الجلوس على مائدة يُشرَبُ عليها الخمر

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

نُدعى في بعض الأحيان على وجبة عشاء أو غذاء في أحد الفنادق ونُفاجىء بوضع الخمور على المائدة لأنَّ في الحاضرين من يشربها فما هي وظيفتنا في مثل هذه الحالة خصوصاً أن ذلك يقع في إطار عملنا؟

الجواب:

لا يجوز الجلوس والأكل من مائدةٍ يُشرب عليها الخمر كما هو المشهور شهرةً عظيمة بين الفقهاء، وكذلك يحرم الجلوس لو كان على المائدة غير الخمر من المسكرات بل أفتى جمعٌ من الفقهاء أنَّ مَن جلس على مائدةٍ يُشرب عليها الخمر كان مستحقَّاً للتعزير بما يراه الإمام، ذكر ذلك مثل الشيخ الطوسي في كتاب النهاية قال: "ولا أنْ يجلس على مائدةٍ يُشرب عليها شيءٌ من ذلك، خمراً كان أو غيره. وكذلك الحكم في الفقَّاع، فمتى فعل ذلك كان عليه حدُّ التأديب حسب ما يراه الامام"(1).

وأفاد ذلك أيضا القاضي ابنُ البراج في المهذَّب(2) وابن ادريس الحلِّي في السرائر(3) والعلامة الحلِّي في تحرير الأحكام(4).

أمَّا ما يُستدلُّ به على حرمة الجلوس على مائدةٍ يُشرب عليها الخمر فرواياتٌ عديدة وردت عن أهل البيت (ع):

منها: ما ورد في صحيح هارون بن الجهم عن أبي عبد الله (ع) أنَّه قال: قال رسول الله (ص) "ملعونٌ ملعون مَن جلس على مائدةٍ يُشرب عليها الخمر"(5).

ومنها: ما رواه الصدوق بسنده عن الحسين بن زيد عن أبي عبد الله عن آبائه عن النبيِّ (ص) في حديث المناهي قال: "ونهى عن الجلوس على مائدةٍ يُشرب عليها الخمر"(6).

ومنها: ما رواه محمد بن علي بن الحسين الصدوق قال: قال الصادق (ع): لا تُجالسوا شرَّاب الخمر، فانَّ اللعنة اذا نزلت عمَّت مَن في المجلس"(7).

ومنها: ما رواه الكليني بسندٍ معتبر عن جرَّاح المدائني عن أبي عبد الله (ع) قال: قال رسول الله (ص): "مَن كان يُؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأكل على مائدة يُشرب عليها الخمر"(8).

فمقتضى ظهور معتبرة هارون بن الجهم أنَّ محض الجلوس على المائدة التي يُشرب عليها الخمر محرمٌ حتى وإنْ لم يأكل معهم، وكذلك هو مقتضى ظهور حديث المناهي ومرسلة الصدوق عن الإمام الصادق (ع)، نعم الظاهر من معتبرة جراح المدائني هو حرمة الأكل من المائدة دون الجلوس إلا أنَّ ذلك لا ينفي حرمة الجلوس حتى في فرض عدم الأكل كما هو المُستفاد من مثل معتبرة هارون، فرواية جرَّاح متصدِّية للنهي عن الأكل دون أنْ يكون لها ظهور في إباحة الجلوس، فلا تنافي بين الروايات، غايته أنَّ رواية جرَّاح متصدية لبيان حكم الأكل وساكتة عن بيان حكم الجلوس، وأمَّا مثل معتبرة هارون فهي متصدِّية لبيان حكم الجلوس ومقتضية لحرمة الأكل إذا كان مستلزمًا للمكث فيكون الأكل محرَّماً لا لذاته وإنَّما لإقتضائه الجلوس.

وأمَّا ما يدلُّ على حرمة الجلوس على مائدة يُشرب عليها مطلق المسكر وإنْ لم يكن خمراً فمعتبرة عماربن موسى الساباطي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سُئل عن المائدة إذا شُرب عليها الخمر أو مسكر قال: حرمتْ المائدة"(9).

فإنَّ المستظهر عرفاً هو أنَّ تحريم المائدة التي يُشرب عليها المسكر إنَّما نشأ عن أنَّ التناول منها يستلزم المكث ولو آناً مًا، فالمكثُ هو منشأ التحريم وإلا فالطعام الذي على المائدة مباحٌ في حدِّ نفسه بحسب الفرض، ومن هنا تكون الرواية ظاهرة في حرمة الجلوس على المائدة التي يُشرب عليها المسكر.

ثم إنَّ معتبرة عمار مقتضية لإثبات حكمٍ آخر غير حرمة الجلوس وفعل الأكل، وهذا الحكم هو حرمة الطعام الذي على المائدة وإنْ كان مباحاً في حدِّ نفسه، فما تقتضيه مثل معتبرة جرَّاح هو حرمة الأكل، وأمَّا معتبرة عمار فتقتضي حرمة المأكول، فإنَّ ذلك هو الظاهر من قوله (ع): "حرمت المائدة" فمتعلَّق الحرمة هو نفس الطعام الذي على المائدة، فيكون شأنه بمقتضى ذلك هو شأن لحم الخنزير، وليس شأنه هو شأن الخبز المغصوب مثلاً حيث تكون حرمته متمحِّضة في حرمة فعل الأكل ويكون المأكول مباحاً.

وأمَّا أنَّ الحضور إلى هذه الموائد يكون في إطار العمل فهو لا يُبرِّر الجواز، فالجلوس على هذه الموائد محرمٌ حتى ولو كان واقعاً في إطار العمل، فهو من الممالئة على منكرٍ هو من أوبق المنكرات، ولذلك فإنَّ كلَّ مَن جلس على مثل هذه الموائد فهو مشمولٌ للَّعن، ولو مات في هذه الحال فقد مات على معصية الله تعالى وفي موضعٍ يسخطه الله تعالى ورسوله (ص)، وهذا هو منشأ التحذير الوارد في الحديث المعتبر عن أمير المؤمنين (ع) قال: "ولا تجلسوا علي مائدةٍ يُشرب عليها الخمر فانَّ العبد لا يدري متى يُوخذ"(10).

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور


1- النهاية -الشيخ الطوسي- ص712.

2- المهذب -القاضي ابن البراج- ج2 / ص535.

3- السرائر -ابن إدريس الحلي- ج3 / ص477.

4- تحرير الأحكام -العلامة الحلي- ج5 / ص346.

5- وسائل الشيعة (الإسلامية) -الحر العاملي- ج16 / ص401.

6- من لا يحضره الفقيه -الشيخ الصدوق- ج4 / ص8.

7- من لا يحضره الفقيه -الشيخ الصدوق- ج4 / ص57.

8- الكافي -الشيخ الكليني- ج6 / ص268.

9- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج25 / ص374.

10- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج25 / ص29.