جعل القيمومة للرجل (الحلقة الخامسة)

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

معنى القيمومة:

المقدمة الرابعة: إن المراد من جعل القيمومة للرجل هو إناطة تدبير شئون الحياة بالرجل فيما يتصل بالحكم والقضاء والحرب والسلم وتحديد طبيعة العلاقات العامة وغير ذلك مما يتصل بالشأن العام، وأما القيمومة في محيط الأسرة فهي تدبير شئون النفقة والسكن والأولاد فيما يرتبط بتعليمهم وتربيتهم ومعالجتهم وحمايتهم ورعاية أموالهم وحقوقهم وصلاحية الدفاع عنها بما يتناسب ومصالحهم. وليس المقصود من مسئوليته عن التربية والتعليم هو استقلاله بذلك دون المرأة بل المقصود من ذلك هو إن اختياره لطبيعة التعليم ومكانه والمعلم والمربي -لو وقع التنازع- هو المتعين، كما إن نفقات ذلك تكون بعهدته.

 

وهكذا الكلام فيما يتصل بجميع شئون الأسرة، فإن الكلمة الفصل -لو وقع الاختلاف- تكون للرجل إذا كان ذلك في إطار المشروع دونما إذا كانت قراراته منافية لما هو مشروع دينياً. وتلاحظون انَّ هذه الوظيفة سواء في الشأن العام أو الخاص تتطلب مستوىً من البأس والقوة والحزم، كما تتطلب مستوىً من التعقل، والذي يقتضي عدم الخضوع لدواعي العاطفة والرقة المجبولة عليها المرأة بمقتضى تكوينها.

 

ولمزيد من التوضيح نقول: إن معظم خصائص المرأة والتي تمتاز بها عن الرجل تؤكد عدم أهليتها للتصدي لوظيفة القيمومة، فمشاعرها وعواطفها التي لا تملك السيطرة عليها، وضعفها عن المواجهة للمواقف الصعبة، وانهيارها أمام المشاهد المأساوية، وعدم قدرتها على كتمان السر والأخبار المزعجة، وشعورها الدائم بالحاجة إلى حماية الرجل ومساندته، وتفاعلها الشديد بالإطراء والثناء، واهتمامها البالغ بذاتها وجمالها، وجنوحها للسلم والموادعة، ورغبتها في الانقياد للرجل القوي، والحياء والتوجس من المواقف المخجلة... كل ذلك يفقدها القدرة على حسن التدبير، والذي هو ملاك القيمومة. وهذا ليس انتقاصاً لقدر المرأة وإنما هو انسياق وفق المقتضيات التي تفرضها طبيعة الخلق والتكوين.

 

فأن تكلِّف أحداً ما لا يطيق معناه التفريط فيما تريد، فلا أنت وصلت إلى غايتك لضعف من كلفت بذلك وتكون قد أسأت لمن كلفت وأرهقته على غير وجه عقلائي. فمنح المسئولية لأحد لا يعني بالضرورة إنك أكرمته بل قد يكون إعفاءه عن تلك المسئولية هو المناسب لتكريمه، نعم حرمانه من مسئولية هو جدير بحملها هو الذي ينافي التكريم.

 

ومن هنا لا يكون إعفاء المرأة من مسئولية القيمومة إهانة لها وانتقاصاً من قدرها بل هو عين التكريم لها خصوصاً وإن الشريعة قد بوءتها مواقع لا تقل خطورة عن موقع القيمومة، وكل ذلك لم ينشأ جزافاً أو محاباة، لأن المشرِّع هو الله عز وجل وهو خالق الذكر والأنثى، وهو أعلم بمؤهلات كلٍ منهما. وبعد هذه المقدمات يصل بنا البحث إلى قراءة المعنى الذي توحيه الآية الشريفة من خلال فقراتها: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ﴾(1).

 

مبررات جعل القيمومة:

فنقول: إنه ليس المراد من جعل القيمومة هو الهيمنة والتسلط ومصادرة وجود المرأة وإلغاء دورها وفاعليتها فيما يتصل بالشأن العام أو الخاص، إذ إن ذلك ينافي ما ذكرناه في المقدمة الأولى ووثقناه بالآيات الشريفة.

 

بل المقصود من جعل القيمومة للرجل هو إناطة مسئولية تدبير شئون الحياة العامة والخاصة بالرجل، بمعنى إنه المسئول عن رعاية شئون الحكم والقضاء، وهو المسئول عن حماية المجتمع فيما لو داهمه خطر من الداخل أو الخارج، وهكذا الحال فيما يتصل بالأسرة، فهو المكلف بحياطتها وتدبير شئون معاشها، وعلى عاتقه تكون مسئولية النفقة والسكن والتعليم والتربية، وهذا لا يعني أن تكون المرأة بمنأى عن ذلك بل يعني أن للرجل الكلمة الفصل إذا ما انتهى الأمر إلى النزاع والاختلاف في كيفية تسييس كل هذه الأمور على أن يكون ذلك في الإطار الشرعي مع التأكيد على حرية المرأة التامة فيما يتصل بشئونها الخاصة، فليس لأحد الحق في التسلط على أموالها، فهي المعنية بتدبير شئون أموالها، كما أن لها كلمة الفصل في اختيار الزوج ونوع التعليم والعمل، ولكن في إطار الضوابط الشرعية كما هو كذلك بالنسبة للرجل.

 

وأما لماذا أنيطت مسئولية القيمومة بالرجل دون المرأة فالآية الشريفة توضح إن منشأ ذلك هو التفضيل الذي منحه الله عز وجل للرجل على المرأة، وليس معنى ذلك أن الرجل أفضل من المرأة في كل شيء وإنما هو في خصوص ما يتصل بمقتضيات القيمومة، فمعنى الآية الشريفة هو أن منشأ إناطة القيمومة بالرجل هو أن الرجل أحسن تدبيراً من المرأة لا أنه أفضل منها في غير ما يتصل بهذا الشأن، والذي يؤكد هذا الفهم هو ما بيناه في المقدمة الأولى من هذا البحث، فقد أشرنا فيها إلى الآيات التي تعبر عن تساوي الرجل و المرأة في الإنسانية وفي الهداية وفي تحمل أعباء الأمانة الإلهية وفي الكرامة وفي القابلية للتعلم وفي تكافؤ الآثار والثواب على الطاعة وفي حرمة الإيذاء وإيقاع الظلم وفي أهلية التكسب وغير ذلك، ثم أن الأكرم عند الله عز وجل والأكثر قرباً منه هو الأتقى سواء كان ذلك ذكراً أو أنثى، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾(2).

 

فإذن المقصود من قوله تعالى: ﴿بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ هو التفضيل فيما يتصل بمقتضيات القيمومة، فلأن الرجل أشد بأساً وقوة وأكثر حزماً وقدرة على مواجهة المواقف الصعبة، وأقل استجابة لدواعي الانفعال والعاطفة، وغالباً ما ينبعث على أساس حسابات المصلحة والمفسدة، لأنه أكثر هدوءاً وروية من المرأة، فلا تُربكه الرغبات الجامحة ولا يتحرك تحت ضغط مشاعر الرقة والشفقة، ولا يكترث كثيراً بالمدح والإطراء، ولا تهوله الصعوبات المتعاقبة والمعقدة، ولا تحدث فيه إحباطاً ويأساً، كل ذلك يجعله أحسن تدبيراً من المرأة لشئون الحياة، وهذا لا يعني أن المرأة غير قادرة على إدراك أوجه المصالح والمفاسد إلا انَّ الإدراك وحده غير كافٍ إذا كانت المرأة واقعة تحت تأثير هيمنة المشاعر والأحاسيس الجامحة، بل أن جموح هذه المشاعر غالباً ما تمنع عن التفكير في الاتجاه الصحيح وتحول دون الرؤية المناسبة للمصلحة.

 

ودعوى أن بالإمكان ترويض المرأة على التجرد عن مشاعرها وأحاسيسها المرهفة، وعندئذٍ تكون قادرة على معالجة الأمور على أساس التعقل. هذه الدعوى غير تامة، لأنها تفترض تجريد المرأة عن مقتضى طبيعتها وتكوينها العضوي والنفسي، على أن هذه الطبيعة لا تعبر عن خلل في ذاتها، ولا تحدث خللاً في البناء الاجتماعي بل إنَّها سر التوازن في البناء الاجتماعي، فكما أن الحياة السعيدة تفتقر للحزم والتروي والتعقل كذلك هي مفتقرة لمشاعر العطف والرقة والحنان والخوف والتوجس.

 

وختاماً نرى من المناسب التأكيد على مجموعة أمور:

الأمر الأول: أنَّ القيمومة لا تعدو عن كونها وظيفة أنيطت بالرجل استجابة لنداء الفطرة التي أودعت في جبلته الاستعدادات المناسبة لهذه الوظيفة، فليست هي وساماً أعطي للرجل بدافع المحاباة، إذْ أنَّ خالق الرجل هو خالق الأنثى، وأن الأدوار التي تضطلع بها الأنثى لا تقل خطورة عن هذا الدور الذي أنيط بالرجل، كما أنها لا تقل تأثيرًا في عملية البناء الاجتماعي الذي أراد الله عز وجل له أن يكون متماسكاً.

 

الأمر الثاني: إنَّ المفاضلة التي نشأ عنها إناطة القيمومة بالرجل ليست مطلقة بل هي متمحضة فيما يتصل بمقتضيات القيمومة، والتي هي التعقل وحسن التدبير، فالرجل أكثر كفاءة من المرأة في هذا المجال، وهذا لا يعدُّ انتقاصاً لإنسانية المرأة، لأنَّ الإنسانية الكاملة لا تتقوم على أساس أنَّ الواجد لها يجب أن يكون أكثر تعقلاً وأحسن تدبيراً.

 

كما لا يعدُّ ذلك تقليلاً من دور المرأة في عملية البناء الاجتماعي، لأنَّ التأثير في البناء الاجتماعي لا يتمحض في التعقل وحسن التدبير بل أن ثمة عوامل كثيرة أخرى تساهم في البناء الاجتماعي تفتقر لملكات ينافي كمالها الكفاءة من جهة التعقل وحسن التدبير و أن كانت هي في نفسها كمالا يحتاجه البناء الاجتماعي.

 

فالعطف والأحاسيس المرهفة والحياة العفة كمالات وملكات إلا أن تنميتها يؤثر في مستوى التعقل والقدرة على حسن التدبير في الوقت الذي يكون إهمالها وتسطيحها يساهم إلى حد كبير في نقض البناء الاجتماعي. ومن هنا كان من المناسب عقلانيا توزيع الأدوار على أساس ملاحظة ما تقتضيه الملكات.

 

وبهذا نكون قد تحفظنا على ما تقتضيه طبيعة التكوين بل وساهمنا في تعميقها وبلورتها في الوقت نفسه تحاشينا التخبط في تقمص الأدوار والذي ينتج تقويض البناء الاجتماعي.

 

الأمر الثالث: أن القيمومة لا تعني التسلط والهيمنة ولا تبرر الاستبداد والظلم, وإنما هي وظيفة إدارية في إطار مؤسسة اجتماعية واسعة أو صغيرة, والمؤسسة تتقوم بمجموع أعضائها والمنتسبين إليها, ولكل موقعه ودوره لا يصح ابتزازه ولا التقليل من أثره وعلى كاهل الجميع تناط مسئولية إنجاح المؤسسة, وبالجميع تصل إلى غايتها وأهدافها.

 

والحمد لله رب العالمين

 

من كتاب: مقالات حول حقوق المرأة

الشيخ محمد صنقور


1- سورة النساء / 34.

2- سورة الحجرات / 13.