شرح دعاء مكارم الأخلاق (1)

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على اشرف الأنبياء والمرسلين وخاتم النبيين حبيب اله العالمين أبي القاسم محمد وعلى آله الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا

اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم وأكرمنا بنور الفهم وافتح علينا أبواب رحمتك وانشر علينا خزائن علومك.

"اللهم صل على محمد وآل محمد، وبلِّغ بإيماني أكمل الإيمان، واجعل يقيني أفضل اليقين، وأنته بنيَّتي إلى أحسن النيات، وإلى عملي أحسن الأعمال"(1).

أهمية هذا الدعاء المبارك:

هذه هي الفقرات الأولى من دعاء مكارم الأخلاق الوارد في الصحيفة السجادية للإمام السجاد عليه أفضل الصلاة والسلام. ونود في هذه الجلسة، وفي الجلسات المقبلة -إن شاء الله تعالى-، أن نقف على بعض فقرات هذا الدعاء العالي في مضامينه، والجامع في معناه، وفي أثره. لمكارم الأخلاق ومحاسن السجايا والصفات هذا الدعاء المبارك، لو سعى كلُّ مؤمنٍ إلى تمثُّله، لارتقى إلى أعلى درجات الكمال، ولكان من أكثر المؤمنين شبهاً بأهل البيت -عليهم أفضل الصلاة والسلام-.

شرح الدعاء:

الفقرة الأولى: "وبلِّغ إيماني أكمل الإيمان".

مقدَّمة: الإيمان .. مراتب ودرجات

هنا يشير الإمام السجاد (ع) إلى أنَّ الإيمان ليس على مرتبةٍ واحدة، فقد يتصف الإنسان بالإيمان ولكنه قد يكون في أدنى مراتب الإيمان، فليس كلُّ من اتصف بالإيمان كان واجداً لكلِّ مراتب الإيمان. لذلك يظلُّ الإنسان المؤمن في سعيٍ دائم؛ من أجل أن يرقى مرتبةً بعد مرتبة. وقد يُفني عمره كلَّه ولا يتمكن من الوصول إلى أعلى مراتب الإيمان.

الحثّ على الإرتقاء

ولهذا يستحثُّ الإمام السجاد (ع) المؤمنين على أن يكون شغلهم الشاغل، وهمُّهم الأكبر، هو الوصول لأعلى مراتب الإيمان، فلا ينبغي للمؤمن أن يقنع بما هو عليه من مرتبة إيمانية، بل يجب عليه أنْ يسعى، ويجاهد نفسه، ويستفرغ كلَّ ما في وسعه؛ من أجل أن يتخطَّى مراتب الإيمان، مرتبةً بعد مرتبة.

الارتقاء شاقّ والغفلة عنه ظلمٌ للنفس

يقول الله تعالى: ﴿إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾(2). لا يمكن للمؤمن أن يترقَّى وأن يتخطَّى المراتب -مرتبةً بعد أخرى- إلَّا بالكدح، والعناء، والمجهادة، والمثابرة .. وعندما يغفل عن نفسه فإنَّه تمضي عليه السنون، فيبلغ من العمر الأربعين والخمسين، وإيمانه لم يزد على ما كان عليه في زمن العشرين! هذا الإنسان قد هضم نفسه، هذا الإنسان قد ظلم نفسه، هذا الإنسان قد أجحف في حقِّ نفسه -كما أفاد أهل البيت (ع): "من استوى يوماه فهو مغبون"(3)-، فما بال من تساوت سنونه؟! العشر الأُولى كالعشر الثانية، والعقد الثالث كالعقد الرابع لم يزد في إيمانه شيء، ولم يتضاعف إيمانه -هذا إذا لم يتناقص؛ نتيجة الخطايا، والذنوب، والغفلة، والاشتغال بالدنيا-.

الهدف هو أعلى درجات الإيمان

الإمام السجاد (ع) يستحثُّ المؤمنين على أن يلتفتوا إلى أنَّ الإيمان ليس على درجة واحدة، وأنَّ على المؤمن أن يسعى جهده من أجل أن يبلغ درجات الإيمان العالية. قد لا يكون الإنسان قادرا على بلوغ أقصى مراتب الإيمان، بل قد لا يكون للإيمان مرتبة نهائية، فكلُّ مرتبة عالية فإنَّ فوقها مرتبة أعلى منها، يقول الإمام علي ابن أبي طالب (ع): "ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورعٍ واجتهاد، وعفَّةٍ وسداد"(4).

محاور الفقرة الأولى:

هنا نود أن نتحدث عن محورين أساسيين لفهم هذه الفقرة من الدعاء،

الأول: هو معنى الإيمان، وعلامات المؤمن

والثاني: بيان معنى الإيمان الكامل، فالإمام (ع) أفاد بأن ثمة إيماناً يُوصف بالأكمل فما هو هذا الإيمان الذي يصحُّ وصفه بالأكمل وما هي الصفات والأفعال التي إذا ما تمثَّلها أحد صحَّ وصف إيمانه بأكمل الإيمان؟ هذا ما سوف نتحدث عنه في المحور الثاني.

المحور الأول: معنى الإيمان، وعلامات المؤمن

أولاً: معنى الإيمان:

الإيمان -بمرتبته الدانية- يعني الإقرار بأصول العقيدة، والمراد من الإقرار هو الملازم للإذعان القلبي واليقين بصوابية وحقانية هذه الأصول والتي هي التوحيد لله تعالى والرسالة والمعاد والولاية.

فلا يصحُّ وصف أحدٍ بالإيمان إلَّا أن يكون مُقراًّ بالله ووحدانيته، ومُقراًّ بمحمد ورسالته، ومقراً بالمعاد ومُقراًّ بعليٍّ وولايته، ومُقراًّ بأهل بيته عليهم أفضل الصلاة والسلام. هذا هو أدنى مراتب الإيمان.

وهناك أمر آخرٌ إذا تمثَّله الإنسان كان في أدنى مراتب الإيمان، وهو الإلتزام بالطاعات: بالواجبات، بالصلاة والصيام، والزكاة والحج، وسائر الفرائض الإلهية. فإذا ما كان الإنسان واجداً لليقين بأصول العقيدة وممتثلاً لأصول الفرائض الإلهية فهو مؤمن.

ولكنه في المرتبة الأولى من الإيمان وثمَّة مراتب أخرى هي التي تُصحِّح وصف المؤمن بأنه قد بلغ أكمل الإيمان.

ثانياً: علامات المؤمن:

طبعا، الإقرار بالشهادتين، وبالولاية، له علامات. بتعبير آخر: الإيمان -في أدنى مراتبه- له علامات. وهذا ما نودُّ أن نشير إليه ونتحدث عنه: ما هي علامات المؤمن؟

- العلامة المائزة

أول علامة للمؤمن: هي الولاية لعلي بن أبي طالب (ع). فليس من أحدٍ يدَّعي الإيمان وهو ينكر الولاية -ولو صام وصلى-، فلو صام دهره، وقام ليله، وأنفق كلَّ ما عنده، وقضى حوائج المؤمنين، وسعى في الناس بالخير والصلاح، ثم كان قلبه خالياً من عشق عليٍّ (ع)، ومن الولاية لعليٍّ، ومن الإيمان بأحقِّية عليّ، فلا حظَّ له من الإيمان -هكذا أكَّد أهل البيت (ع)، وهكذا أكَّد رسول الله (ص)-، فلا يذوق أحدٌ حلاوة الإيمان وليس قد ذاق حُبَّ عليّ. فأول علامة للمؤمن هو حبُّ عليّ، والولاية لعلي عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

يقول الإمام علي ابن أبي طالب (ع): "والله، لو صببتُ الدنيا على المنافق صباًّ ما أحبَّني"، المنافق محروم، "ولو ضربت بسيفي هذا خيشوم المؤمن لأحبَّني"، يعني لو ضربته على وجهه بسيفي لبقي متمسِّكا بحبِّي، وعاشقا ومواليا لي، "ولو ضربت بسيفي هذا خيشوم المؤمن لأحبَّني؛ وذلك لأني سمعت رسول الله (ص) يقول: يا عليّ لا يُحبُّك إلَّا مؤمن، ولا يبغضك إلَّا منافق"(5).

ويقول الرسول (ص): "حب عليٍّ إيمان وبغضه نفاق"(6)

النفاق والإيمان طرفا نقيض، والفيصل بينهما هو حبُّ عليّ. ألم تسمع أنَّ علياًّ هو قسيم النار والجنة -كما ورد في الرواية-؟ ما معنى أنه قسيم النار والجنة؟ أحد معاني هذه الرواية الشريفة أنه بعليٍّ يمتاز أهل النار عن أهل الجنة، فمن أحبَّه كان من أهل الجنة، وكان من أهل الإيمان والرضوان .. ومن خلا قلبُه من حُبَّه فهو ليس من أهل الإيمان. يقول رسول الله (ص): "عنوان صحيفة المؤمن حبُّ علي بن أبي طالب"(7). وورد عن ابن عباس في قوله تعالى: "﴿سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾(8) قال: حب علي بن أبي طالب في قلب كل مؤمن"(9)

- العلامات الأخرى

هناك صفة أخرى وعلامة أخرى للمؤمن، ما هي يا رسول الله؟، قال (ص): "من ساءته سيِّئته، وسرَّته حسنته فهو مؤمن"(10)، المؤمن قد يرتكب الخطايا، وقد يجترح ذنباً إلا أنه سرعان ما يندم ويثوب إلى ربِّه و"خير الخطَّائين التوابون"(11).

فإذا كان أحدٌ من عباد الله يستاء إذا ارتكب السيئة، ويتأذَّى وتشتمئزُّ نفسه، ويستشعر النَّدم والأذى والأسى والحزن والألم إذا ارتكب سيئة .. وفي المقابل إذا ما أطاع، أو وُفِّق لفعل الخير ابتهج وانتشى وفرح، فهو مؤمن. وعلى خلاف ذلك يكون غير المؤمن، فإنَّ غير المؤمن يرتكب السيئة ويفتخر بها، ويُذنب الذنب ثم ينوي أن يعود إليه، ولا يندم على خطيئة، بل يسعى لغيرها وأكبر منها، هذا هو حال غير المؤمن .. وإن أطاع كانت طاعته بتثاقل، ولا ينوي بأن يأتي بطاعةٍ غيرها، فإذا تصدَّق شعر بأنه قد خسر، وقد نقص من ماله. وإذا قضى حاجةً لمؤمنٍ شعر بأنه قد بذل جهداً دون جدوى، ودون مردود. لا يُوقن بالخلف، وأنَّ الله قد عوَّضه، بل يشعر دائما بالبخس كلَّما فعل أمراً لا يعود عليه بالنفع .. هذا هو غير المؤمن. وأما المؤمن فإذا ما فعل طاعة ابتهج وفرح وسُرَّ، وسأل الله أن يُوفِّقه لغيرها، وإذا فعل معصية ندم واستاء واشمئزَّت نفسه، وقصد أن لا يعود لمثلها.

هناك علامات أخرى لا نريد أن نفيض الحديث فيها؛ لأننا في صدد شرح الفقرة التي وردت في دعاء مكارم الأخلاق، ولكن لا بأس أن نقرأ هذه الرواية الشريفة المبيِّنة لعلامات المؤمن:

يقول النبي الكريم (ص): "ألا من كان فيه ستُّ خصال فهو منهم" يعني فهو من المؤمنين. ما هي هذه الخصال يا رسول الله؟، قال من صدق حديثه، وأنجز وعده، وأدى أمانته، وبرَّ والديه، ووصل رحمه، واستغفر من ذنبه، فهو مؤمن"(12). هذه خصالٌ إذا تحلَّى بها عبدٌ من عباد الله، كان في ركب المؤمنين، وكان عليه سيماء المؤمنين: صدقُ الحديث، والوفاء بالوعد يصدق في حديثه، وإن كان في الصدق أذيَّة له، ويؤدِّي أمانته -مهما كان في أدائها من مشقة -، ويبرُّ والديه -وإن أساءا إليه، وإن جفاه أحدهما، أو كلاهما-، ويصل أرحامه -وإن قطعوه-، ويستغفر من ذنوبه فلا يغفل عن نفسه، وعما يفعل فإذا أذنب استغفر- .. هذا هو المؤمن.

المحور الثاني: كيف يبُلغ المؤمن إلى أكمل الإيمان؟

المحور الثاني حول ما هو المراد من "أكمل الإيمان" وما هي الصفات التي يبلغ بها المؤمن أكمل الإيمان؟

الروايات تجيب: الرواية الأولى

عن أبي جعفر (ع)، عن أبي عبد الله (ع)، قال: قال رسول الله (ص): "من أسبغ وضوءه، وأحسن صلاته، وأدى زكاة ماله، وكفَّ غضبه، وسجن لسانه، واستغفر لذنبه، وأدى النصيحة لأهل بيت نبيه فقد استكمل حقائق الإيمان، وأبواب الجنة مفتحة له"(13).

توضيح الرواية:

فقرات قصيرة إلَّا أنَّ تمثُّلها شاق وصعب .. يحتاج إلى جهاد، ويحتاج إلى عناء، ويحتاج إلى أن يروِّض الإنسان نفسه على تمثُّلها.. فيُسبغ الوضوء ولا يتجاوزه دون اهتمام، ويُحسن صلاته ولا يقوم إليها وهو متثاقل، بل يقوم إليها برغبةٍ وشوق، ويؤدِّيها أحسن الأداء، فيؤدِّي ركوعها، وسجودها، وقيامها، وقراءتها، ويعرف أحكامها ويتمثَّلها، ويتأمَّل مضامينها ويخشع عند أدائها .. عندئذ يكون قد وضع قدمه على أُولى الدرجات الموصلة لمرتبة الكمال -كمال الإيمان-.

ثم قال (ص): "وأدَّى زكاة ماله"، يؤدي الحقوق التي عليه، ويؤديها بطيبٍ من نفسه، ولا يستشعر الامتنان، ولا يستشعر التثاقل. هناك الكثير من المؤمنين لا يشقُّ عليه أن يصلي كثيراً، ولا يشقُّ عليه أن يصوم كثيراً، ولا يشقُّ عليه أن يزور بيت الله -عز اسمه وتقدس-، أو أن يتلو القرآن، ولكن يشقُّ عليه أن يُخرج من جيبه درهما! العبادات المالية هي من أشقِّ العبادات على النفس، وامتثالها يُعبِّر عن مرتبةٍ عالية من مراتب الإيمان. فلا يكون العبد مؤمناً حق الإيمان حتى يكون شوقه لأداء الزكاة كشوقه لأداء الصلاة .. وإذا استشعر ثقل هذه العبادة فليبحث عن ذلك في نفسه؛ فإنَّ في إيمانه رقَّة، وفي إيمانه وهنٌ وضعف.

ثم قال (ص): "وخزن لسانه"، وهذا من أشق الطاعات أيضاً، أن يغضب فلا يعبِّر عن غضبه بمعصية، فلا يغتاب إذا ما استوحش من أخيه، ولا يظلم أخاه إذا استفزَّه، أو ابتزَّه وظلمه، ولا يقول ما يؤدِّي إلى إشاعة الفتنة، أو الفاحشة، في الذين آمنوا .. ولا يبهت مؤمناً، ولا يُشهِّر به .. ويحاسب نفسه على كلِّ ما يتفوه به ويقوله.

صحيح أن ذلك شاق جداً، ويحتاج إلى ترويضٍ قد يكلِّف الإنسان عمره، فأن يخزن الإنسان لسانه، والأصل عنده أن لا يتكلَّم، وإذا تكلَّم نطق بما فيه رضاً لربِّه، ويكفُّ غضبه .. في أدقِّ الظروف فهذا أمرٌ يصعب على الإنسان امتثاله، ولكن إذا ما امتثله يكون قد بلغ مرتبةً عالية من مراتب الإيمان.

إذا استفزَّك أحدٌ، أو ابتزَّك، أو ظلمك، أو اغتابك، أو أهانك، أو سخر منك، أو أساء إليك، أو بخسك حقَّك، فشعرت منه بالأذى، فماذا أنت صانع؟ إن كظمت غيظك، واتَّسع لظلمه صدرُك، وطالبتَ إن شئت بحقِّك بأرفق الطلب، فعندئذٍ تكون قد توفرت على مرتبةٍ هي من أعلى مراتب الإيمان.

الرواية الثانية:

هناك رواية أخرى عن أمير المؤمنين (ع) يقول: سألتُ رسول الله (ص) عن صفة المؤمن، فنكَّس رسول الله (ص) رأسه، ثم رفعه وقال (ص): "في المؤمنين عشرون خصلة، فإن لم تكن فيه لم يكمُل إيمانه"(14) يعني هو مؤمن، إلا أنَّه لم يبلُغ أكمل الإيمان. وأخذ رسول الله يعددها:

فقال (ص): "إن المؤمنين هم الحاضرون للصلاة"

هذه هي أول صفة للمؤمن. والمراد من قوله (ص): "هم الحاضرون للصلاة" هي أنهم في أتم الاستعداد لأدائها، فيتحرّون الوقت والمكان الذي تُقام فيه الصلاة، فيحضرون بشغفٍ، ووَلَهٍ .. هؤلاء في خطى الإيمان.

"المسارعون إلى الزكاة"

كل مؤمن فهو يؤدي الزكاة، أما الذي بلغ أكمل الإيمان فليست صفته دفع الزكاة، وإنما هي المسارعة إلى دفع الزكاة .. فهؤلاء يسارعون إلى الزكاة، فقد تراهم ينتظرون يوم الحصاد؛ لا لجني الحصاد، وجني الأموال .. بل حتى يُخرجوا الزكاة فهم يشتاقون إلى هذه العبادة كما يشتاقون إلى امتثال سائر العبادات .. هذا هو معنى "المسارعون إلى الزكاة". أما غيرهم فقد يُخرجون الزكاة، ويُؤدَّون الخمس، ولكن بتثاقل، هؤلاء مؤمنون أيضاً، إلَّا أنهم لم يبلغوا أكمل الإيمان.

"والحاجُّون لبيت الله"

والمقصود من الحاجِّين لبيت الله عزوجل هم المدمنون على حج بيت الله تعالى .. هؤلاء هم الذين ضُمنت لهم الجنة، وحُرِّمت أجسادهم على النار. إدمان الحج يعبِّر عن العشق لهذه الشعيرة الإلهية ويعبِّر عن العشق لبيت الله الحرام ذلك لأن الله قدَّس هذا المكان، فلذلك يستشعر هؤلاء التقديس له، ولأن الله قد وصف المؤمنين بأنَّ أفئدتهم تهوى هذا البيت، لذلك فإنَّ قلوبهم متعلقة بهذا البيت المعظم فهم يبذلون كل غالٍ ونفيس في طريق الوصول إليه والطواف حوله. هؤلاء هم الحاجُّون بيت الله.

"والصائمون في شهر رمضان، والمطعمون المسكين"

هذه كلها صفات تعبِّر عن حالة الاستمرار والمداومة. فليس مَن أطعم مسكيناً يكون قد بلغ أكمل الإيمان، وإنما هو من يُدمن، ومن يُكثر، ومن يداوم على إطعام المسكين، ويستشعر ألم المسكين، ويستشعر الرحمة على المسكين، ويُشفق عليه، ويحنّ على المساكين. فإذا رأى مسكيناً، تألَّم قلبه، ولا يدري أيَّ شيء يصنع معه لرفع الفاقةِ عنه، فيبذل له ما عنده. هذا الذي قد بلغ أكمل الإيمان.

"والماسحون رأس اليتيم"

وهذه كناية عن الرفق باليتيم. في مقابل من يبخسون اليتيم حقَّه، ويظلمونه، ويأكلون أمواله، ولا يرعونه .. أما المؤمنون فيعطفون على اليتيم، ويشفقون على اليتيم.

"المطهِّرون أظفارهم -وفي رواية أطمارهم-

ومعنى ذلك أنَّ المؤمن نظيف، كما أن قلبه نظيف، وجسده وثيابه نظيفة. في مقابل من لا يهتم بالطهارة والنجاسة، ولا يبالي أن تُصاب ثيابه بالنجاسة، أو تكون أظفاره متسخة.

وفي رواية: "المطهرون أطمارهم"

الإطمار: هي الثياب البالية. فهو لا يلبس أفخر الثياب، وفي ذات الوقت هي مطهرة.

ما معنى طهارة الثياب؟

هناك احتمالات عديدة المعنى هذه الفقرة، منها: أنَّهم الذين يحرصون على أن لا يلبسوا إلَّا ثيابا قد اشتُريت بأموال تمَّ كسبها من الحلال، فالثياب الطاهرة هي الثياب التي كان ثمنها من الحلال .. فقد تجد فقيراً بائساً عليه ثياب بالية، أو ليست فاخرة، ولكنها طاهرة؛ لأنها قد اكتُسبت بالحلال. وهناك من يلبس أفخر الثياب، فتكون هي عند الله من أكثر الثياب نجاسة وقذارة؛ لأنها قد جُنِيت من الحرام. فالمؤمن هو مَن يحرص على أن تكون ثيابه، وأن يكون فراشه، وأن يكون مسكنه، ومطعمه، ومشربه، ومسعاه، ومركبه، من الحلال .. أما حين لا يُبالي أيَّ شيءٍ يلبس، وأيَّ شيءٍ يأكل ويشرب، من حلال أو حرام، أو لا يبالي أن يقتحم الشُّبهات، فهو لم يبلغ أكمل الإيمان.

"المتَّزرون على أوساطهم"

هذه كناية عن أنَّ المؤمن ستور، حييّ، عفيف، يلبس الثياب التي تستر جسده. بعض الناس يقولون يكفي أن يلبس الإنسان ما يستر عورته .. هذا مؤمن، ولكنه لم يبلغ أكمل الإيمان، أن تخرج إلى الطريق وأطرافك بارزة، فهذا مما لا ينبغي للمؤمنين، فعله المؤمن لا يكون هذا شأنه وهذا حاله، المؤمن وقور، المؤمن عليه سكينة وهيبة، ثيابه تُعبِّر عن سكون نفسه، أما أن يخرج من بيته بثيابٍ لا تستر جسده، فذلك ليس ممن بلغ أكمل الإيمان.

"الذين إذا حدَّثوا لم يكذبوا"

لذلك تطمئن إلى حديثه، فإذا قال شيئاً فهو الواقع، لا يكذب، هذا شأنه، وهذا هو ديدنه في كل الحالات، وفي كل الأوقات، وفي كل الظروف لا يكذب .. وهذا من أشق ما يمكن الإلتزام به.

البعض يتوهم أن الكذب في بعض المواقع ضرورة حتى لا يقع في حرجٍ بينه وبين أخيه فيخرج من أزمةٍ بينه وبين أخيه، ويقع في موبقة بينه وبين الله! إنَّ الكذب أفجر الفجور، وهو باب الشرِّ ومفتاحه، وإذا كذب المرءُ وكذب كُتِب عند الله كاذباً، ثم كُتب عند الله فاجراً، والفجور في النار، ولا يدخل الجنة فاجر.

"وإذا وعدوا لم يخلفوا"

حتى لو كان في الوفاء بالوعد مشقَّة وصعوبة فإنه يفي بوعده، فإذا قال لك إني سأفعل، فإنه يفعل. هذا هو المؤمن.

"وإذا ائتمنوا لم يُخلفوا"

نتوهم أن الأمانة التي ينبغي أن لا نخونها هي أنه إذا أودع عندنا أحد وديعة فإننا نلتزم بردها إليه. هذه -في الحقيقة واحدة من مصاديق ردِّ الأمانة- ويمكن أن تكون من أضعف مراتب أداء الأمانة-، فأداء الأمانة أوسع من ذلك، فعندما يأتمنك أحد على سرٍّ وتُفشي هذا السرّ فأنت ممن خان الأمانة، وعندما تجد عيباً عند أخيك مستوراً، ثم تكشفه وتُشهِّر به، فأنت ممن خان الأمانة، وعندما تنظر إلى مؤمنة بريبة فذلك من خيانة الأمانة لأنك قد خنتَ عرض أخيك المؤمن وعندما لا تلتزم حدود الله التي ائتمنك إياها، فأنت ممن خان الأمانة، يقول تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ﴾(15) فالفرائض الإلهية أمانات، وحدود الله كلها أمانات الله. وأيُّ شيء أقبح من أن نخون الله -عز اسمه وتقدس-؟!

يقول الإمام الصادق (ع): "لا يغرنكم الرجل بكثرة صلاته فربما، كان شيء قد اعتاده. امتحنوه في صدق الحديث، وأداء الأمانة"(16)، فإذا وجدتموه صادق الحديث، ولا يخون الأمانات، فهذا ممن تُقبل شهادته.

"رهبانٌ بالليل، أُسدٌ بالنهار"

طبعاً، الإسلام ليس فيه رهبانية، فأن تلبس الصوف، وتعتزل الدنيا، فذلك ليس من شأن المؤمن. ولكن المؤمن إذا جنَّه الليل -بعد أن انقطعت الحياة، فليس ثمَّة من اجتماع مع أحد- عندئذ يصبح راهباً.

كان عليٌّ (ع) إذا جنَّه الليل، فإنه يتململ تملمُل السليم. ما معنى تململ السليم؟، يعني الملسوع بالحية. انظروا، إذا لسعت حيّة إنسانا، كيف يرجف؟ هكذا كان عليٌّ إذا جنَّه الليل، يتململ تملمُل السليم، ويئن أنين السقيم، ويقبض على شيبته، ودموعه قد تبلُّ كريمته، وهو يقول: "آهٍ آه؛ من قلة الزاد، وبُعد السفر، ووحشة الطريق. آهٍ آه، من نار اسمها لظى، نزَّاعة للشوى، تدعو من أدبر وتولَّى"(17).

يقول أبو الدرداء: رأيت علياً في بعض نخلات المدينة، وحده في وحشة الليل، يقف عند كل غصن، وكل نخلة؛ يصلي ركعتين .. ثم جلس يتلو القرآن، ويناجي الله عز وجل، وهو يضجُّ ضجيج الثكلى، ثم أُغشي عليه .. فجئتُ إليه، حرَّكته فلم يتحرك، قلت: رحل الرجل إلى ربه! رجعت مسرعاً إلى بيت فاطمة (ع)، طرقتُ الباب، قلتُ لها: يا فاطمة، رحل عليٌّ إلى ربِّه. قالت: وكيف ذاك؟، قال: ووصفت لها ما كان من فعل علي .. قالت: إنها الغشية التي تنتابه في كل ليلة." فكان لعليٍّ (ع) في كلِّ ليلة غشوات؛ هذا هو الراهب.

فعليّ (ع) كان راهباً في الليل، وأمَّا في الحرب فهو أسدٌ مغوار، وهو الضحَّاك إذا اشتدت الحرب، كما قال الشاعر:

هو البكَّاء في المحراب ليلاً هو الضحَّاك إنْ وقع الحراب

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- الصحيفة السجادية الكاملة -الإمام زين العابدين (ع)- ص 99.

2- سورة الإنشقاق / 6.

3- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 16 ص 94.

4- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج 3 ص 70.

5- الأمالي -الشيخ الطوسي- ص 206.

6- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 37 ص 93.

7- مناقب آل أبي طالب -ابن شهر آشوب- ج 2 ص 3.

8- سورة مريم / 96.

9- شواهد التنزيل -الحاكم الحسكاني- ج 1 ص 473.

10- الأمالي -الشيخ الصدوق- ص 267.

11- سبل السلام -محمد بن اسماعيل الكحلاني- ج 4 ص 180.

12- "ألا من كان فيه ست خصال فإنه منهم من صدق حديثه وأنجز موعوده وأدى أمانته وبر والديه ووصل رحمه واستغفر من ذنبه فهو مؤمن". روضة الواعظين -الفتال النيسابوري- ص 505.

13- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 1 ص 487.

14- نص الرواية: عن الأصبغ بن نباتة، قال: "سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، يقول: سألت رسول الله (ص) عن صفة المؤمن، فنكس (ص) رأسه ثم رفعه، فقال: في المؤمنين عشرون خصلة، فمن لم تكن فيه لم يكمل إيمانه . يا علي، إن المؤمنين هم الحاضرون للصلاة، والمسارعون إلى الزكاة، والحاجون لبيت الله الحرام، والصائمون في شهر رمضان، والمطعمون المسكين، والماسحون رأس اليتيم، المطهرون أظفارهم، المتزرون على أوساطهم، الذين إن حدثوا لم يكذبوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإن تكلموا صدقوا، رهبان بالليل، أسد بالنهار، صائمون بالنهار، قائمون بالليل، لا يؤذون جارا، ولا يتأذى بهم جار، الذين مشيهم على الأرض هونا وخطاهم إلى بيوت الأرامل، وعلى أثر الجنائز، جعلنا الله وإياكم من المتقين". الأمالي -الشيخ الصدوق- ص 641.

15- سورة الأحزاب / 72.

16- النص: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "لا تغتروا بكثرة صلاتهم ولا بصيامهم فإن الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة". وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 19 ص 67.

17- النص: "آه من قلة الزاد، وطول الطريق، وبعد السفر، وعظيم المورد". نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج 4 ص 17.