أدب المجالس
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمد، وعلى آله الأخيار الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا أبواب رحمتك، وانشر علينا خزائن علومك.
قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا﴾(1)
صدق الله العلي العظيم
انطلاقاً من هذه الآية المباركة -الواردة في سورة المجادلة-، نودَُ أن نتحدث عن موضوعٍ هو في غاية الأهمية، وهو أدب المجالس، الذي أدّبنا به رسول الله (ص) وأهل بيته، (ع) وأدّبنا به قبل ذلك القرآن الكريم.
والحديث حول أدب المجالس يقع في مجموعة محاور، نبدأ بالمجالس التي نهى عنها القرآن الكريم، والرسول الكريم وأهل بيته (ع). وثمَّة محاور أخرى، نتحدث عنها بعد الحديث حول هذا المحور.
المحور الأول: المجالس المنهيُّ عنها:
النوع الأول: مجالس المعصية:
هناك مجالس نهى عنها الرسول وأهل بيته (عليهم أفضل الصلاة والسلام)، ونهوا عن الكَوْن فيها، وعن عقدها، وعن ارتيادها وقصدها. هذه المجالس يمكن أن نُجمِلها تحت عنوان المجالس التي يُعصى الله فيها، فكلُّ مجلسٍ يُعصى الله فيه -بأيِّ نحوٍ من أنحاء المعصية- فهي من المجالس المنهيِّ عن عقدها، أو قصدها، أو الكون فيها.
وحتى نُفصّل هذا العنوان المُجمل، نشير إلى الموارد التالية:
أولاً: مجالس المنكر
ثمة مجالس يُرتكب فيها المنكر والفاحشة، أو تكون معقودة للهو والطرب، فهذه من المجالس التي نُهي عن عقدها وارتيادها والجلوس فيها.
قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ﴾(2). في هذه الآية المباركة يُعدِّد نبيُّ الله لوط (ع) المعاصيَ التي يرتكبها قومُه، ويوبِّخهم على ارتكابها.
فبدأ بالمنكر الأكبر، الذي كان أهمَّ منشأٍ لنزول العذاب على قوم لوط (ع)، وهو قوله تعالى: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ﴾، هؤلاء كانوا يتعاطون الفاحشة واللواط -والعياذ بالله-، فهذا أوَّل منكرٍ كان يرتكبه قوم لوط. والمنكر الثاني: قوله: ﴿وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ﴾، إمَّا إنَّهم يقطعون الطُرُق، ويتعرَّضون للمسافرين، فيأخذون أموالهم، وأمتعتهم، ويؤذونهم. أو يمنعونهم من العبور في هذا الطريق أو ذاك؛ بدعوى أنَّ ذلك من حقِّهم، ويؤذون الناس، وهو مِن قطع السبيل، وإما أن يكون المراد من قطع السبيل هو قطع سبيل الخير، بأنْ إذا وجدوا أحداً يفعلُ خيراً لأحدٍ منعوه، فهم لا يكتفون بعدم فعل الخير، بل إنَّهم يمنعون الخيرِّين و المحسنين من أن يفعلوا الخير. وأمَّا الثالث: فقوله: ﴿وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ﴾ -أي في مجلسكم-، والظاهر أنَّ المقصود من المنكر -في هذه الفقرة- هو غير اللواط لأنه قد أُشير إليه في الفقرة الأولى، نعم هو أبرز المنكرات التي كانوا يأتونها في مجالسهم، إلا أنَّ ثمة منكراتٍ أخرى كانوا يجترحونها في مجالسهم، فقد أفادت الروايات أنَّهم إذا جلسوا في مجلسٍ فإنهم يتعاطون فيه الطرب، واللهو، وضرب الدفوف، والرقص، والغناء، والتصفيق، والتصفير، حتى عُدَّ الصفير والتصفيق من سمات قوم لوط، فكلُّ مجلسٍ يُلهى فيه بالطرب، والغناء، وما يشبه ذلك من أفعال أهل الفسوق، من رقصٍ وما إلى ذلك، فهو من المنكر الذي كان يفعله قوم لوط.
لذلك قلنا -مراراً- أنه لا ينبغي للمؤمن في مناسبات الأفراح، وفي المواليد والمناسبات الدينية، أن يصفِّقوا على ألحان المنشدين، أو الخطباء، فإنَّ ذلك من عمل قوم لوط، وقد ذمَّ الله -عز وجل- المشركين من عرب الجاهلية الذين يفعلون ذلك أيضاً، حيث كانوا يطوفون حول البيت الحرام ولم يكن دعاؤهم إلَّا مُكاءاً وتصديةً، أي صفيراً وتصفيقاً (3)، وهو من فعل اللهو، ومن العبث، وخصوصاً إذا كان التصفير والتصفيق على إيقاع ألحانٍ لا تليق بالمؤمن، فهو من اللهو دون ريب. نعم إذا كان التصفيق لغرض التحيَّة، أو لغرض التشجيع، فهذا أمرٌ آخر. وإنما نتحدث هنا عن التصفيق الذي يكون على إيقاع الألحان -خصوصاً في المآتم، وفي المساجد، وفي المحالِّ المحترمة في الدين، والمحترمة في المذهب-، إذ لا ينبغي أن نفعل فيها ما هو لهوٌ، وما هو ممقوتٌ في الدين، حتى لو لم يبلغ مرتبة الحرمة، يكفي أنه بالغٌ مرتبة المرجوحيَّة، فإنَّ ذلك يدعونا إلى أن لا نفعله، لا أقلَّ في مآتم الحسين (ع)، وفي مساجد الله -جلَّ وعلا-.
ثانياً: مجالس الكفر والضلال
ومن مصاديق هذا العنوان أيضا،ً ما ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾(4)، ويقول في آية أخرى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ أي بعد هذا التذكير، وبعد هذا الوعظ القرآني فإنه لا يسوغ لك أن تقعد مع الظالمين، وهم الذين يستهزؤون بآيات الله، ويكفرون بها، فهؤلاء وصفهم القرآن بالظالمين، وهؤلاء لا ينبغي، بل لا يجوز الجلوس معهم، وقصدُ مجالسهم، فالذين يهزؤون بآيات الله، أو الذين يأتون بالشبهات والضلالات في مجالسهم، يجلسون فيطرحون الشبهات والضلالات؛ لتستحكم في نفوسهم، وفي نفوس مجالسيهم. أو تراهم يستهزؤون، ويتهكمون بشريعة الله تعالى أو يتنكَّرون لبعض ما روي عن النبي (ص) بغيرِ وجهِ حق أو إذا مرَّوا بفضيلة لأهل البيت (ع) اشمئزت قلوبهم وأخذوا يسخرون أو يتنكرون لها، أولئك لا ينبغي الجلوس، بل لا يجوز الجلوس معهم، إلَّا لغرض إبطال معتقداتهم، وتفنيد ضلالاتهم، وردِّ شُبُهاتهم، فهذا هو ما يصحِّح الجلوس معهم وإلا فلا يسوغ لمؤمنٍ مجالسة مثل هئلاء.
وقد تصدَّى أهل البيت (ع) لتفسير هاتين الآيتين، وتطبيقها على بعض الموارد، منها: ما ورد عن الإمام الصادق -عندما كان بصدد بيان قوله تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾-، قال: إنما عنى بهذا، يعني إذا سمعتم الرجل الذي يجحد الحقَّ، ويُكذِّب به، ويَقع في الأئمة، فقُم من عنده، ولا تُقاعده -كائناً من كان-(5).
وهذا الأمر لا يختص بمجلسٍ فيه رجال بشخوصهم، بل أنت قد تجالس آخرين عبر الانترنت -مثلاً- فانظرْ مَن تُجالس فإذا كان مَن تُجالسه، ومن تُحادثه، من الذين يستهزئون بآيات الله، أو يجحدون بعض آياته، أو يتَنكَّرون لولاية أهل البيت (ع)، فلا ينبغي أن تجالسهم، وأن تحادثهم. إلَّا أن تكون قادراً على تغيير متبنياتهم أو نصحهم، وإرشادهم. فإن استجابوا، وإلَّا فلا تجلس معهم بعد الذِّكرى، وبعد أن نصحتهم، ووعظتهم. فالأمر ينسحب على مثل ذلك أيضاً، ولا يختص بالمجالس المألوفة المتعارفة.
ثالثاً: مجالس الرِّيبة:
مورد آخر -حتى لا نطيل عليكم- أشار إليه علي بن أبي طالب (ع) في بعض ما أُثر عنه، قال: "مَن كان يُؤمنُ بالله واليوم الآخر فلا يقوم مكان ريبة"(6).
المجالس التي تكون مورداً لريبة العقلاء، ومورداً لارتياب المؤمنين، مثل هذه المجالس لا ينبغي للمؤمن أن يقصدها، وأن يرتادها، وأن يجلس فيها. هناك رجالٌ مُريبون من أهل الرِّيَب، من أهل البِّدع، أو من أهل الفُسوق، وثمة مجالس إذا ارتادها المؤمن كان في دائرة الظن السيئ مثل هذه المجالس لا يليق بالمؤمن أن يرتادها، (فمن جلس في مجلسٍ فيه ريبةٍ، فارتاب الناس فيه، فلا يلومنَّ إلا نفسه). مثلاً: المقاهي التي يُعصى الله فيها، قد يقصدها المؤمن لشرب الشاي، والقهوة، ولفعل المباح .. ولكنه محلٌّ يُدار فيه القمار، ويُعبث فيه، ويتعالى صوت الموسيقى والغناء في جنباته! هذا من مواضع الريبة التي حذَّر الإمام علي (ع) من ارتيادها في هذه الرواية، وفي روايات أخرى أيضاً. ولا يُصحِّح الحضور لمثل هذه المجالس عدمُ مقارفة المعصية، فإنها مجالس يعصى الله تعالى فيها فهي محلٌ لسخطه! ألا يخشى المؤمن أن يكون مشمولاً لسخط الله -عزَّ وجلَّ- كما ورد في الروايات؟ هذا مجلسٌ، يَبغضه الله ولا ينبغي لمؤمنٍ أن يكون في موقع مبغوضٍ لله عز وجل؟!
وكذلك نجد بعضهم: يذهب للسينما، ويبرِّر ذلك بأنه سيشاهد فيلماً يباح النظر إليه. حسناً، قد يكون الفيلم مباحاً، ولكن الموضع الذي يُعرض فيه الفيلم هو من مجالس الريبة؛ لأنه موضع يحضر فيه الفُسَّاق، ويحضر فيه أهل الرِّيَب، فكيف تجلس فيه؟! على أنَّه حينما تجلس في هذا الموقع الموبوء، القذر، المبغوض لله -عز وجل- فهل تأمن أن لا ترتفع المزامير فيه والموسيقى والطرب؟ هل تملك أن تتحكَّم في المشاهد المعروضة؟ فقد يُعرض مشهد إباحيّ أو خادش للعفة والشرف، كما أنَّ المحل يكون مختلطاً عادة بغير المحتشمات من النساء.
رابعاً: مجالس يُشرب فيها الخمر:
قال أمير المؤمنين (ع): "لا تجلسوا على مائدة يُشرب عليها الخمر فإنَّ العبد لا يدري متى يُأخذ"(7)، لا يدري الإنسان، متى يحيين أجله فربما يتفق ذلك وهو جالس على تلك المائدة، فبدلاً من أن يقع ذلك وهو في مسجدٍ، أو في بيته، أو على فراشه، أو في موقعٍ محبوب عند الله تعالى، فإنَّه يرحل إلى ربِّه من موقعٍ يُشرب فيه الخمر، وأيُّ موقعٍ قذرٍ هذا، أم أيُّ عاقبةُ سوءٍ تلك؟!
الروايات كثيرة، والمسألة ابتلائية:
روايات عديدة وكثيرة بهذا المعنى، وكنَّا نتوهَّم أننا في منئىً عن ذلك، ثمَّ سمعنا من بعض الإخوة أنهم يُدعون إلى قهوة عمل، أو عشاء عمل، في بعض الفنادق، أو في بعض المحالِّ و المقاهي .. ويعتذرون بالاضطرار لحضور تلك الأماكن لأنَّ طبيعة العمل تقتضى ذلك!! ليذهب العمل إلى الجحيم، رزق الله واسع، لماذا تحضر هذا المحلّ الذي نهى الله -عز وجل- عن الذهاب إليه؟! حتى لو لم تكن ممن يشرب -أجلَّكم الله جميعاً-، فإنَّ محض الجلوس على مائدةٍ يُشرب عليها الخمر. معصية بل هو من المعاصي المُوبِقة.
هذا هو النوع الأول من المجالس المنهيّ عنها، وهو ما عبَّرنا عنه بمجالس المعصية، وقد ذكرنا له جملة من الموارد.
النوع الثاني: مجالس لا ينبغي حضورها:
هناك مجالس نهت الروايات عن ارتيادها نهياً لا يصلَّ حدَّ الحرمة فيكون ارتيادها لذلك مرجوحاً وليس محرماًً، نعم قد يتصف ارتياد هذه المجالس بالحرمة إذا تعنون بعناوين إضافية مقتضية للحرمة.
أولاً: الجلوس في الطرقات:
ورد النهي في روايات عديدة عن الجلوس في الطرقات فمنها قوله (ع): إيّاك والجلوس في الطرقات"(8).
فالجلوس في الطرقات أمرٌ مرجوحٌ، وذلك لاستلزامه الإيذاء للمارة خصوصاً النساء منهم. الطريق يطرقه كلُّ الناس، وهو وسيلة الوصول للمقاصد، فليس من أحدٍ إلَّا وهو بحاجة إلى هذا الطريق، فإذا أنت شغلت الطريق، أو جلست على قارعته، أو بجانبه، استحت المرأة أن تمرّ، وخجل الرجل أن يمرَّ لحاجته، فأنت كنت سبباً لإيذاء المؤمن، وإيذاء المؤمنة. ويزداد الأمر سوءاً إذا كان أحدنا يجلس في الطريق مع صاحبه أو أصحابه، فيُحدِثون شغباً وفوضى، ويزداد سوءاً إذا كان مجلسهم هذا للضحك والعبث، ويزداد السُّوء سوءاً إذا كان الجلوس للنظر إلى النساء، وتصفُّح وجوه النساء ومشيهن!
ثانياً: المجالس الثلاثة:
ورد عن الرسول الكريم (ص) أنَّه قال: "ثلاثةٌ مجالستهم تُميت القلب"(9) -موت القلب، يعني صيرورته لاهياً غافلاً-، مَن هم يا رسول الله؟
الأوّل: قال (ص): "مجالسة الأنذال"
قال: مجالسة الأنذال.
من هم الأنذال؟ الأنذال هم السَّفلة من الناس. هناك شريحة من المجتمع -وكلُّ مجتمعٍ يشتمل على هذه الشريحة- يصحُّ توصيفهم بالسَّفلة، والمراد من السَّفلة: هم أولئك الذين لا يكترثون بحقٍّ، ولا بطاعةٍ، ولا يُبالون بما يقولون، ولا بما يُقال فيهم ولا بما يفعلون، فهم حقراء، ساقطون، لا يلتزمون بأدنى مراتب المروَّة. مجالسة هؤلاء تُميت القلب؛ لأنَّ حديثهم لن يخلو: إمَّا أن يكون طعناً في أعراض الناس أو تهكماً بهم وتفكهاً بصفاتهم وأفعالهم. وإما أن يكون حديثهم حول التَّرغيب في المعصية، فترى أحدهم يتحدَّث لجلسائه عما ارتكبه من المعاصي ويزيِّنها لهم ويتفاخر بارتكاب الفاحشة ويُهوِّنها في نظرهم وقد يرشدهم إلى أيسر الطرق لارتكابها، وترى أحدهم يتفاخر بسباب الناس أو غشهم والاحتيال عليهم، وقد تجد بعضهم يحكي ما يقع بينه وبين زوجته مستعملاً البذيء من الألفاظ، مثل هؤلاء هم الأنذال والسفلة من الناس الذين نهى رسول الله (ص) عن مجالستهم وأفاد أن مجالستهم تُميت القلب.
الثاني: قال (ص): "الحديث مع النساء"
والثاني: قال (ص): "الحديث مع النساء"
المرأة جنسٌ، والرجل جنسٌ آخر وكلُّ منهما مختلفٌ عن الثاني -شاء الحقوقيون، أو أبوا، فهذا هو الواقع- المرأة غير الرجل، المرأة تنجذب للرجل، والرجل ينجذب للمرأة، هذا هو الواقع، فإن أردتم أن تُخرجوا الناس من فطرتهم، فذاك لن يتحقَّق، فاعملوا ما شئتم، وحاولوا ما استطعتم، فلن تُغيَّروا هذا الواقع.
إذا كثُرت المحادثة بين الرجل والمرأة، وكان بينهما التفكُّه والمزاح والمؤانسة مات القلب وأصبح غير مستأثِمٍ ولا مستوحشٍ من المعصية فيخلو من الورع والتقوى، فالحديث يجرُّ إلى العاطفة وهي تجرُّ إلى الانجذاب ثم إلى النظر المريب ثم إلى الخلوة..!!
ثم إنَّ مُحادثة النساء تبعث في نفس الرجل أُنساً، فتسلب منه الاستيحاش الذي ركَّزه وأصَّله الدِّين في نفوسنا -الاستيحاش من النظر، الاستيحاش من الرِّيبة، الاستيحاش من تعلُّق النفس بالنِّساء الذي يُلهي ويُنسي، الاستيحاش من ارتكاب المعصية، وارتكاب الفاحشة-.. فالذين ارتكبوا الفاحشة والزِّنا -والعياذ بالله-، لم يرتكبوه إلّا حين لم تستوحشه نفوسهم. نعم، المحادثة وفق الضوابط الشرعية التي تقتضيها الضرورة، لا بأس بها، ولا مانع منها. أما أن تنتهي المحادثة إلى المؤانسة، أو يقصد الرجال مجالس النساء، وتقصد النساء مجالس الرجال، ويتناولون الغذاء أو العشاء مع بعضهم ويتحادثون ويتجاذبون أطراف الحديث تحت شعار المساواة بين الرجل والمرأة فذلك ما ينشأ عنه موت القلب وقد نُهينا عن ذلك وحذرت الروايات الشريفة من عواقبه الوخيمة.
وهذا حديث دو شجون وقد تحدثنا وسنتحدث عنه فيما يأتي إن شاء الله تعالى.
الثالث: قال (ص): "مجالسة الأغنياء"
قال (ص): "مجالسة الأغنياء" وفي رواية أخرى: "أربعٌ يُمتن القلب: "الذَّنبُ على الذَّنب .. إلى أن قال ومجالسة الموتى، قيل: وما الموتى؟ قال: كلُّ غنيٍّ مترَف"(10). وليس المراد من محادثة الأغنياء، أو مجالستهم، مجرَّد الجلوس أو التحدث مع أصحاب الثروة والغنى، بل المراد هو قصد الغنيّ والجلوس معه، والتزلُّف إليه، والتَّمسكُن عنده، ومجالسته بشكلٍ دائم لا لشيء سوى أنَّه غنّي، أما لو كان فقيراً فإنه لا يقصد مجلسه ولا يرغب في محادثته .. هذا هو المقصود من مجالسة الأغنياء، أمَّا لو كان غنياً، وهو جارك، مثلاً وزرته وزارك، فهذا المعنى لا تذُّمه الروايات.
لم كانت مجالسة الأغنياء مميتة للقلب؟
لأنَّ حديث الغني لن يخلو إما عن عقد صفقةٍ أو نقض أخرى وإما أن يكون حديثاً عن مشاريعه وطموحاته التجارية أو عما صادفه في أسفاره من متاع الدنيا، والحديث حول هذه الأمور، مُشغلةٌ للنفس. لا ينبغي للمؤمن أن يكون شغله الشاغل في كلِّ حياته هو هذه الأمور، ينام على حسابات، ويستيقظ على حسابات، الآلة الحاسبة لا تفارق يده، حتى إذا نام فإنَّ زوجته ترى أصابع يده تتحرَّك! -يتوهم إنَّه يحسب، يجلس فيطالع الحسابات، -ما ربحه، وما خسره من نقود-، خصوصاً مَن اشتغل وابتُلي بالبورصة والأسهم، فسيطرت هذه السوق على كلِّ تفكيره ومشاعره، فعينُه على مؤشِّر البورصة، هل ارتفع السهم، أم نزل السهم! هذا الشخص هل يُفكر في صلاة؟ أو يفكر في قضاء حاجة مؤمن؟ هل يُفكر في إعانة ضعيف؟ أو يُفكر في الشئون الاجتماعية -في بناء المجتمع، في تطوير المجتمع، في تنمية المجتمع-؟ هل يفكر في المطالبة بحقوق الناس؟ أو يُشاركهم في أفراحهم، وفي أحزانهم؟! هذا الرجل مشغول عن كلِّ ذلك، ومجالسته تفصلك عن مثل هذه الأمور.
نحن نؤكِّد على حُسن، بل واستحباب التجارة، فالروايات تؤكِّد على أنه ينبغي للمؤمن أن يشتغل بالتجارة، و يشتغل بالكسب.. وما من دين من الأديان حثَّ على استصلاح الحال، والمعيشة، والتكسب، والتجارة، كما هو دين الإسلام، لكنَّ هذا ليس كلُّ شي .. "ثلاثةٌ، مُجالستهم تُميت القلب: مُجالسة الأنذال، والحديث مع النساء، ومجالسة الأغنياء"(11).
نستكمل الحديث -إن شاء الله- حول أدب المجالس، في الحديث القادم إن شاء الله.
اللهم صل على محمد وآل محمد
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
1- سورة المجادلة / 11.
2- سورة العنكبوت / 29.
3- ﴿وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾، سورة الأنفال / 177.
4- سورة النساء / 140.
5- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 71 ص 212.
6- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 16 ص 262.
7- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 25 ص 29.
8- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 72 ص 465.
9- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 12 ص 35.
10- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 20 ص 198.
11- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 12 ص 35.