دية المرأة نصف دية الرجل رداً على الشيخ القرضاوي

المسألة:

ما هو رأيكم في القضية التي أثارها الشيخ القرضاوي وهي الدعوى إلى التساوي بين الرجل والمرأة في ديّة القتل؟ وما هو رأيكم فيما ساقه من أدلة لإثبات هذه الدعوى؟

الجواب:

بداية أرى أن المناسب في مقام الجواب عن هذه الدعوى هو استعراض الأدلة المثبتة لتحديد ديّة المرأة بنصف ديّة الرجل، فالقرآن الكريم وإن لم يكن قد تصدَّى لتفصيل هذه المسألة كما هو الشأن في أكثر المسائل الفقهية.

إلا أن الروايات المنقولة عن الرسول الكريم وأهل بيته (ع) قد تصدَّت لتفصيل ذلك بما لا يدع مجالاً للشك في حكم هذه المسألة، وذلك لتواترها وصحة أسناد الكثير منها، هذا مضاف إلى التسالم القطعي المعبِّر عن وضوح الحكم بالتنصيف بين فقهاء المسلمين بما يرقى إلى مستوى الضرورة الفقهية.

أمّا الروايات الواردة من طرقنا نحن الإمامية فقد وقفت على أكثر من اثنين وثلاثين رواية في كتاب وسائل الشيعة والكثير من هذه الروايات وردت بطرق مختلفة ومعتبرة بحسب الضوابط الرجالية.

ومن هذه الروايات ما ورد بسند معتبر عن عبد الله بن مسكان قال: قال أبو عبد الله (ع): "دية المرأة نصف ديّة الرجل"(1).

وكذلك ورد عن عبد الله سنان بسند معتبر قال سمعت أبا عبد الله (ع) يقول في رجل قتل امرأته متعمداً فقال: "إن شاء أهلها أن يقتلوه ويؤدوا إلى أهله نصف الدية، وإن شاءوا أخذوا نصف الدية خمسة آلاف درهم"(2).

فالرواية الأولى: صريحة في أنَّ دية المرأة نصف دية الرجل، وكذلك الرواية الثانية حيث أفادت أن أولياء دم المرأة إذا أرادوا أن يقتصوا من قاتلها فلهم الحق في ذلك إلا أن عليهم أن يدفعوا لأولياء القاتل نصف الدية، وذلك لعدم مكافئة دية المرأة لدية الرجل، وان شاءوا قبلوا بنصف دية الرجل وهي خمسة آلاف درهم. وهكذا الحال فيما بقي من الروايات والتي لا مجال لاستعراضها في المقام، فالحكم بالتصنيف غير قابل للتوقف بنظر الإمامية وإلا كان ذلك من الاجتهاد في مقابل النص الصريح والثابت.

وأمّا فيما يتصل بمذهب السُنة فالأمر كذلك حيث أفاد ابن قدامة في كتابه الشهير (المغني) قال: قال ابن المنذر وابن عبد البر: (أجمع أهل العلم على أن ديّة المرأة نصف ديّة الرجل)(3)، ثم نقل عن ابن علية والأصم القول (بان ديّتها كديّة الرجل)، وعلّق على هذا القول بما نصه (وهذا قولٌ شاذُ يخالِف إجماع الصحابة وسنة النبي (ص))(4)، وذكر ابن رشد الحفيد في كتابه بداية المجتهد (إنهم اتفقوا على أن ديّة المرأة على النصف من ديّة الرجل)(5) ولم ينقل في ذلك خلافاً. هذا وقد نْقل الإجماع في أحكام القرآن للجصاص، والمبسوط، والهداية، والنتف، ومختصرا المزني، والمجموع، وحلية العلماء، وكفاية الأخيار، ورحمة الأمة، والسنن الكبرى، والشرح الكبير، وفتح الرحيم، وفتح المعين، والبحر الزخار، ونيل الأوطار، وتبيين الحقائق، وغيرها، وأُفيد في السنن الكبرى، ونصب الراية، وتلخيص الحبير، والمجموع، ونيل الاوطار، وغيرها أفيد في هذه الكتب أن ذلك مروي عن علي وعن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت ولا مخالف لهم(6).

وذكر ابن رشد وكذلك ابن قدامة في ديات الأعضاء والجراحات أن دية الأعضاء والجراحات إذا بلغت الثلث عادت إلى التصنيف ونقلوا عن بعضهم أن دية الأعضاء والجراحات تتساوى فيها المرأة والرجل ما لم تبلغ نصف الدية فإذا بلغت صارت دية المرأة نصف دية الرجل، وأفاد أن الفقهاء متفقون على أن الدية متى تجاوزت النصف فإنها تعود إلى التصنيف والخلاف إنما هو فيما نقص عن النصف. وللوقوف على صحة ما ذكرناه يمكن مراجعة الكتب المذكورة ليتبين لك أن هذا المقدار ليس مورداً للخلاف، هذا وقد استدلوا جميعاً بروايات عن الرسول (ص) تنتهي إلى نتيجة واحدة وهي أنَّ دية نفس المرأة على النصف من دية نفس الرجل، وهكذا دية الجراحات والأعضاء إذا ما تجاوزت الثلث أو النصف. وبذلك يتبين أن ما نفاه الشيخ القرضاوي من وجود الإجماع على التصنيف في غير محله حيث أن الإجماع على التصنيف ليس بين الفقهاء وحسب بل هو بين الصحابة أيضاً، ومن الواضح من أصول السنة انَّ الإجماع دليل مستقل في إثبات الحكم الشرعي، بمعنى انه لو لم يرد نص من السنة الشريفة أو من القرآن على حكم مسألة وقام الإجماع على ذلك فإنه يكفي لإثبات ذلك الحكم كما أن الإجماع بنظرهم صالح لتخصيص اطلاقات وعمومات الكتاب والسنة. هذا مضاف إلى أنهم يقولون بحجية قول الصحابي لو كان منفرداً ولم يكن قوله منافياً لصريح الكتاب والسنة. وإذا كان بعضهم قد ذهب إلى عدم حجية قول الصحابي منفرداً إلا أنّه لم يختلف منهم أحد في حجية إجماع الصحابة بل وفي حجية ما اشتهر عنهم. وحينئذ كيف يسوغ للشيخ القرضاوي أن يتمسك بمذهب ابن علية والأصم وقد سبقهما الإجماع ولحقهم، فقولهما ساقط عن الحجية بعد منافاته لإجماع الصحابة، والذي هو دليل قطعي بنظر السنة على الحكم الشرعي، ولذلك وصف فقهاء السنة مذهب ابن علية والأصم بالشذوذ والمخالفة لسنة النبي (ص).

بقي الكلام فيما استدل به الشيخ القرضاوي على دعوى التساوي في الدية بين الرجل والمرأة بالآية الكريمة.

التي وردت في سورة النساء وهي قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ﴾(7)، وقرَّب الاستدلال بهذه الآية المباركة على دعوى التساوي بهذا البيان، وهو أن من الثابت في اللغة أن النكرة في سياق الشرط تُفيد العموم، ولمَّا كانت جملة "من قتل مؤمناً .." "شرطية ومؤمناً" نكرة تشمل المرأة والرجل فالنتيجة هو أن الآية تقتضي العموم. وبهذا تكون الآية دليلاً على التساوي في الدية كما هو مقتضى العموم المستفاد من وقوع النكرة "مؤمناً" في سياق الشرط "من قتل". بمعنى أن "مؤمناً" لمّا كان يشمل الرجل والمرأة فهذا يقتضي ثبوت الدية -والذي هو جواب الشرط- لمطلق الرجل والمرأة، ونتيجة ذلك هو عدم الفرق بين الرجل والمرأة في مقدار الآية. هذا حاصل ما أفاده الشيخ القرضاوي في مقام الاستدلال بالآية على التساوي إلا أنه استدلال غريب من مثله. إذ أن الآية وان كانت تدل على العموم كما هو مقتضى وقوع النكرة في سياق الشرط إلا أن مفاد العموم هو ثبوت الدية بقتل المرأة والرجل أما إن مقدار دية المرأة يساوي مقدار دية الرجل فهذا ما لايقتضية العموم المستفاد من الآية، فالآية ليست في مقام البيان من جهة المقدار -والذي هو محل البحث- وإنما هي في مقام البيان من جهة من له الدية فالعموم فيها يقتضي أنه لا فرق في ثبوت الدية على القاتل بين كون المقتول رجلاً أو امرأة.

فوزان الآية المباركة ما لو قال أحدهم "من كان عليه دين لأحد فعليه أن يؤدي الدين الذي عليه" فهل يُفهم من هذه الجملة اتحاد مقدار الدين أو أن مفادها هو أن المدين مكلف بتسديد ما عليه من دين سواء كان الدائن رجلاً أو امرأة مسلماً أو كافراً دون أن يكون لها تصدٍ لمقدار الدين، فالجملة وإن كانت تقتضي العموم إلا أن مفاد العموم هو عدم الفرق بين كون الدائن رجلاً أو امرأة مسلماً أو كافراً، لأنَّ ذلك هو مقتضى وقوع الدائن "أحد في سياق الشرط، أما مقدار الدين وانَّه متحد أو مختلف فهو أجنبي عن مفاد الجملة. وهكذا الكلام في الآية الشريفة إذ أن مفاد العموم فيها هو عدم الفرق في وجوب الدية على القاتل بين كون المقتول رجلاً أو امرأة وأما انَّ مقدار الدية متحد أو مختلف فهذا ما لا يقتضيه العموم، لأنه ليس في مقام البيان من هذه الجهة.

وأما ما أفاده القرضاوي من ضرورة النظر في مسألة الدية من زاوية التكريم للمرأة فهو من الاستحسان وتحكيم الذوق في المسائل الشرعية وذلك مالا نقول به نحن الامامية، إذ أن أحكام الله ليست خاضعة للاستحسانات والأذواق والتي تختلف باختلاف الثقافة والتربية والبيئة وتخضع للظروف والاعتبارات الشخصية والعامة نعم أحكام الله عز وجل تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية، وخالق الإنسان هو الأعرف بمواردها، ولذلك كان له حق التشريع دون الإنسان والذي قد يدرك بعضاً من أوجه المصالح والمفاسد إلا أنه يغفل أو تخفى عليه أوجه أخرى، ولذلك تجده يضع القانون جازماً بصوابيته ثم لا يلبث طويلاً حتى تنكشف له بعض ثغراته فيبدأ في ترميمها بعد أن راح ضحية ذلك القانون الكثير من الناس، وهكذا ينكشف له بعد بذل الجهد في التعديل انه يحتاج إلى تعديل.

هذا أولاً وثانياً: انه من غير المناسب الدعوى لملاحظة مسألة الدية من زاوية التكريم وإغفال الزوايا والملاكات الأخرى، ذلك لاحتمال أن الشارع قد لاحظ المسألة من تمام الوجوه ثم حكم بان دية المرأة بهذا المقدار على أساس تزاحم الملاكات. على أنّ تحديد دية المرأة بهذا المقدار لا ينافي تكريمها بل أن أصل تشريع الدية مناسب للتكريم لأنه يعبِّر عن عدم ذهاب دم القتيل هدراً، فجعل الدية على القاتل تكريم للمقتول والاستيحاش إنما جاء من ملاحظة التفاوت في تقدير الدية بين الرجل والمرأة وإلا لو كانت دية الرجل خمسة آلاف درهم كما هي دية المرأة لما وقع الاستيحاش. فجعل الدية للمقتول مناسب لتكريمه وأما تحديد مقدار الدية فخاضع لاعتبارات وملاكات أخرى. فعندما يعطى الصغير هدية ويعطى الكبير هدية فإن ذلك يكون من التكريم، وإذا كان ثمة من غضاضة في النفس فهو ناشيء عن التفاوت في مقدار الهدية، وهنا يمكن للمُهدي أن يعتذر لذلك بملاحظة التناسب أو أمر آخر. والأمر في المقام كذلك اذ لعل المشرِّع لاحظ الأعباء المالية التي يُكلِّف بها الرجل دون المرأة وان الرجل القتيل لو قُدِّر له البقاء فإنَّ عليه أن يتحمل مسئولية أعباء أسرة كاملة والمرأة في عافية من ذلك، ولهذا يكون قتله موجباً غالباً لوقوع أسرته في ضائقة شديدة.

وهذا بخلاف قتل المرأة فإنّه وأن كان سيحدث ألماً نفسياً قاسياً إلاّ أن وضع أسرتها المعيشي غالباً لايتأثّر بموتها، والألم النفسي الذي يحدثه موتها لا تخفف من قسوته الأموال قلّت أو كثرت. فالملحوظ احتمالاً في تقدير الدية إنما هو الآثار المعيشية المترتبة على القتل، فعندما تحتمل المرأة ان ذلك هو ملاك التفاوت في التقدير وتكون منصفة مع نفسها فإنّ الاستيحاش من التفاوت يرتفع خصوصاً مع الالتفات إلى حرص الشريعة على إكرامها في موارد كثيرة وإعفائها في موارد عديدة من المسؤوليات المالية، فالمرأة لو أنها قتلت أحداً خطئاً فهي غير مسئولة عن ديته وان الذي يتحمل دية قتيلها هم أقرباؤها الذكور دون الإناث، وان الذي يتحمل مسؤولية دية القتل سواء كان القاتل ابنها أو أخاها أو أباها أو بنتها أو أختها هم الأقرباء الذكور دون الإناث وان المرأة في عافية من ذلك، والمرأة لو كانت متمولة وثرية وكان زوجها فقيراً فإنّه مسئول عن نفقتها ولا يجب عليها أن تنفق شيئاً من أموالها على نفسها وإذا لم يجد زوجها ماينفقه عليها لزمه التكسب أو الاقتراض أو الأخذ من أموال الزكاة، وان مصارف علاجها ومسكنها ولباسها بل وزينتها على زوجها أو أبيها أو جدها.

إن الذي ينبغي أن يكون عليه الباحث الموضوعي هو ملاحظة الأمور بنظرة شمولية ذلك لأن اجتراء القضايا وفصلها عن منظومتها هو من أقبح صور التضليل وهو منشأ الابتعاد عن الواقع والصواب. وكيف كان فالمعوَّل عليه في تحديد مقدار الدية هو السنة الشريفة المستكشفة إما بواسطة الروايات المتواترة عن أهل البيت (ع) كما هو مبنى الأمامية أو بواسطة الإجماع القطعي الثابت عن الصحابة والتابعين كما هو مبنى علماء السنة وبذلك لاتصل النوبة للتمسك بالاستحسانات حتى بناء على القول بحجيتها لأنه لا يصح إعمال الرأي والنظر وتحكيم الذوق في مقابل النص الشرعي.

وأما ما ذُكر من أن المستفيد من الحكم بالتصنيف هم شركات التأمين فالأمر ليس كذلك، لان ما تدفعه شركات التأمين هو مقتضى الوفاء بالعقد الذي بينها وبين القاتل أو بينها وبين الشركة التي يعمل عندها، فشركات التأمين ليست ملزمة بالدية لولا العقد. ولما كان الأمر كذلك فإن من السائغ شرعاً التباني عند إيقاع العقد على التزام شركة التأمين بمبلغ محدَّد عند اتفاق وقوع القتل الخطائي بقطع النظر عن كون المقتول رجلاً أو امرأة. وهذا لا صلة له بمقدار الدية التي حددها الشارع الإسلامي، فإن لطرف عقد التأمين أن يشترط في ضمن العقد التزام شركة التأمين بأضعاف مقدار دية الرجل بقطع النظر عن جنس المقتول، وحينئذٍ تكون شركة التأمين ملزمة بالوفاء بمقتضى العقد حتى لو اتفق كون المقتول امرأة بل وحتى لو كان المقتول من غير الإنسان لو تم العقد على أساس ذلك.

والحمد لله رب العالمين

 

من كتاب: مقالات حول حقوق المرأة

 

الشيخ محمد صنقور

21 صفر 1426هـ


1- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 29 ص 205.

2- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 29 ص 80.

3- المغني -عبد الله بن قدامه- ج 9 ص 529.

4- المغني -عبد الله بن قدامه- ج 9 ص 532.

5- بداية المجتهد ونهاية المقتصد -ابن رشد الحفيد- ج 2 ص 338.

6- أحكام القرآن للجصاص 238: 2، والمبسوط 79: 2، والهداية 306: 8، والنتف671: 2، ومختصرا المزني 246، والمجموع 52: 19، وحلية العلماء 543: 7، وكفاية الأخيار، ورحمة الأمة112: 2 والسنن الكبرى 95: 8، والشرح الكبير 519: 9، وفتح الرحيم 85: 3، وفتح المعين 128، والبحر الزخار 275: 6، ونيل الأوطار 225: 7، وتبيين الحقائق 128: 6، والسنن الكبرى 95: 8، ونصب الراية 5362: 4، وتلخيص الحبير 344، والمجموع 25: 16، ونيل الاوطار 225: 7.

7- سورة النساء / 92.