البلايا لا يكون إلا بالتصدق على الفقراء عن كل فرد بسبع قطع من النقود، ويتناقلون فيما بينهم صلواتٌ مخصوصة بآخر أربعاء من شهر صفر ويرون أن الالتزام بها يدفع البلاء إلى شهر صفرٍ من السَّنة القادمة.
و انطلاقًا من المسئولية الدينية رأينا ضرورة التنبيه على مجموعة من الأمور:
الأمر الأول:
هو أنَّ هذه النقولات لم يثبت ورودها عن أهل البيت (ع) فلا يصح العمل بها على أساس أنَّها جزء من الدين كما لا يصح إسناد هذه الروايات إلى أهل البيت (ع) نظرًا لعدم ثبوت ذلك. نعم يستحب التصدق ولكن لا خصوصية في شهر صفر أو في آخر أربعاء من صفر وإنما لثبوت استحباب الصدقة في كل وقت ومكان.
الأمر الثاني:
وردت روايات كثيرة عن الرسول الكريم وأهل بيته (ع) تنسب النحس والشؤم لبعض الأيام والشهور إلا أن هذه الروايات على كثرتها إما أن تكون ضعيفة السند بل في أشد مراتب الضعف، وإما أن تكون موضوعة اختلقها بعض الكذابين ونسبها للرسول (ص) أو أحد الأئمة من أهل البيت (ع)، وهناك روايات يمكن الحكم على إسنادها بالصحة أو الاعتبار أفادت أن بعض الأيام موصوف بالنحوسة وبعضها موصوف باليُمن والبركة إلا أن المقصود منها ليس هو المعنى الذي يتوهمه الناس من أنَّ ثمة أيامًا تجتلب الشقاء والبلاء والمحن وأيامًا تقتضي الخير والنعيم وإنَّما المقصود منها هو أنَّ أيامًا وقع فيها حدث أو أحداث محزنة كموت واحدٍ من الأنبياء أو الأولياء وأيامًا وقع فيها خيرٌ عمَّ أثره على الناس، فوصْفُ بعض الأيام بالمشئومة والمنحوسة إنَّما هو لوقوع بعض الأحداث المُحزنة فيها، وليس معنى ذلك أن هذه الأيام تقتضي دائمًا وقوع ما هو مُحزن فيها كما أنَّ وصف بعض الأيام بالمباركة والميمونة إنَّما هو لاتفاق تنزُّل بعض النعم العامة في تلك الأيام كولادة النبيِّ الكريم (ص) أو انتصار المسلمين في معركة من المعارك، فإنَّ مثل هذه الأحداث لمَّا كان أثرها الصالح قد عمَّ الناس لذلك وُصف اليوم الذي وقعتْ فيه مثلُ هذه الأحداث بالمبارك والميمون، ومن ذلك وصف ليلة القدر بالمباركة، إذ أنَّه قد وقع في تلك الليلة حدثٌ لا زال النَّاس ينعمون بأثره الصالح وهو نزول القرآن الكرم.
والظَّاهر أنَّ تسمية الروايات بعض الأيام بالمشؤومة وبعض الأيام بالميمونة والمباركة كان لغرض ربط الناس معنوياً بالأحداث التي وقعت في تلك الأيام، فتسميةُ يوم عاشوراء بالمشؤوم كان لغرض ربط الناس بالفاجعة التي وقعت في ذلك اليوم، وهكذا كان الغرض من وصْفِ ليلة القدر بالمباركة.
فلأنَّ ربط الناس معنويا بمثل هذه الأحداث يُساهم في تعميق الصلة بالدين لذلك تمَّ وصفُها بالمباركة والمشؤومة.
الأمر الثالث:
إنَّ التشاؤم والتطيُّر من بعض الأيام والشهور وبعض الحيوانات والطيور، واعتقاد أنَّ لبعض الأزمنة دخلاً في وقوع المصائب والمِحن، إنَّ التَّشاؤم واعتقاد ذلك ثقافة كانت سائدةً في أوساط عرب الجاهلية وقد تصدَّى القرآنُ الكريم والرسولُ (ص) وأهلُ بيته (ع) لتسفيه هذه الثَّقافة ووصف المتبنِّي لها بالجهل وعدم الفهم.
قال تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾(1)، وهذه الآية المباركة تُعبِّر عن أن التشاؤم والتطيُّر لم يكن عرب الجاهلية يختصونَ به بل كان سائدا في أوساطِ مجتمعات سبقتهم.
وورد عن الرسول الكريم (ص) أنه قال: "ليس منَّا مَن تطيَّر أو تُطيِّر له أو تكهّن أو تُكُهِّن له سحر أو سُحِر له".
"وورد عن الإمام الرضا (ع) أنَّه سُئل: عن الخروج يوم الأربعاء لا يدور، أي آخر أربعاء من الشهر فقال (ع): مَن خرج يوم الأربعاء لا يدور خلافًا على أهل الطيرة وُقيَ من كلِّ آفة وعُوفي من كلِّ عاهة وقضى الله له حاجته".
فمفاد هذه الرواية هو التحريض على تحدِّي هذه الثقافة، ووعد من تمرَّد عليها بالوقاية من العاهات والمعافاة من الآفات والتوفيق لقضاء الحاجات.
وورد عن الإمام الهادي (ع) أنَّه دخل عليه الحسن بن مسعود فقال له: نكبت إصبعي - يعني جُرحت- وتلقَّاني راكبٌ وصدم كتفي، ودخلتُ في زحمةٍ فخرَّقوا عليَّ ثيابي، فقلتُ: كفاني الله شرَّكَ من يومٍ فما أشأمك. فقال لي (ع): "يا حسن هذا وأنت تغشانا ترمي بذنبك مَن لا ذنبَ له. قال الحسن: أستغفر الله أبدًا ، وهي توبتي يا بن رسول الله (ص). فقال (ع): "والله ما ينفعكم ولكن الله يعاقبكم بذمِّها على ما لا ذمَّ عليها فيه .. لا تعُد ولا تجعل للأيام صنعًا في حكم الله".
ثمَّ إنَّ الكثير من الروايات أكَّدت على أنَّ التشاؤم لا يعدو كونه أمرًا نفسانيًا لا أثر له في الواقع فإذا أصاب الإنسان من شيءٍ فليدفعه بالتوكُّل والاعتصام بالله عزَّ وجلَّ وبالدعاء والصدقة.
ورد عن النبيِّ الكريم (ص) أنَّه قال: "إذا تطيَّرت فامضِ، وإذا ظننت فلا تقضِ ..".
وورد عنه (ص) أنّه قال: "كفارةُ الطيرة التوكُّل".
وورد عن الإمام الكاظم (ع): "الشؤم للمسافر في طريقه سبعة أشياء، الغراب الناعق عن يمينه والكلب الناشر لذنبه، والذئب العاوي الذي يعوي في وجه الرجل وهو مقعٍ على ذنبه يعوي ثم يرتفع ثم ينخفض ثلاثا .. فمَن أوجس في نفسه منهنَّ شيئًا فليقل اعتصمتُ بك يا ربّ من شرِّ ما أجد في نفسي، فاعصمني من ذلك قال: فيُعصم من ذلك".
أكتفي بهذا المقدار نظرًا لضيق الوقت.
والحمد لله ربّ العالمين
الشيخ محمَّد صنقور
حديث الجمعة
26 / صفر / 1428هـ
1- سورة الأعراف / 131.