لماذا يحرِّم السلفيُّون زيارة النساء للقبور

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

لماذا يحرِّم السلفيُّون زيارة النساء للقبور؟

الجواب:

منشأ ذلك هو ما ورد في سنن ابن ماجه أنَّ رسول الله (ص) قال: "لعن الله زوّارات القبور"(1) إلاّ أنَّ هذا الحديث مُعارَض بما ورد عن الرسول (ص) في صحيح مسلم في باب ما يُقال عند دخول القبور في الجزء الثالث وما ورد في السنن للنسائي عن عائشة أن النبي (ص) قال لها: "أمرني ربِّي أنْ آتي البقيع فاستغفر لهم، قلتُ: كيف أقول يارسول الله (ص) قال: "قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يرحم الله المستقدمين والمستأخرين، وإنَّا إنْ شاء الله بكم لاحقون"(2).

فإنَّ الرواية ظاهرة جدًا في أنَّ الأمر-الذي خوطب به النبي (ص)- بزيارة قبور البقيع والاستغفار لأصحابها لا يختصُّ به ولا بالرجال بل يعمُّ النساء، لأنَّ عائشة حين سألته عمَّا تقول عند زيارة القبور علَّمها ماذا تقول، وفي ذلك إمضاء منه لما فهمته من شمول الخطاب بزيارة القبور لمثلها.

زيارة السيدة فاطمة (ع) لقبر الحمزة:

وورد في المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: "أنَّ السيدة فاطمة الزهراء (ع) كانت تخرج إلى زيارة قبر عمِّها حمزة في كلِّ جمعة، وكانت تصلِّي عند قبره وتبكي"(3).

ثم علَّق على سند الحديث بما نصُّه: "هذا الحديث رواته عن آخرهم ثقات وقد استقصيتُ في الحثِّ على زياره القبور تحريًا للمشاركة في الترغيب وليعلم الشحيح بذنبه أنَّها سنة مسنونة".

وأورد نفس الحديث في موضع آخر من كتابه مع اختلافٍ يسير: إنَّ فاطمة بنت النبيِّ صلى الله عليه واله كانت تزور قبر عمِّها حمزة بن عبد المطلب في الأيام فتصلِّي وتبكي عنده، ثم علَّق على سند الحديث بقوله: "هذا حديث صحيح الاسناد ولم يُخرجاه"(4).

فالرواية من حيث السند صحيحة كما أفاد الحاكم، وهي صريحةٌ في أنَّ السيدة فاطمة (ع) كانت تُداوم على زيارة قبر الحمزة، فلو كان ذلك محرماً لما خفيَ على السيدة فاطمة (ع) خصوصاً وأنَّ الرواية صريحة في أنَّ صدور ذلك منها كان على نحو الدوام والكثرة كما هو مقتضى الفاصلة الزمنية بين كلِّ زيارةٍ والزيارة الأخرى، فهي لا تتجاوز الأسبوع كما هو مفاد الرواية، فمقتضىاها ليس هو الجواز فحسب بل هو الرجحان والاستحباب لاِمتناع أنْ يصدر عن السيدة فاطمة (ع) فعلاً من هذا القبيل على نحو الدوام ثم لا يكون راجحاً ومتلقَّى عن الرسول الكريم (ص).

زيارة عائشة لقبر أخيها:

وكذلك ورد في المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري بسنده عن عبد الله بن أبي مليكة أنَّ عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر فقلتُ لها: يا أُمَّ المومنين مِن أين أقبلتِ؟ قالتْ: من قبر أخي عبد الرحمن بن أبي بكر فقلتُ لها: أليس كان رسول الله صلَّى الله عليه وآله نهى عن زيارة القبور قالتْ: نعم كان نهى ثم أمر بزيارتها(5).

وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد عن عائشة أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن زياره القبور ثم رخَّص فيها، أحسبُه قال: فانَّها تُذكِّر الآخرة. ثم قال: رواه البزار ورجاله ثقات"(6).

وعلَّق الألباني على سند الحديث في كتابه أحكام الجنائز بما نصُّه: أخرجه الحاكم وعنه البيهقي من طريق بسطام بن مسلم عن أبي التياح يزيد بن حميد عن عبد الله بن ابي مليكه، والرواية الاخرى لابن ماجه قلتُ: سكت عنه الحاكم، وقال الذهبي (صحيح)، وقال البوصيري في (الزوائد): (إسناده صحيح رجاله ثقات). وهو كما قالا. وقال الحافظ العراقي في (تخريج الاحياء): (رواه بن ابي الدنيا في (القبور) والحاكم باسناد جيِّد)(7).

واستغرب في هامش كتابه من غمز ابن القيِّم في سند الحديث بسبب بسطام بن مسلم قال: قلتُ: وقد أعلَّه ابنُ القيم بشئيءٍ عجيب إلى أن قال: وبسطام ثقة بدون خلافٍ أعلمه، فلا وجه لغمز ابن القيِّم له، والاسناد صحيح لا شبهةَ فيه(8).

مرور النبيِّ (ص) على امرأةٍ عند قبرٍ تبكي:

وروى البخاري بسنده عن أنس بن مالك قال مرَّ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم بامرأةٍ عند قبرٍ وهي تبكي فقال: اتقي الله واصبري قالت إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه فقيل لها إنه النبي صلى الله عليه وسلم فأتت باب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم تجد عنده بوابين، فقالت لم أعرفك فقال إنما الصبر عند الصدمة الأولى"(9).

وفي الرواية تقريرٌ بجواز زيارة النساء للقبور وإلا لو كان الفعل محرماً لردع النبيُّ (ص) هذه المرأة عمَّا كانت تفعله من الجلوس والبكاء عند القبر، وهذا هو مافهمه الكثير من علماء العامة من الرواية.

قال العيني في كتابه عمدة القاري تعليقاً على الرواية: "وفيه جواز زيارة القبور مطلقاً، سواءً كان الزائر رجلاً أو امرأة، وسواء ًكان المزور مسلماً أو كافرا، لعدم الفصل في ذلك"(10).

وقال الحافظ ابنُ حجر في فتح الباري: "وموضع الدلالة منه أنَّه (ص) لم يُنكر على المرأة قعودها عند القبر، وتقريره حجَّة"(11).

و قال ابنُ حجر أيضاً: "واستدلَّ به على جواز زيارة القبور سواءً كان الزائر رجلا ًأو امرأة كما تقدَّم، وسواءً كان المزور مسلماً او كافراً لعدم الاستفصال في ذلك، قال النووي وبالجواز قطع الجمهور"(12).

وقال الشربيني في مغني المحتاج تعليقاً على الرواية: "فلو كانت الزيارة حراماً لنهى عنها"(13).

وقال البكري الدمياطي في كتابه إعانة الطالبين: "وانَّما لم تحرم لانَّه (ص) مرَّ بامرأة تبكي على قبر صبيٍّ لها، فقال لها: اتقي الله واصبري "متفقٌ عليه" فلو كانت الزيارة حراماً لنهي عنها"(14).

وقال الألباني في أحكام الجنائز تعليقاً على الرواية: "وما دلَّ عليه الحديث من جواز زيارة المرأة هو المتبادر من الحديث، ولكن إنَّما يتمُّ ذلك اذا كانت القصة لم تقع قبل النهي، وهذا هو الظاهر، إذا تذكرنا ما اسلفناه من بيان أنَّ النهي كان في مكة، وأنَّ القصة رواها أنس وهو مدنيٌّ جاءت به أُمُّه ام سليم إلى النبيِّ (ص) حين قدم المدينة، وأنس ابن عشر سنين، فتكون القصة مدنيَّة، فثبت أنَّها بعد النهي فتمَّ الاستدلال بها على الجواز"(15).

روايات رفع الحظر عن زيارة القبور:

هذا مضافا إلى الروايات العامَّة التى أعلن فيها النبيُّ (ص) إنتهاء أمد الحظر والمنع من زيارة القبور وهي رويات عديدة:

منها: ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: نهيتُكم عن زياره القبور فزوروها .."(16).

ومنها: ما رواه الحاكم النيسابوري بسنده عن أبي سعيدٍ الخدري أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال: نهيتُكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنَّ فيها عِبرة" ثم علَّق على سند الحديث بقوله: "هذا حديثٌ صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه "(17).

ومنها: مارواه الحاكم النيسابوري بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله:" كنتُ نهيتُكم عن زياره القبور ألا فزوروها، فانَّه يرقُّ القلب وتُدمع العين وتُذكِّر الآخرة، ولا تقولوا هجرا"(18).

وصف الألباني في أحكام الجنائز سند الحديث بالحسن.

فمثل هذه الروايات ظاهرةٌ في أنَّ المخاطَبين بالأمر والرخصة هم مَن كان مخاطباً بالمنع، وهم عموم المسلمين من الرجال والنساء، فإنَّ المنع عن زيارة القبور كان شاملاً للنساء دون ريب، ويؤيِّده أنَّ رفع الحظر عن زيارة القبور قد اقترن في رواياتٍ عديدة برفع الحظر عن أُمور كان قد نهى عنها النبيُّ (ص) وكان النهيُ عنها غير مختصٍ بالرجال، وكذلك لم يقع خلافٌ في أنَّ رفع الحظر عنها كان شاملاً للنساء مثل ادخار لحوم الأضاحي، فمِن ذلك رواية مسلم في صحيحه بسنده عن بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نهيتُكم عن زيارة القبور فزوروها ونهيتُكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتُكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأسقية كلِّها ولا تشربوا مُسكراً"(19).

وممَّا يؤكِّد شمول رفع الحظر عن زيارة القبور للنساء التعليلات التي أفادها النبيُّ (ص) لرفع الحظر عن زيارة القبور مثل التذكير بالآخرة وترقيق القلب وإدرار الدمع والاعتبار، وكلُّ هذه التعليلات لا تختصُّ بالرجال دون النساء، وهو ما يُنتج استظهار أنَّ النبيَّ (ص) أراد من رفع الحظر رفعه عن عموم الرجال والنساء.

فدعوى اختصاص ارتفاع الحظر بالرجال خلاف الظاهر جداً ولا يُصار إليه دون دليل، وتوهُّم أنَّ رواية ابن ماجه تصلح دليلاً على اختصاص الرخصة بالرجال يدحضها أنَّ أكثر الروايات التي دلَّت على جواز زيارة النساء للقبور وقعت في المدينة، ومن المعلوم أنَّ الحظر كان قد وقع في مكة، وكان منشؤه أنَّ المسلمين حينذاك حديثوا عهدٍ بالجاهلية، فأراد النبي (ص) من منعهم ترويضهم على ترك ماكان يفعله عربُ الجاهلية قبل الاسلام، قال النووي في كتابه المجموع: "وكان النهي أولاً لقرب عهدهم من الجاهلية، فربما كانوا يتكلمون بكلام الجاهلية الباطل، فلمَّا استقرَّت قواعد الاسلام وتمهَّدت أحكامه واستشهرت معالمُه أُبيح لهم الزيارة، واحتاط صلَّى الله عليه وآله وسلم بقوله: ولا تقولوا هجرا"(20).

على أنَّ رواية ابن أبي مليكة صريحة في أنَّ زيارة عائشة لقبر أخيها وقعت بعد وفاة النبي (ص).

فإذا كانت الروايات الدالة على جواز زيارة النساء للقبور قد وقعت في المدينة فذلك يقتضي وقوعها بعد ارتفاع الحظر، وهو ما يدلُّ على أنَّ الروايات العامة كانت شاملة للنساء من أول الأمر، وجاءت الروايات الخاصَّة معضِّدة للروايات العامَّة الرافعة للحظر عن عموم المسلمين.

هذا بالإضافة إلى السيرة المتشرِّعيَّة من زمن الصحابة إلى يومنا هذا والمعبِّرة عن تلقِّي جواز زيارة النساء للقبور عن الرسول الكريم (ص). ولعلَّه لكلِّ ذلك ذهب مشهور علماء العامة إلى جواز زيارة النساء للقبور كما هو الشأن في زيارة الرجال.

توجيه رواية ابن ماجة:

وأمَّا ما قد يُقال من أنَّ رواية ابن ماجه وإنْ لم تكن مقتضية للحرمة بمقتضى ما تقدَّم إلا أنَّها مقتضية لكراهة زيارة النساء للقبور، فجوابه أنَّ رواية ابن ماجة لا تصلح لاثبات هذا المقدار أيضاُ، لأنَّ الظاهر من روايات رفع الحظر هو رجحان زيارة القبور كما هو مقتضى التعليلات التي ساقها النبيُّ (ص) في مقام بيان المنشأ من رفع الحظر، فزيارة القبور -بحسب هذه الروايات- ترقِّق القلب وتُدمع العين وتُذكِّر الآخرة، وهي في ذات الوقت عبرة، ولحن هذه التعليلات هو الحثُّ على زيارة القبور كما هو واضح، وكذلك فإنَّ استمرار السيِّدة فاطمة (ع) على زيارة قبر الحمزة وتصدِّي النبيِّ (ص) لتعليم عائشة ما تقوله عند الزيارة من أذكارٍ ودعاء ظاهرٌ في رجحان زيارة القبور للنساء كما هو الشأن للرجال.

ولهذا لابدَّ من طرح رواية ابن ماجه لمنافاتها لما هو أكثر منها عدداً وأصحُّ سنداً أو حملها على الزيارة للقبور جزعاً كما تُشعر بذلك صيغة المبالغة التي وردت في الرواية "زوارات القبور" فإنَّ من المحتمل قويَّاً أنَّ الإكثار إلى حدِّ التوصيف لهنَّ بزوَّارات القبور هو أنَّ زيارتهن تنشأ عن جزعٍ على موتاهن.

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور


1- سنن ابن ماجة -محمد بن يزيد القزويني- ج1 / ص502.

2- سنن النسائي -النسائي- ج4 / ص93.

3- المستدرك -الحاكم النيسابوري- ج1 / ص377.

4- المستدرك -الحاكم النيسابوري- ج3 / ص28.

5- المستدرك -الحاكم النيسابوري- ج1 / ص376.

6- مجمع الزوائد -الهيثمي- ج3 / ص58.

7- أحكام الجنائز -محمد ناصر الألباني- ص181.

8- أحكام الجنائز -محمد ناصر الألباني- ص182.

9- صحيح البخاري -البخاري- ج2 / ص79.

10- عمدة القاري -العيني- ج8 / ص68.

11- فتح الباري -ابن حجر- ج3 / ص118.

12- فتح الباري -ابن حجر- ج3 / ص120.

13- مغني المحتاج -محمد بن أحمد الشربيني- ج1 / ص365.

14- إعانة الطالبين -البكري الدمياطي- ج2 / ص161.

15- أحكام الجنائز -محمد ناصر الألباني- ص184.

16- صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج3 / ص65.

17- المستدرك -الحاكم النيسابوري- ج1 / ص375.

18- المستدرك -الحاكم النيسابوري- ج1 / ص376.

19- صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج3 / ص65.

20- المجموع -محيى الدين النووي- ج5 / ص310.