البداء عند الشيعة

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد

البداء في اللَّغة بمعنى الظهور، يقال "بدا لي أمر" أي ظهر بعد خفائه أو بعد أنْ لم يكن ظاهراً. والبداء بهذا المعنى مستحيلٌ على الله تعالى، إذ لا يتَّفق ذلك إلاّ لمن يجوز عليه الجهل وهو تعالى منزَّهٌ عن النقص فهو الكمال المطلق الغير المتناهي، وإذا كان كذلك فهو عالمٌ بكلِّ شيءٍ ولا تخفى عليه خافيةٌ في الأرض ولا في السماء يعلم ما يلجُ في الأرض وما يخرج منها وما ينزلُ من السماء وما يعرج فيها وهو عليم بذات الصدور.

فليس ثمة عالَمٌ من العوالم إلاّ وهو تعالى محيطٌ به ومطَّلع عليه، على أنَّ علمه تعالى أزليٌّ بأزلية ذاته المقدَّسة، هذا ما عليه الإمامية "رفع اللهُ شأنهم".

وأمَّا قولهم بالبداء فليس المقصود منه الظهور بعد الخفاء، إذ أنَّهم مجمعون قاطبة ودون استثناء على استحالة ذلك على الله تعالى، فما نُسب إليهم من المصير الى هذا القول محضُ افتراء وإرجاف، فهذه كتبهم تعبِّر عن فساد هذه النسبة، والى الله المشتكى ربنا ﴿إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾(1). والبداء الذي تقول به الإمامية إنَّما هو الإظهار بعد الإخفاء، والتعبير عن ذلك بالبداء إنَّما هو مجرَّد اصطلاح ولا مشاحَّة في الاصطلاح.

المشاكلة تحقيقيَّة وتقديريَّة:

ومنشأ الاصطلاح عليه بالبداء هو علاقة المشاكلة، والتي تعني -كما ذكر علماء البديع- "ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقاً أو تقديراً". كما في قوله تعالى: ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾(2)، فإنَّ نسبة المكر إلى الله تعالى ليس بمعنى المكر المنسوب إلى الكفار والذي يستبطنُ معنى الخديعة، إذ هو تعالى منزَّهٌ عنها، فالمكر المنسوب إلى الله تعالى يعني الغلبة والقهر، وإنَّما جيء بلفظ المكر لغرض المشاكلة بمعنى أنَّه استعاض عن لفظ الغلبة والقهر أو ما يُرادفهما بلفظ المكر لمناسبته ومشاكلته للفظ المكر المستعمَل -في صدر الآية الشريفة- في معناه الحقيقي.

هذا فيما تكون فيه المشاكلة تحقيقيَّة، وقد تكون تقديرية كما في قوله تعالى: ﴿لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾(3)، فإنَّ تمييز الخبيث من الطيب منوط بالامتحان، وهذا يعني الجهل بالواقع قبل الامتحان، وهو مستحيل على الله تعالى، إلاّ أنَّ استعمال لفظ التمييز هنا للمشاكلة التقديريَّة حيث لم يذكر لفظ التمييز بمعناه الحقيقي في نفس الكلام إلاّ أنّه مقدَّر بمعنى أنَّ الله تعالى أراد تقريب المعنى المراد عنده جلَّ وعلا بالمعنى المألوف للتمييز وهو المعنى المناسب للإنسان.

واستعمال لفظ البداء في الإبداء من قبيل المشاكلة التقديريَّة، والتي هي مجرَّد استبدال لفظٍ بلفظ دون أن يكتسب المعنى الذي استُعمل اللفظ فيه -مجازاً- ما يعبِّر عنه المعنى الحقيقي للفظ، غايته أنَّ هذا اللفظ لمَّا كان مألوفاً أكثر ومعناه الحقيقي أقرب للفهم اتُّخذ هذا اللفظ معبراً وطريقاً لإفهام المعنى الآخر الأدق والذي هو الإبداء.

على إنَّ هذا الاستعمال لسنا مختصِّين به بل ذُكر في روايات السنَّة أيضاً، فقد نقل البخاري في صحيحه بإسناده عن أبي عمرة أنَّ أبا هريرة حدَّثه انَّه سمع رسول الله (ص) يقول "إنَّ ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأعمى وأقرع بدا لله عزَّ وجل أنْ يبتليَهم .."(4).

وكيف كان فالمراد من البداء هو أنَّ المشيئة الإلهيَّة اقتضت تدبير بعض الأمور على أساس القابليَّة للتغيّر أو التقديم والتأخير وربط بعض المقدَّرات بأُخرى بنحو التعليق، على أنَّه تعالى مطلع من الأزل على المتقدِّم منها من المتأخر، وعلى أنَّ المعلَّق منها هل سيتم لتحقق المعلَّق عليه أو أنَّه لن يتم لأنَّ المعلَّق عليه لن يتحقق. فالمحو والإثبات والتغيير والتأخير والتقديم والتعليق لا يتنافى مع علمه بما ستصير إليه الأمور، وإنَّما اقتضت حكمته وشاءت إرادته تدبير خلقه بهذا النحو من التدبير "لا يُسأل عمَّا يفعل". وقد دلَّت على هذا النحو من المشئية آيات كثيرة.

منها قوله تعالى: ﴿وَأَن لّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا﴾(5)، ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء﴾(6)، ﴿انَّ الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾(7)، ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾(8)، ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾(9)، ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِه﴾(10)، ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ﴾(11)، ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ﴾(12)، ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ﴾(13). فالبركات المنفتحة عن السماء، والنصر الذي يؤيد الله به أنصاره، والنور المفاض عن الله تعالى على المؤمنين، وتعجيل الخير بدلاً عن تأخيره، وتأخير العذاب بدلاً عن تعجيله كلُّها مظاهر للقدرة الإلهية والتي هي مكنونة في مخزون علمه، غايته أنَّ حكمته اقتضت التعجيل أو التأخير أو التعليق.

فالتعبير عن ذلك بالبداء نشأ عن أنَّه تعالى يظهر مشيئته لعباده فيظهر لهم ما كان خفياً عنهم، فقد يعدُهم بالنصر فيؤخِّره عنهم لأنَّ مشيئته اقتضت تعليق النصر على التوكُّل على الله، فلمَّا خلت نفوسهم عنه أخَّر النصر عنهم، فتظهر لهم مشيئته في التأخير بعد أن لم تكن ظاهرةً لهم لوعده إيَّاهم بالنصر، وهذا لا يستلزم الكذب لأنَّه علَّق وعده بالنصر على التوكُّل وهم قد خلو منه، وقد لا يصرّح بالمعلَّق عليه لمصلحةٍ اقتضتها حكمته البالغة. ويُعبَّر عن هذا النحو من القضاء -في تمام الموارد التي ذكرناها- بالقضاء غير المحتوم وبالقضاء الموقوف، وهو المقصود من لوح المحو والإثبات المستفاد من الآية الكريمة ﴿يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾(14).

وقد دلَّت على البداء بهذا المعنى رواياتٌ كثيرة من طرقنا:

منها: ما عن علي بن إبراهيم في تفسيره عن عبد الله بن مسكان عن أبي عبد الله (ع) قال: "اذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة والروح والكتبة إلى سماء الدنيا فيكتبون ما يكون من قضاء الله تعالى في تلك السنة، فإذا أراد الله أن يُقدِّم شيئاً أو يؤخره أو يُنقص شيئاً أمر الملك أنْ يمحو ما يشاء ثم أثبت الذي أراده، قلتُ: وكلُّ شيء هو عند الله مثبَتٌ في كتاب الله، قال: نعم، قلتُ: فأيُّ شيءٍ يكون بعده، قال: "سبحان الله ثم يُحدِث الله أيضاً ما يشاء تبارك وتعالى"(15).

ومنها: ما عن علي بن إبراهيم أيضاً في تفسيره عن عبد الله بن مسكان عن أبي جعفر وأبي عبد الله وأبي الحسن (ع) عند تفسير قوله تعالى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾(16) أي يُقدِّر اللهُ كلَّ أمر من الحقِّ ومن الباطل، وما يكون في تلك السنة، وله فيه البداء والمشيئة، يقدِّم ما يشاء ويؤخِّر ما يشاء من الآجال والأرزاق والبلايا والأعراض والأمراض ويزيد فيها ما يشاء ويُنقص ما يشاء"(17).

فالمراد من البداء هو أنَّ لله تعالى المشيئة فيما يقضيه ويُقدِّره، إلاّ أنَّ ذلك لا يعني أنَّ مشيئته التي قد تقتضي التقديم أو التأخير أو عدم وقوع المعلَّق عند عدم وقوع المعلَّق عليه نشأت عن عدم علمه بمجاري الأمور حيث يظهر له بعد ذلك أنَّ الأوفق هو تقديم ما قدَّر تأخيرَه أو تأخير ما قدَّر تقديمَه، وإنَّما مشيئته اقتضت تدبير خلقِه بهذا النحو من التدبير.

ولهذا أكَّدت الروايات على هذا المعنى:

منها: ما رواه الصدوق في إكمال الدين بإسناده عن أبي بصير وسماعه عن أبي عبد الله (ع): "مَن زعم أنَّ الله عزَّ وجل يبدو له في شيءٍ لم يعلمه أمسِ فابرأوا منه"(18).

ومنها: ما رواه العياشي عن ابن سنان عن أبي عبد الله (ع) يقول: "إنَّ الله يقدِّم ما يشاء ويؤخِّر ما يشاء ويمحو ما يشاء ويُثبت ما يشاء وعنده أُمُّ الكتاب، وقال فكلُّ أمرٍ يُريده الله فهو في علمِه قبل أنْ يصنعه ليس شيءٌ يبدو له إلاّ وقد كان في علمه، إنَّ الله لا يبدو له من جهل"(19).

هذا هو مراد الإمامية من البداء، والطعنُ عليهم إنَّما جاء من عدم فهم مرادهم ومع انفهمامه لا معنى لعرض أدلَّتهم ومن أراد فليراجع.

والحمد لله ربّ العالمين

الشيخ محمد صنقور


1- سورة المائدة / 116.

2- سورة آل عمران / 54.

3- سورة الأنفال / 37.

4- صحيح البخاري: كتاب الأنبياء باب ما ذكره عن بني اسرائيل / الحديث 3277.

5- سورة الجن / 16.

6- سورة الأعراف / 96.

7- سورة الرعد / 11.

8- سورة محمد / 7.

9- سورة الزخرف / 55.

10- سورة الحديد / 28.

11- سورة الإسراء / 18.

12- سورة هود / 8.

13- سورة فاطر / 11.

14- سورة الرعد / 39.

15- البحار ج4 / ص12 / الحديث 18.

16- سورة الدخان / 4.

17- البحار ج4 / ص11 / الحديث 12.

18- البحار ج4 / ص111 / الحديث 30.

19- البحار ج4 / ص102 / الحديث 14.