العقل الذي تُعرض عليه الروايات لتمييزها


المسألة:

ما هو المقصود من العقل الذي تُعرض عليه الروايات لتمييز الحجَّة منها من غير الحجَّة؟ ثم إن العقل يختلف عند الناس فبعضهم يقبل عقله مضمون رواية وبعضهم لا يقبل عقله مضمونها، فكيف يتم التمييز بشيء هو محلُّ خلافٍ بين الناس؟!

الجواب:

المقصود من العقل -الذي تُعرض عليه الروايات لتمييز الحجَّة منها من غير الحجَّة- هو المدرَكات العقليَّة البديهيَّة التي لا يختلف العقلاء في صحَّتها وصوابيَّتها مثل استحالة اجتماع النقيضين واستحالة ارتفاعهما، ومثل قبح الظلم، ومثل القضايا المدرَكة بالوجدان أو المُدرَكات الحسيَّة كحرارة الشمس وبرودة الثلج، فلو جاءت رواية مناقِضة صريحاً لما يُدرِكه العقل الفطري البديهى فإنَّ ظاهرها يكون ساقطاً عن الإعتبار والحجيَّة، فإما أنْ تُطرح الرواية من رأس أو تُؤول، فلو وردت رواية وكان ظاهرها جواز قتلالطفل أو سلب أمواله أو معاقبة المجنونفإنَّ مثل هذه الرواية لا يُمكن قبولها ولابدَّ من البناء إمَّا على انَّها مكذوبة أو انَّ ظاهرها غيرُ مراد، وذلك لمنافاة ظاهرها مع ما يُدركه العقل الفطري من قبح تشريع الظلم وتسويغه.

وهكذا لو وردت روايتان صحيحتان من حيث السند وكانت احداهما صريحة -مثلاً- في صحة بيع السفيه والأخرىصريحة في فساد بيع السفيه، فإنَّ مثل هاتين الروايتين لا يُمكن الحكم بحجيَّتهما معاً، لأنَّ مؤدَّاهما هو صحة بيع السفيه وعدم صحته في ذات الوقتوهو من اجتماع النقيضين ويستحيل جعل الحجيَّة للمتناقضين، ولذلك يقطع العقل إمَّا بكذب احدى الروايتين وعدم صدورها أو انَّها لم تصدر لبيان الحكم الواقعي، فإحداهما غير المعيَّن ساقطٌ عن الحجيَّةقطعاً بحكم العقل، وأما تحديد أيّهما الساقط عن الحجيَّة، فهو ليس من شئونات قاعدة استحالة اجتماع النقيضين، فهذه القاعدة العقليَّةتقف عند حدود الإدراك لاستحالة انْ يكون الشارع قد جعل الحجيَّة لكلا الروايتين، وأما أيُّ الروايتين بنحو التعيين هي الساقطة عن الاعتبار والحجيَّة فذلك خارج عن حدود ما تقتضيه هذه القاعدة العقلية، فالعقل هنا حكم بعد عرض الروايتين عليهبعدم ثبوت الحجيَّة لاحدى الروايتين لا على نحو التعيين، ومنشأ ذلك هو ادراكه بضرورة وبداهة استحالة اجتماع النقيضين واستحالة جعل الشارع الحجيَّة للنقيضين.

وكذلك لو وردت رواية وكان مفادها انَّ الإنسان العاقل الملتفت مجبورٌ في كلِّ ما يفعل فكما انَّ جريان الدم في عروقه لم يصدر باختياره فكذلك ما يكتبهمثلاً أو يقوله أو يسعى إليه وهوم ملتفت.

لو وردت رواية بهذا المفاد فإنَّها تكون ساقطة عن الاعتبار قطعاً، وذلك لمنافاتها مع ما يُدركه العقل الفطري، فإنَّ كلَّ انسان يُدرك بالوجدان انَّأفعاله الصادرة عنه في ظرف الإلتفات اختيارية وليس مجبوراً ولا مقسوراً عليها، فكلامه وتنقُّله وزواجه وما يكتبه وما يرتكبه من معاصي وما يفعله من طاعات كلُّها تصدر منه عن ارادةٍ واختيار، فهو يُدرك بالوجدان انَّ حركة الدم في عروقه مثلاًتختلف عن حركته إلى السوق، فالأولى ليست اخياريَّةً له بل هي من فعل غيره، وأما الثانية فهي اختياريةٌ لهأي انَّها صدرت عن محض ارادته، وكان له أن لا يفعلها ويختار فعلاً آخر.

وحيث اَّن مفاد الرواية -بحسب المثال- منافية لهذا المُدرك العقلي الوجدانيلذلك فهذا المفاد ساقطٌ عن الاعتبار، فإمَّا انْ تُطرح الرواية من رأس أو تُصرف عن ظهورها الأولي إلى معنىً يتناسب مع ما تقتضيه النصوص الأخرى ولا يتنافى مع ما يقتضيه المُدرك العقلي البديهي.

هذا هو المراد من العقل الذي تُعرض عليه الروايات لتمييز الحجَّة منها من غير الحجَّة من هذه الجهة، وليس المقصود من العقل القضايا الظنيَّة أو الإستحسانيَّة والذوقيَّة التي يختلف عليها العقلاء، فإنَّ القضايا الظنيَّة لا تصلح لتمييز ما هو الحجَّة من الروايات من غير الحجَّة.

ومن هنا يجب التثبُّت قبل ردِّ الرواية، فإنَّ الكثير مما يُسمَّى عند الناس عقلاَ هو في واقعه لا يعدو الاستحسان الناشىء عن مقدمات ظنيَّة أو ذوقيَّة تتباين فيها الأنظار تبعاً لاختلاف الرواسب الثقافية والتربوية والنفسية. فهذه ليست هي المقصود من العقل التي تُعرض عليه الروايات لتمييزها بل التعبير المناسب لها هو انَّها قناعات، ولذلك لا يصحُّ تحكيمها وردِّ الرواية لمجَّرد منافاة مضمونهالمثل هذه القناعات. والذي يصحُّ به ردَّ الرواية هو منافاتها لما يُدركه العقل الفطري الذي لا يختلف عليه العقلاء على اختلاف مشاربهم وأديانهم أو تكون الرواية منافية لقضية برهانية مقدماتها مُدركة بالعقل الفطري البديهي، وأما إذا لم تكن منافية لشيءٍ من ذلك فلا يصح ردها من جهة العقل، نعم قد تسقط الرواية عن الإعتبار أو يُحرَز عدم صدورهالمنشأٍ آخر غير العقل كما لو كانت منافيةلظاهر القرآن أو السنة القطعية أو كان رواتها من الوضَّاعين أو غير ذلك من المناشىء المذكورة في محلِّها والمُبرهَن عليها في مظانِّه.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور