بهلول النبَّاش وبهلول المجنون

المسألة:

في إحدى الروايات تذكر قصة بهلول انه كان نبَّاشاً للقبور ويسرق الأكفان، وذات مرة زنى بامرأة بعدما نبش قبرها وسرق كفنها:

1- فما مدى صحة هذه الرواية؟

2- هل كان بهلول من أصحاب الرسول (ص) أو الإمام الكاظم؟

3- أين موضع قبره؟

الجواب:

ثمّة أكثر من رجل بإسم بهلول فالذي رُوي أنَّه ينبش القبور وأنَّه زنى بميِّتة بعد أنْ سلبها كفنها هو بهلول الذي كان على عهد رسول الله (ص) ويُسمى بهلول النبَّاش، وقد روي أنَّه كان شاباً وكان من فعله انَّه كان ينبش القبور ويسلب الموتى أكفانهم، وكان على ذلك سبع سنين واتفق انْ ماتت إمرأةٌ من الأنصار صغيرة فنبش قبرها ليلاً ثم سلبها كفنها وتركها ملقاةً على شفير القبر ثم انَّه تمادى في غيِّه ففجر بالمرأة الميِّتة، وبعد انْ أفاق من نشوته أدركه الندم، ثم تعاظم الندمُ في قلبه فجاء إلى رسول الله (ص) تائباً، فلم يقبل منه رسول الله (ص) توبته فهام على وجهه وإستوطن الجبال يناجي ربَّه مُلحِّاً في التوبة إليه، فنزل قوله تعالى مؤذِناً بقبول توبته: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ / أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾(1) فقصَده النبي (ص) وجمعٌ من أصحابه وبشَّروه بقبول توبته(2).

هذه هي خلاصة الرواية التي أوردها الشيخ الصدوق في كتاب الأمالي بسنده إلى عبد الرحمن بن غنم الدوسي وهو مهمل وفي السند بعض المجاهيل ومن هو غير معتمد إلا انَّه ونظراً لكون الرواية من الروايات الوعظية لذلك يُتساهل في سندها، ثم انَّ بهلول المذكور في الرواية لا يُعلم من أحواله غير هذا الذي ورد في الرواية.

بهلول المجنون:

وأمَّا بهلول الذي كان في أيام الصادق والكاظم (ع) فهو بهلول بن عمرو أبو وهيب الصيرفي من أهل الكوفة، وقيل انَّ إسمه وهب بن عمرو، وكان يُلقَّب ببهلول المجنون، ولم يكن مجنونًا وإنَّما تظاهر بذلك صيانةً لنفسه ودينه كما أفاد ذلك النمازي الشاهرودي في كتابه مستدركات علم الرجال، وأفاد أنَّه كان من خواصِّ الإمام الصادق (ع) "وكان كاملاً في فنون الحِكَم والمعرفة والآداب، وكان ابن عم الرشيد وبقي إلى أيام المتوكل العباسي وله قضايا ظريفه وحكم طريفه"(3).

وقيل انَّ السبب في تظاهره بالجنون انَّ الرشيد العباسي طلب منه انْ يتولى القضاء في بغداد فأبى عليه وإعتذر بعدم الأهليَّة فقال له: إنَّ أهل بغداد مطبقون على أهليَّتك فقال: انَّه أعرف بنفسه منهم، فحين ألحَّ عليه إستمهله للنظر في الأمر، وعندها تظاهر بالجنون وإتخذ لنفسه قصبةً يركبها ويعدو بها في السوق ويصيح في الناس خلُّوا الطريق حتى لا يطؤكم فرسي، فقال الناس جنَّ بهلول، فقال هارون: ما جنَّ ولكن فرَّ بدينه منَّا.

وقيل إنَّ منشأ تظاهره بالجنون هو انَّ الرشيد كان يلتمس وسيلةً لقتل الإمام موسى بن جعفر (ع) فكان من ذلك انْ بعث إلى الفقهاء وأهل الفتيا وطلب منهم الإفتاء بإباحة دم الإمام (ع) فاستشار بهلول الإمام الكاظم (ع) في وسيلة يتخلَّص بها من طلب الرشيد فأشار عليه التظاهر بالجنون.

هذا وقد نقل عنه المؤرخون والأدباء العديد من المواقف والمناظرات والحكم والطرائف والأشعار والمواعظ وكلها تُعبِّر عن وفور عقله وعلمه وكمال أدبه وفصاحته وسرعة بديهته، وكان يستثمر إعتقاد الناس جنونه في مواجهة السلطان وولاته بالتقريع والتوبيخ، فمما أُثر عنه في ذلك ما أورده ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق بسنده عن أحمد بن عبد الله القزويني عن الفضل بن الربيع قال: "حججتُ مع هارون الرشيد أمير المومنين فمررنا بالكوفه في طاق المحامل فإذا ببهلول المجنون قاعد يهذي فقلتُ له: إسكن فقد أقبل أمير المومنين فسكت، فلما جاء الهودج قال: يا أمير المومنين حدثني أيمن بن نابل قال: حدثنا قدام بن عبد الله العامري قال: رأيتُ النبي (ص) بمنى على جمل وتحته رحل رث، فلم يكن ثَمَّ طردٌ ولا ضربٌ ولا إليك إليك فقلتُ: يا أمير المومنين انَّه بهلول المجنون، قال قد عرفتُه وبلغني كلامه، قل يا بهلول فقال: يا أمير المومنين هب انَّك ملكت العباد طرا ودان لك العباد فكان ماذا أليس مصيرك إلى قبر يحثو ترابك هذا وهذا، فقال: أجدت يا بهلول أفغيره قال: نعم يا أمير المومنين مَن رزقه الله جمالاً ومالاً فعفَّ في جماله وواسي في ماله كُتب في ديوان الأبرار قال: فظنَّ انَّه يريد شيئاً قال: فإنا قد أمرنا ان يقضي دينك قال: لا تفعل يا أمير المومنين لا تقض ديناً بدين أُردد الحق إلى أهله واقض دين نفسك من نفسك، فإنَّ نفسك هذه نفس واحدة وإنْ هلكت والله ما انجبرت عليها قال: فانا قد امرنا ان نجري عليك قال: لا تفعل يا أمير المومنين لا يُعطيك وينساني، أجرى عليَّ الذي أجرى عليك، لا حاجة لي في إجرائك ومضى"(4).

وزاد ابن كثير في كتاب البداية والنهاية على الخبر انَّ الرشيد قال لبهلول: "هذه ألف دينار خذها، فقال: أُرددها على أصحابها فهو خير لك، وما أصنع أنا بها؟ انصرف عنِّي فقد آذيتني. قال: فانصرف عنه الرشيد وقد تصاغرت عنده الدنيا"(5).

تُوفي بهلول في حدود التسعين والمائة كما ذكر ذلك الكتبي في فوات الوفيات، فإذا ثبت ذلك فإنَّه لم يُدرك أيام المتوكل العباسي كما ذكر النمازي بل ولا أدرك خلافة الأمين لأنَّ هارون قد تُوفي تقريباً سنة ثلاث وتسعين ومائة أي بعد وفاة بهلول بثلاث سنين لو صح ما ذكره الكتبي ثم انَّه لو كان بهلول قد أدرك عهد المتوكل لكان من المعمِّرين لأنَّ مبدأ خلافة المتوكل كانت في سنة مائتين واثتين وثلاثين أو قريباً من ذلك، فأذا كان بهلول من أصحاب الصادق (ع) الذي استُشهد سنة مائة وثمانية وأربعين فمعنى ذلك انَّ عمر البهلول يوم وفاته قد تجاوز المائة بما لايقل عن عشر سنوات، ولعل منشأ ما أفاده النمازي من انَّ بهلول قد أدرك عهد المتوكل هو ما نقله صاحب البحار عن جماعة وصفهم بالثقاة انَّ بهلول زار قبر الحسين (ع) بعد ان أمر المتوكل بحرث موضع القبر الشريف. والأمر سهل بعد ان لم يكن من أثرٍ مهم في التحقُّق من تاريخ وفاة بهلول (رحمه الله تعالى) وإن كان الأقرب للظن انه تُوفي في عهد هارون أو بعده بزمنٍ يسير وانَّ الكثير مما نسبه اليه الأُدباء بعد هذا العهد كان منتحلاً أو كان لرجلٍ آخر من عقلاء المجانين، وأما ما نقله صاحب البحار من انَّ بهلول المجنون قد زار قبر الحسين (ع) بعد جريرة المتوكل وحرثه لموضع القبر الشريف فمن غير المستبعد لو صح الخبر ان يكون رجلاً آخر غير بهلول بن عمرو فهو لم يشخصه بغير بهلول المجنون، فمن المحتمل ان يكون غير ابن عمرو.

وأما موضع قبره فذكر السيد علي البروجردي في كتاب طرائف المقال: أنَّه في بغداد(6).

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور


1- سورة آل عمران / 135-136.

2- الأمالي -الشيخ الصدوق- ص97.

3- مستدركات علم رجال الحديث -الشيخ علي النمازي الشاهرودي- ج2 ص69.

4- تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج5 ص408.

5- البداية والنهاية -ابن كثير- ج10 ص216.

6- طرائف المقال -السيد علي البروجردي- ج1 ص418.