مناقشة لسند حديثٍ مُختلَق

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

ما صحَّة هذا الحديث الوارد في كتاب اختيار معرفة الرجال للكشي أنَّ عليًا (ع) قال وهو على منبر الكوفة: "لا أوتى برجل يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري"(1).

الجواب:

الحديث المذكور من الموضوعات، وكان يحسن بمن احتجَّ به عليك أن يكون منصفًا وموضوعيًّا، حيث إنَّ الحديث المذكور وقع في سياق مجموعة من الأحاديث وصفها الإمام الصادق (ع) بالكذب، فلم يكن ينبغي ممن احتجَّ بهذا الحديث أن يُخرجه من سياقه؛ لأنَّ ذلك من التدليس المستقبح عند العقلاء وذوي الإنصاف.

فالسياق الذي وقع فيه الحديث هو أنَّ جماعةً دخلوا على أبي عبد الله الصادق (ع) يسألونه الحديث أي أنَّهم يريدون أن يتعلموا منه ما يرويه من أحاديث فطلب منهم الإمام الصادق (ع) أن يرووا له بعض ما سمعوه من أحاديث فأخذ أحدهم يروي عن سفيان الثوري عن جعفر بن محمد الصادق (ع) وعن الإمام محمد بن عليٍّ الباقر (ع) وروى أيضًا عن عمرو بن عبيد عن الحسن وعن نعيم بن عبد الله عن الصادق وعن يونس بن عبيد عن الحسن وعن عباد عن جعفر الصادق (ع)، فكان مجموع الأحاديث التي رواها أحد عشر حديثًا، وكان أكثر ما رواه عن جعفر بن محمد الصادق (ع).

فلمَّا انتهى الرجل ممَّا كان ينقله قال له الإمام الصادق (ع): "من أيِّ البلاد أنت؟ فقال من البصرة، قال (ع): هذا الذي تُحدِّث عنه وتذكر اسمه جعفر بن محمد هل تعرفه؟ قال: لا، قال (ع): هذه الأحاديث عندك حق؟ قال: نعم، قال: فمتى سمعتها؟ قال: لا أحفظ إلا أنَّها أحاديث أهل مصرنا منذ دهرنا لا يمترون فيها، قال له أبو عبدالله (ع): لو رأيت هذا الرجل الذي تُحدِّث عنه فقال لك هذه التي ترويها عنّي كذب وقال لا أعرفها ولم أحدِّث بها هل كنتَ تصدقه؟ قال: لا!! قال (ع): ولم؟ قال: لأنَّه شهد على قوله رجالٌ لو شهد أحدهم على عتق رجل لجاز قوله"(2).

فقال (ع): "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم حدثني أبي عن جدّي... ومن كذب علينا أهل البيت حشره الله يوم القيامة أعمى يهوديًّا، وإنْ أدرك الدَّجال آمن به، وإنْ لم يدركه آمن به في قبره .. وقام القوم فانصرفوا وقد كتبوا الحديث الذي سمعوه منه. ثم إنَّه خرج ووجهه منقبض، ثم قال الإمام الصادق لميمون بن عبد الله -والذي كان حاضرًا في المجلس حينذاك بحسب الرواية- أما سمعت ما يحدِّث به هؤلاء؟ وقال: عجُب حديثهم كان عندي الكذبُ علي والحكايةُ عنّي ما لم أقل ولم يسمعه عني أحد وقولهم لو أنكر الأحاديث ما صدَّقناه، ما لهؤلاء لا أمهل الله لهم ولا أملى عليهم .."(3).

هذا هو ذيل الرواية التي ذكرها الكشي، وكان من الموضوعيَّة والإنصاف نقلها بتمامها أو عدم إخراجها من سياقها، فهي صريحة في تكذيب الإمام الصادق (ع) لما أورده هذا المحدِّث من أراجيف. هذا أولاً.

وثانيًا: الرواية منقولة عن رجل مجهولٍ لم يُذكر، فهي ضعيفة لذلك، وهي كذلك مبتلاة بإشكالٍ سنديٍّ آخر، وهو أنَّ الرجل المحدِّث رواها عن سفيان الثوري وهو ليس من أصحابنا كما أفاد ذلك العلامة الحلِّي في كتابه خلاصة الأقوال وابن داود الحلِّي في كتابه رجال ابن داود وأفاد أنه ليس من عدادنا. وأفاد الطريحي في مجمع البحرين أنَّ سفيان الثوري كان في شرطة هشام بن عبد الملك وهو ممن شهد قتل زيد بن علي بن الحسين، فإمَّا أن يكون ممن قتله أو أعان عليه أو خذله. وقد نقل الكشي والكليني اعتراضه في موارد عديدة على الإمام الصادق (ع)، وأفاد الشيخ علي النمازي الشاهرودي أنَّ سفيان الثوري مذموم ملعون.

فإذا لم يكن سفيانٌ منّا فكيف يُحتجُّ بنقله علينا، هذا بقطع النظر عن حاله فهو على أسوأ التقادير غير موثَّق عند علمائنا وهو كافٍ في سقوط خبره عن الحُجِّية.

ثالثاً: إنَّ مَن روى عنه سفيان الثوري هو محمد بن المنكدر، وهو مضافًا إلى كونه من أبناء العامة الذي لا يصحُّ أن يُحتج بنقلهم علينا، فهو مضافًا إلى ذلك لا يمكن أن يكون قد أدرك عليًّا (ع) في حين أنَّ الرواية أفادت أنَّ محمد بن المنكدر رأى عليًّا (ع) وهو على منبر الكوفة يقول: "لئن أتيت برجل يفضلني على أبي بكر وعمر لأجلدنّه حدَّ المفتري".

كيف يكون قد رأى عليًّا (ع) وهو قد استُشهد سنة أربعين من الهجرة، ومحمد بن المنكدر معاصر للإمام الصادق(ع) وأدرك الباقر والسجاد (ع) ظاهرًا، وكانت سنة وفاة ابن المنكدر مائة واثنتين وثمانين كما ذكر ذلك الشيخ الطوسي في الرجال. وهذا يعني أنه تُوفي بعد استشهاد الإمام علي (ع) بمائة واثنتين وأربعين سنة، هذا بناء على ما أفاده الشيخ الطوسي في الرجال، وأما بناء على ما يذكره ابن حبّان -وهو من أكابر علماء السنَّة- فإن محمد بن المنكدر مات سنة مائة وثلاثين وكان قد نيَّف على السبعين.

وهذا يعني أنَّه مات بعد وفاة الإمام علي (ع) بتسعين سنة تقريبًا، فإذا كان قد نيَّف على السبعين كما أفاد ابن حبّان فولادته كانت بعد وفاة علي بن أبي طالب (ع) بعشرين سنة تقريبًا أو أقل بقليل، فكيف تسنَّى له رؤية علي (ع) على منبر الكوفة.

رابعاً: إنَّ هذا الحديث منافٍ لما ثبت بالدليل القطعي من القرآن والسنة على أفضلية علي (ع) على جميع الصحابة حتى قال أحمد بن حنبل كما في المستدرك للحاكم النيسابوري "إنَّه ما جاء لأحد من أصحاب الرسول من الفضائل ما جاء لعليّ بن أبي طالب"(4).

وذكر ابن عبد البر في الاستيعاب أنَّه: قال أحمد بن حنبل وإسماعيل بن إسحاق القاضي "لم يُروَ في فضائل أحد من الصحابة بالأسانيد الحسان ما رُوي في فضائل عليِّ بن أبي طالب، وكذلك أحمد بن شعيب النسائي(5).

وفي كتاب الصواعق المحرقة لابن حجر العسقلاني أنَّه أخرج ابن عساكر عن أبي عباس قال: "ما نزل في أحدٍ من كتاب الله تعالى ما نزل في علي" قال: وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال: "نزل في علي ثلاثمائة آية"(6).

هذا وبإمكانك مراجعة مقالنا "أفضلية عليٍّ على الصحابة" فقد نقلنا فيه بعض الروايات المعتبرة الواردة من طرق السنة الصريحة في أفضلية عليٍّ (ع) على سائر الصحابة.

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور


1- اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) -الشيخ الطوسي- ج2 / ص695.

2- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج47 / ص356.

3- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج47 / ص357.

4- المستدرك -الحاكم النيسابوري- ج3 / ص107.

5- الاستيعاب -ابن عبد البر- ج3 / ص1115.

6- الصواعق المحرقة -ابن حجر العسقلاني- ج2 / ص373 / الطبعة الأولى، مؤسسة الرسالة.