جعل القيمومة للرجل (الحلقة الثالثة)

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

أهلية المرأة للتملُّك

الأمر التاسع: ونشير فيها إلى الآيات التي تؤكد أن للمرأة أهلية التملك والتكسب والتصرف في أمـوالها كيفما تشاء دون أن يكون لأحد الحق في منعها، كما أنه ليس عليها مراجعة أحدٍ -عندما تريد التصرف في أموالها- من أبٍ أو زوج أو أخ أو غيرهم.

 

الآية الأول: قوله تعالى: ﴿لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا﴾(1). هذه الآية المباركة تعبر بوضوح عن أهلية المرأة لتملك ما ترثه من نصيبها في الميراث.

الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا ..﴾(2).

 

الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾(3).

 

والمراد من اليتامى في الآيتين هو الأعم من الذكور والإناث كما هو مقتضى الإطلاق، وكذلك هو مقتضى ما ورد في الآية رقم 3 من نفس السورة حيث استعمل لفظ اليتامى في النساء ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء ..﴾(4).

 

وكيف كان فلا إشكال عند المفسرين في أن لفظ اليتامى غير مختص بالذكور. ثم أن مفاد الآية الأولى هو الأمر بدفع أموال اليتامى إليهم إذا بلغوا سن التكليف وكانوا راشدين وأن الولاية على أموالهم تنقطع بمجرد بلوغهم سن التكليف والرشد وإن التصرف فيها بعد ذلك يكون عدوانياً.

 

وأما مفاد الآية الأخرى فهو الأمر أيضاً بدفع أموال اليتامى إليهم وأن الهيمنة عليها أو التصرف فيها يكون من الظلم المستبشع وهو معنى الحوب.

 

ثم إن هاتين الآيتين تُعبِّران عن أهلية الإناث للتملك، وذلك بقرينة نسبة الأموال إليهم والأمر الشديد بدفعها إليهم وإن إمساك الأولياء لهذه الأموال في فترة اليتم إنما هو لغرض الحفظ ومن هنا يلزم إيصالها إلى أهلها عندما يتأهلوا لحفظها وحسن التصرف فيها.

 

الآية الرابعة: قوله تعالى: ﴿لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ﴾(5). وهذه الآية الشريفة توضح أن للمرأة أهلية التكسب، وأن ما تكسبه نتيجة التجارة أو العمل فإنه يصبح من نصيبها لا يحق لأحدٍ الاستيلاء عليه.

 

تعدُّد الأدوار لا يعبر عن التمايز الإنساني

المقدمة الثانية: إن نظام الحياة وبناء المجتمعات قائم على أساس التعاطي ونهوض كل شريحة بتغطية دور من أدوار هذا النظام الاجتماعي، إذ لا يسع كل أحد تغطية جميع الأدوار وتلبية جميع الحاجات التي تتقوم بها الحياة.

 

وتعدد الأدوار لا يعبر بالضرورة عن التفاضل والتمايز الإنساني، وإنما ينشأ عن تعدد الحاجات أو الرغبات أو تفاوت الملكات والقدرات، فاختلاف الرغبات والميول وإن كانت سبباُ من أسباب اختيار دور من أدوار البناء دون الدور الآخر إلا إن الاختلاف والتفاوت لا يخضع دائماُ لتباين الرغبات بل كثيراُ ما يخضع لتفاوت الملكات والقدرات النفسية أو العضوية، فالمنح الإلهية التي أعطيت للإنسان وزعت بطريقة محكمة ينتج عنها تأهل أبناء الإنسان لبناء مجتمع يحمل في ثناياه أسباب البقاء والاستمرار والصعود في مدارج الكمال المفضي إلى البناء الاجتماعي الأتم والنظام الأصلح.

 

فالوظيفة التي ينوء بها الأطباء، مثلاً: يعجز الفلاحون عن النهوض بها، وذلك لتفاوت الاستعدادات الممنوحة لهم، كما أن الوظيفة التي يضطلع بها المهندسون لبناء المدن لا يستطيع الحرفيون وأصحاب المهارات اليدوية القيام بها كما إن العكس كذلك.

 

هذا وقد أودع الله عز وجل في الإنسان الرضى بما يملك من قدرات وملكات والقبول بالدور الذي يتناسب مع طاقته وقدراته، وإذا كان ثمة من تبرم فهو ناشئ عن ابتزاز الإنسان لأخيه الإنسان، ابتزازه لثمرات دور أخيه أو الحيلولة بينه وبين حقوقه التي قد لا تكون منوطة بطبيعة موقعه في البناء الاجتماعي، أو يكون منشأ التبرم هو احتقار الآخرين لأدوار وملكات آخرين والتقليل من أهميتها مما يؤدي إلى تقمص الأدوار على غير أهلية.

 

فشيوع ثقافة انَّ هذه وظائف النبلاء وهذه وظائف الفقراء وتلك وظائف الضعفاء، وانَّ هذه المواقع لا تليق إلا للأقويا وانَّ مواقع أخرى تناسب العقلاء وأصحاب الرأي وانَّ التبعية هي من حظ هذه الشريحة من المجتمع. كل ذلك على غير الضوابط التي تقتضيها طبيعة الملكات والقدرات الممنوحة لبني الإنسان من قبل الله عز وجل، شيوع مثل هذه الثقافة وترتيب الآثار الاعتبارية والاجتماعية عليها هو الذي أنتج التبرم والتضجر من كثير من الوظائف البناءة وأدى إلى أن تنحو المجتمعات نحو التراجع والتقهقر، وذلك لأن شيوع هذه الثقافة يحفز في النفس التمرد على الوظائف والمسئوليات التي تقتضيها طبيعة القدرات والملكات النفسية والعضوية والتي من غير الممكن الانسلاخ عنها، كما يحفز في النفس روح التعسف واقتحام المواقع الاجتماعية المباينة لمقتضى الطبيعة لمجرد إنها ذات طابع اعتباري متناغم وروح التعالي والكبرياء، وعندها تنخلق الأزمات ويؤول البناء الاجتماعي إلى التآكل، إذ أن التخلي عن المسئوليات الواقعية وملاحقة المواقع المتناغمة وغلواء النفس رغم تباينها مع مقتضيات التكوين النفسي والعضوي ينتج عدم الإتقان لعملية البناء الاجتماعي، هذا إذا لم ينتج نقض البناء الاجتماعي. فوضع الشيء في غير موضعه والتقمص على غير أهلية تنكب لطريق غير الجادة المفضي للمهوى السحيق.

 

من هذا المنطلق يجب أن نعالج إشكالية القيمومة المجعولة للرجل، حيث أنَّها مجرد وظيفة اجتماعية اقتضتها طبيعة التكوين النفسي والعضوي للرجل، ولا تعبر عن التمايز الإنساني بين الرجل و المرأة بل لأن الله عز وجل لما كان قد منح الرجل بعض الملكات والقدرات المناسبة لوظيفة القيمومة وانَّ النتيجة العقلائية تحتم أن تناط هذه الوظيفة، ولغرض تنظيمي فحسب، بالرجل دون المرأة، كما أنه لما كانت المرأة بمقتضى طبيعتها واجدة لبعض الملكات والقدرات الخاصة فإن ذلك يقتضي عقلائياً إناطة الوظائف المناسبة لتلك الملكات بها دون الرجل، وتبقى مساحة كبيرة من الوظائف والمسئوليات مشتركة لا يصح أن يستقلَّ بها الرجل دون المرأة، وذلك لافتقارها لملكات يمكن للمرأة أن تتوفر عليها كما يمكن ذلك للرجل.

 

وهنا يجب أن نشير إلى نقطة محورية، وهي أن الله عز وجل هو خالق الإنسان، وهو أعلم بما يصلحه، وليس ثمة من دواع للمحاباة -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- فإذا كان قد أناط بعض الوظائف بالرجل والبعض الآخر بالأنثى فإن ذلك لعلمه بما أودع في مكنون كل نفس من منح وذخائر، وعليه فتنظيمه تعالى لهذه الوظائف والمسئوليات ليس جزافياً حيث هو تعالى منزه عن العبث والحكم بغير ملاك، فحتى لو لم يدرك الإنسان ملاكات أحكامه تعالى فإن عليه أنَّ يسلم ويقبل، إذ انَّ ذلك هو مقتضى الإيمان بحكمته غير المتناهية.

 

فالعقلاء عندما يثقون بأحد فإنما يثقون به لواجديته لصفات ثلاث العلم والحكمة والنصيحة فلو كان عالماً غير حكيم أو حكيماً غير ناصح أو ناصحاً مخلصاً إلا إنه غير عالم بحقائق الأمور أو غير عارفٍ بأوجه المصالح والمفاسد فإنه لا يكون جديراً بالثقة، ونحن كمسلمين نؤمن بعلم الله المطلق بجميع أوجه المصالح والمفاسد وبحكمته غير المتناهية عند حد وبأنه أرأف بعباده من الأم الرؤوم وسعت رحمته كل شيء وهو الشفيق الودود والذي وعد بمساءلة الظالمين وإدانتهم.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

من كتاب: مقالات حول حقوق المرأة

الشيخ محمد صنقور


1- سورة النساء / 7.

2- سورة النساء / 6.

3- سورة النساء / 2.

4- سورة النساء / 3.

5- سورة النساء / 32.