عدد قتلى المعسكر الأموي

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

السؤال:

تتفاوت الأرقام والروايات في عدد القتلى على يد الإمام الحسين (ع) وأبي الفضل والأكبر، ألا يدعو الاختلاف والمبالغات في مصداقية الخطيب والوقائع على حدٍّ سواء؟

 

الجواب:

لا سبيل إلى التثبُّت من عدد القتلى في المُعسكر الأموي، ولا تخلو بعض الأرقام من مبالغةٍ بيِّنة، وقد ذكر بعضُ المؤرِّخين أنَّ عدد القتلى في المُعسكر الأموي لا يتجاوز عدد شهداء الطف أو أنَّه قد تجاوزه بمقدارٍ يسير إلا أنَّ الظاهر من ملاحظة مجموع الأخبار المعتبرة في الجملة أنَّ العدد أكبر من ذلك بكثير لكنَّه لو ثبت ذلك -جدلاً- فإنَّه لا يُقلِّل من شأن شهداء كربلاء، فإنَّ الشجاعة المنقطعةَ النظير التي تجلَّت في مواقفهم يكمن سرُّها في ثباتهم أمام العدد الهائل الذي عبأه النظام الأموي لحربهم، فمثل هذا العدد المُجهَّز بمختلف العتاد المُتاح آنذاك من شأنه أنْ يُحدِث إنهياراً نفسيَّاً في معسكر الحسين (ع) يترتَّب عنه العجز عن التماسك والثبات فضلاً عن المواجهة إلا انَّ ما وقع كان على خلاف ذلك، فقد أبدى معسكر الحسين (ع) إستبسالاً وتنمُّراً في ذات الله تعالى لم يكن له نظيرٌ في تاريخ الجهاد، إذ لم يتَّفق أنْ يُقارعَ عددٌ يسير لا يتجاوز المائة جيشاً جرَّاراً منظَّماً ومجهَّزاً بمختلف صنوف الأسلحة المتاحة آنذاك، وقد قارعوه بعد حصارٍ خانقٍ وحيلولةٍ دون الماء إمتدَّت لثلاثة أيام في هجير الصحراء، فرغم ذلك لم يستسلم منهم أحد وما حدَّث أحدٌ منهم نفسَه بفرار، وقد كانوا يُبادرون للمبارزة والمطاردة دون تلكأٍ ولا نكول حتى أحدثوا في المعسكر الأموي الكثير من الجراحات وقتلوا منهم ما يُوازي عددهم بل يزيدُ على الضعف في أقلِّ التقادير، وكلُّ ذلك يعبِّر عما إنطوت عليه قلوبهم من شجاعةٍ ينوؤ دون تصلُّبِها زبرُ الحديد.

 

وقد تميَّز بينهم سيدُ الشهداء، وذلك لبقائه بعد مقتل جميع أنصاره وحده يحوطه الآلاف من فرسان المعسكر الأموي من كلِّ ناحية، فما أدهش لبَّه تكالبُهم عليه وما فتَّ من عضده تحلُّقهم حوله، وما ظهر على محيَّاه وهنٌ، وما إنتابه هاجسٌ من خوف بل ظلَّ مستبسلاً محتفظاً برباطة جأشه وثباته على موقفه يُقارعهم روحي فداه بسيفه غيرُ عابئٍ بكثرتهم وتكاثرهم عليه، فما يصمد له مبارز ولا يثبت فارسٌ في مركزه حين يجد انَّ الحسين قد قصده، فكان لعظيم هيبته وشدة بأسه يتحاماه الفرسان فإنْ أدرك منهم أحداً بعَجَهُ بسيفه أو تركه يتعثَّرُ بمَن خلفه وقد إنخلع قلبُه قبل أنْ تنخلع مفاصله من وطأ حوافر الخيول وأحذيةِ الرجال، وقد وصف بعض مَن عايَنَ من الأعداء هذا المشهد الرهيب بقوله: "فوالله ما رأيتُ مكثوراً قط قد قُتل وُلدُه وأهلُ بيته وأصحابه أربطَ جأشاً ولا أمضى جناناً ولا أجرأ مقدماً من الحسين، والله ما رأيتُ قبله ولا بعده مثله إنْ كانت الرجَّالةُ لتشدُّ عليه فيشدُّ عليها بسيفه، فتنكشف عن يمينه وشماله إنكشاف المِعزى إذا شدَّ فيها الذئب"(1).

 

فما وجدوا وسيلة لقتله إلا رشقه بوابل سهامهم ورضخه بالحجارة حتى أثخنوا جسده الشريف بالجراح، فحين أعياه نزف الدم وعميق الجراحات صار يكثر من قول لاحول ولا قوة إلا بالله، وأخذ يخضب شيبته بما يفيض من دمه وهو يقول: "هكذا ألقى الله مخضباً بدمي" فما أعطاهم الدنية من دينه، وما نال أعداؤه من عزته ورسوخ إرادته قلامة ظفر، وإن شموخه الذي ظلَّ متمسكاً به لتنوؤ دون مطاولته الجبال الراسيات، فهل لقلب إنطوى عليه صدر الحسين من نظير؟!

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص111، شرح الأخبار -القاضي النعمان المغربي- ج3 / ص163 مع اختلافٍ يسير، تجارب الأمم -ابن مسكويه الرازي- ج2 / ص80، البداية والنهاية -ابن كثير- ج8 / ص204.