المعصية لا تُحبِط الطاعة

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

ذهب جمعٌ من العلماء في مبحث الحبط والتكفير إلى أن السيئة اللاحقة لا تُؤثر في الحسنة السابقة لعدة أدلة ذكروها في محلِّها إلا أنَّه بعد مراجعة الروايات تبيَّن لي خلاف ذلك وإليك بعضها:

1- ما عن أمالي الصدوق: حدثنا أحمد بن هارون الفامي، قال: حدثنا محمد بن عبد الله الحميري، عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي، عن أبيه، عن محمد بن سنان، عن أبي الجارود، عن أبي عبد الله الصادق، عن أبيه، عن جده (ع)، قال: قال رسولُ الله (ص): "من قال (سبحان الله) غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومَن قال (الحمد لله) غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال (لا إله إلا الله) له غرس اللهُ له بها شجرةً في الجنَّة، ومَن قال (الله أكبر) غرس اللهُ له بها شجرةً في الجنة. فقال رجل من قريش: يا رسول الله، إنَّ شجرنا في الجنة لكثير. قال: نعم، ولكن إيَّاكم أنْ تُرسلوا عليها نيرانا فتحرقوها، وذلك أنَّ الله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾(1)"(2) فإنَّ الرواية ظاهرة جدا في تأثير السيئة اللاحقة حتى شبَّه صلى الله عليه وآله ذلك بالإحراق، نعم الرواية ضعيفة السند من جهة محمد بن سنان.

2- ما رواه الكليني: عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عمرو بن عثمان، عن علي بن عيسى رفعه قال: إنَّ موسى (ع) ناجاه الله تبارك وتعالى فقال له في مناجاته .. ولا تحسد من هو فوقك فإنَّ الحسد يأكلُ الحسنات كما تأكلُ النارُ الحطب"(3). الدلالة واضحة كسابقتها، وهي كسابقتها من حيث السند للرفع.

3- ما رواه الكليني أيضا: عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله عز وجل: ﴿وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا﴾(4) قال: أما والله إنْ كانت أعمالهم أشدَّ بياضا من القباطي ولكن كانوا إذا عرض لهم الحرام لم يدعوه"(5). قال المازندراني في شرحه على الكافي: "وفيه دلالة على حبط الأعمال بالفسق سواءً كان كافرا أم غيره، وخصَّه بعضُ المفسرين بالكفر وهو على تقدير الكفر ظاهر، إذ لا عبرة بالفرع بعد فقد الأصل وهو الإيمان، وأما على تقدير غيره فلعلَّ المراد به حبط ما يُساويه مع بقاء الزائد، وفي هذا المقام كلام طويل".

هذا والنصوص في هذا المعنى كثيرة جدا تركتُ نقلها خشية الإطالة، فالإشكال من حيث السند ليس بشيء. فما هو تعليقكم؟

الجواب:

القول بعدم إحباط الطاعات بفعل المعاصي هو مذهب مشهور الإماميَّة خلافاً للمعتزلة، ودليلُهم على ذلك العديد من الآيات كقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(6).

وقوله تعالى: ﴿لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(7).

فالآيتان ظاهرتان في أنَّ الله تعالى سيجزى المؤمنين أحسن الجزاء على ما عملوا من الصالحات رغم أنَّ الآيتين تفترتضان أنَّ هؤلاء المؤمنين الموعودين بالجزاء قد ارتكبوا السيئات، فلو كانت السيئات مُحبِطة للطاعات لكان مقتضى ذلك بطلان الأثر من طاعاتِهم وهو الجزاء والأجر وهو ما يُنافي ظاهر الآيتين.

مناقشة ما استُدلَّ به على حبط الطاعة بالمعصية:

وأمَّا الروايات التي أدُّعي ظهورها في حبط الطاعة بالمعصية فهي على طائفتين:

الطائفة الأولى: ظاهرها أنَّ أثر الطاعة وهو الثواب مشروطٌ من أول الأمر بعدم ارتكاب بعض المعاصي المعيَّنة كترك الصلاة، فتاركُ الصلاة لا يُثاب على طاعاته الأخرى كما يظهر ذلك من بعض الروايات، ومعناه أنَّ اِستحقاق الثواب على كلَّ طاعة منوطٌ بعدم ترك الصلاة أي أنَّ ثواب الطاعات مراعى من أول الأمر بعدم ترك الصلاة، فالطاعاتُ بمقتضى ذلك ليس لها تأثير في ترتُّب الثواب ما لم ينضمَّ إليها عدمُ ترك الصلاة.

وعليه فلو أنَّ أحداً فعل الطاعات ثم ترك الصلاة فإنَّه لا يستحقُّ ثواباً، وليس ذلك من الحبْط المتنازََع على ثبوته، إذ أنَّ هذا الذي ترك الصلاة لم يكن قد استحقَّ ثواباً على طاعاته، وذلك لأنَّ استحقاقه للثواب كان مُراعى من أول الامر بعدم ترك الصلاة، فلم يكن في البين ثوابٌ قد تمَّ حبْطُه، نعم كانت لطاعاته شأنية الاستحقاق للثواب، أمَّا فعلية الاستحقاق فهو منوطٌ بعدم ترك الصلاة، فإذا كان قد ترك الصلاة فإنَّ ذلك يكشف عن أنَّه لم يكن مستحقاً للثواب من أول الأمر.

فتركُ الصلاة لم يُحبِط ثواب طاعاته بل منع من استحقاقه، وهذا ليس من الحبط الذي هو نفي الثواب المستحقِّ فعلاً بفعل المعصية اللاحقة.

وأما الطائفة الثانية: فهي ظاهرة في أنَّ المعصية تُحبِط الثواب المستحقِّ فعلاً على الطاعة إلا أنَّ هذه الطائفة من الروايات لا تصلحُ لإثبات دعوى الحبْط إمَّا لأنها أخبار آحاد كما أفاد العلامة المجلسي، على أنَّ العديد منها ضعيفُ السند أو لأنّها منافيةٌ لظاهر القرآن الكريم، وهو ما يقتضي صرفها عن ظاهرها بما لا يتنافى مع ظاهر القرآن الكريم.

وللمزيد من البيان يمكنكم مراجعة ما ذكرناه في المقال المعنون بـ "إحباط الطاعة".

ثم إنَّ الرواية المنقولة عن أمالي الصدوق رحمه الله تعالى ليست ظاهرة في أنَّ كلَّ معصيةٍ لاحقة فإنَّها تُحبط الطاعات المتقدمة، فلعلَّ المراد من النيران التي تُحرق الشجرات -التي وعد بها النبي (ص)- هي من قبيل ترك الصلاة أو التي هي من قبيل الجحود بولاية أهل البيت (ع) حيث أنَّ استحقاق الثواب على الطاعات منوطٌ بولايتهم كما نصَّت على ذلك الروايات المتواترة.

ولعلَّ استشهاده (ص) بالآية المباركة مشعرٌ بذلك، فقد ورد في بعض الروايات في مقام تطبيق الآية أنَّ عداوة أهل البيت (ع) تُبطل الأعمال.

ففي تفسير فرات بن إبراهيم بسنده عن يزيد بن فرقد النهدي قال: "قال جعفر بن محمد (ع) في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾(8) وقال: عداوتُنا تبطل أعمالهم"(9)

وأمَّا رواية الكليني الأولى فيمكن تأويلها بأنَّ الحسد يُفضي إلى العديد من المعاصي كالقتل أو الإعانة عليه والغيبة والنميمة والبهتان وغيرها من أنواع الظلم والبغي على المحسود، ومثل هذه الذنوب تجعل الحسنات في قوة العدم من جهة أنَّها لا تمنعُ فاعلها من دخول النار فكأنَّها قد تآكلت بفعل السيئات فلم تُنتج الأثر المهمِّ والمُنتظَرِ منها وهو المنع من دخول النار.

فليس المقصود من الرواية أنَّ الحسنات بسبب الحسد لا يكون لها تأثير أصلاً وأنَّ أثرها يتلاشا وينعدم بفعل الحسد وتبعاتِه بل المقصود هو أنَّ وزنَ الحسنات يُصبح بفعل الحسد مرجوحاً فلا يُؤثر في المنع من دخول النار، نعم قد يُؤثر في تخفيف العذاب أو التقليل من أمده أو استحقاق الدخول للجنَّة بعد المكث في جهنم ردحاً من الزمن. فالحسناتُ لم تُحبَط بفعل الحسد وإنَّما رجح أثرُ السيئات على أثرها.

وبهذا البيان يمكن توجيه الرواية الثالثة بانْ يُقال أنَّ فعل هؤلاء للخيرات لم يُؤثِّر في المنع من دخول النار، وذلك لكثرة ما كانوا يرتكبونه من المحرامات، فهم يقتحمون الحرام في كلِّ فرصةٍ سانحة وذلك هو ما صيَّر أفعالهم الخيِّرة في قوة العدم من حيث التأثير في المنع من استحقاق العذاب.

ولعلَّ ما يؤيد أنَّ منشأ صيرورة أعمالِهم هباءً منثورا هو كثرة ارتكابهم للكبائر من الذنوب هو وصفهم بالمجرمين في الآية التي سبقت الآية المذكورة في الرواية قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا / وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا﴾(10).

على أنَّ الرواية ليست صريحة في أنَّ المقصودين من الآية المباركة هم المؤمنون، فلعلَّ المقصودين منها هم الكفار، وعليه تكون خارجة عن محلِّ النزاع وقوله (ع): "إنَّ أعمالهم كانت أشدَّ بياضاً من القباطى" ليس ظاهراً في أنَّها كانت طاعات فلعلَّها كانت من قبيل الإحسان للضعفاء والذي قد يصدر عن الكافرين لدوافع إنسانية أو شخصية.

فالرواية ليس لها ظهورٌ قويٌّ في دعوى حبْط الطاعة بفعل المعصية اللاحقة كما أنَّ العديد من الروايات التي استُدلَّ بها على هذه الدعوى ليست أحسن حالاً من هذه الرواية، وفي مقابل ذلك ظهور العديد من الآيات في نفي دعوى الحبط، وكذلك هو ظاهر الكثير من الروايات.

كالتي دلَّت على أنَّ المؤمن قد يُعذَّب على ارتكابه بعض الذنوب ثم يدخل الجنة أو التي دلَّت على أنَّه قد يعذَّب في القبر فيأتي يوم القيامة طاهراً من الذنوب أو التي دلَّت على أنَّ الشفاعة تُدرك المؤمنين فتنفي عنهم أثر الذنوب. وكلُّ ذلك ظاهرٌ جداً في أنَّ المعاصي لم تُّنتج حرمان المؤمن من طاعاته.

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور


1- سورة محمد / 33.

2- الأمالي -الشيخ الصدوق- ص705.

3- الكافي -الشيخ الكليني- ج8 / ص42.

4- سورة الفرقان / 23.

5- الكافي -الشيخ الكليني- ج2 / ص81.

6- سورة العنكيوت / 7.

7- سورة الزمر / 35.

8- سورة محمد / 33.

9- تفسير فرات الكوفي -فرات بن إبراهيم الكوفي- ص420.

10- سورة الفرقان / 22-23.