أبغض الحلال إلى الله الطلاق


المسألة:

ما صحة ما يُروى عن النبيِّ (ص): "أبغضُ الحلال إلى الله الطلاق"؟ وإذا كان صحيحًا كيف يمكن الجمع بين كون الفعل مبغوضًا لله تعالى وبين الحكم بحلِّيته؟! لماذا لم يحكم الله بحرمة الطلاق إذا كان مبغوضًا له؟

الجواب:

الحديث المذكور ورد من طرق العامَّة عن عبد الله بن عمر ولم يرد من طرقنا بهذا اللسان، نعم ورد من طرقنا ما يقرب من معناه:

فمن ذلك ما رواه الكليني بسندٍ صحيح عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (ع) قَالَ: "مَا مِنْ شَيْءٍ مِمَّا أَحَلَّه الله عَزَّ وجَلَّ أَبْغَضَ إِلَيْه مِنَ الطَّلَاقِ وإِنَّ الله يُبْغِضُ الْمِطْلَاقَ الذَّوَّاقَ"(1).

ومن ذلك أيضًا ما رواه الكليني بسندٍ صحيح عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (ع) قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله (ص) تَزَوَّجُوا وزَوِّجُوا .. ومَا مِنْ شَيْءٍ أَبْغَضَ إلى الله عَزَّ وجَلَّ مِنْ بَيْتٍ يُخْرَبُ فِي الإِسْلَامِ بِالْفُرْقَةِ يَعْنِي الطَّلَاقَ ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (ع): إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ إِنَّمَا وَكَّدَ فِي الطَّلَاقِ وكَرَّرَ فِيه الْقَوْلَ مِنْ بُغْضِه الْفُرْقَةَ"(2).

ومن ذلك ما رواه الكليني بسندٍ صحيح عَنْ أَبِي خَدِيجَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (ع) قَالَ: "إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ يُحِبُّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيه الْعُرْسُ ويُبْغِضُ الْبَيْتَ الَّذِي فِيه الطَّلَاقُ ومَا مِنْ شَيْءٍ أَبْغَضَ إلى الله عَزَّ وجَلَّ مِنَ الطَّلَاقِ"(3).

هذه رواياتٌ ثلاث معتبرة وثمة أخريات وردت من طرق أهل البيت (ع) تؤكِّد على مبغوضيَّة الطلاق عند الله تعالى رغم إباحته له، ولا تنافي بين مبغوضيَّة الفعل وإباحته، فجميع الأفعال المحكومة بالكراهة شرعاً مبغوضةٌ رغم إباحتها. غايته أنَّ المكروهات متفاوتة في المبغوضيَّة، لذلك فإنَّ في المكروهات الشرعيَّة ما هو شديد الكراهة لشدة مبغوضيَّتها، ومنها ما ليس كذلك، والجامع المشترك بين الأفعال المحكومة بالكراهة هو أنَّها مستوحَشَةٌ وممقوتة لدى الشارع لكنَّ الاستيحاشَ منها ومقتَها لا يرقى للمستوى المقتضي للتحريم. فأدنى مراتب المبغوضيَّة المقتضية للتحريم هي أعلى من أشدِّ المكروهات مبغوضية.

وتوضيح ذلك: هو أنَّ الملاك الذي ينشأ عنه الحكم بحرمة الفعل أو الحكم بكراهته هو كون ذلك الفعل مبغوضًا لدى الشارع، وهذه المبغوضيّة للفعل لا تكون جزافية بل هي ناشئة عن اقتضاء الفعل للمفسدة، فإذا كان الفعل مقتضيًا للمفسدة فإنَّه يكون مبغوضا للشارع ولهذا يحكم بحرمته أو كراهته.

وأما لماذا يجعل الشارع الحرمة على بعض الأفعال والكراهة على أفعالٍ أخرى رغم افتراض أنَّ كلَّ تلك الأفعال مبغوضةٌ لدى الشارع ومقتضية للمفسدة؟

فجوابه: إنَّ تلك الأفعال رغم اشتراكها في المبغوضيَّة والاقتضاء للمفسدة إلا أنَّها متفاوتة في ذلك من جهة الشدَّة والضعف، فحينما يكون الفعل شديد المبغوضيَّة لاقتضائه مفسدةً شديدة فإنَّ الشارع يحكم بحرمة ذلك الفعل، وحينما لا تكون المبغوضيَّة للفعل شديدة نظرًا لعدم اقتضائه مفسدةً شديدة فإنَّ الشارع لا يحكم بحرمة ذلك الفعل وإنَّما يحكم بكراهته. وذلك لأنَّ أحكام الله تعالى تابعةٌ للمقدار الذي تقتضيه الملاكات الكامنة في الأفعال التي يُراد جعل الأحكام عليها.

ثم إنَّ هنا أمرًا لا بدَّ من التنويه عليه وهو أنَّ مبغوضيةَ بعض الأفعال قد تكون من الشدَّة بحيثُ لو خُلِّيتْ ونفسها لكانت مقتضية لجعل الحرمة عليها إلا أنَّ تلك المبغوضيَّة الناشئة عن المفسدة لمَّا كانت مُزاحمة بمصالح أهم يُخشى من فواتها لو جُعلت الحرمة على ذلك الفعل لذلك فإنَّ الشارع لا يجعل الحرمة على ذلك الفعل رغم شدَّة مبغوضيته وذلك رعايةً للمصالح الأهم التي ستفوت لو جُعلت الحرمة على الفعل.

وبيان ذلك: إنَّ بعض الأفعال تتزاحم فيها الملاكات فتكون من جهةٍ واجدة لبعض المفاسد وفي ذات الوقت تكون واجدةً لبعض المصالح، وفي بعض الفروض تكون المفاسد من الشدَّة بحيثُ تكون مقتضية في نفسها للتحريم لولا أنَّ هذه المفاسد مزاحَمة بمصالح يُخشى من فواتها لو تمَّ تحريم تلك الأفعال.

ففي كلِّ مورد تتزاحم فيه الملاكات والمصالح والمفاسد تتمُّ الموازنة بين تلك الملاكات، فإذا قدَّر الشارع أنَّ مفسدة هذا الفعل شديدة وهي أهمُّ ملاكاً من المصلحة المترتِّبة عليه فإنَّه يحكم بحرمته، والحكم بحرمته وإنْ كان سيُفضي إلى فوات تلك المصلحة إلا أنَّ الرعاية لدرء المفسدة لما كان أهمَّ ملاكاً فإنَّ ذلك اقتضى الإغفال لتلك المصلحة والقبول بفواتها بعد افتراض عدم الإمكانية للتحفُّظ عليها. وقد ينعكس الفرض فتكون مصلحة الفعل أهمَّ ملاكًا من مفسدته ففي مثل هذا الفرض يحكم الشارع بإباحة هذا الفعل رغم أنَّ إباحته ستُفضي إلى الوقوع في تلك المفسدة إلا أنَّه لما كانت تلك المصلحة من الأهمية بحيث لا يسع الشارع التفريط بها لذلك رجَّح الحكم بالإباحة رعايةً وتحفُّظًا على المصلحة حتى لا تفوت وإنْ كان سينشأ عن ذلك الوقوع في المفسدة التي لا تُضاهي المصلحة الحاصلة من الحكم بالإباحة لذلك الفعل.

ولعلَّ هذا الفرض هو الذي نشأ عنه الحكم بحلِّيَّة الطلاق، فهو وإنْ كان مبغوضًا لدى الشارع لما يترتَّب عليه من مفاسد إلا أنَّ تلك المفاسد مزاحَمةٌ بمصالحَ تفوق تلك المفاسد أهميةً بحيثُ لا يسع الشارع الإغفال لتلك المصالح، ولذلك أباح الطلاق رعايةً لتلك المصالح ولكنَّه أكَّد على مبغوضيّة هذا الفعل لغرض التحذير من التوظيف للحكم بإباحته فيما يتنافى مع الأخلاق الفاضلة، وحتى يستفرغ المؤمن وُسْعَه في البحث عن خيارٍ آخر قبل أن يلجأ إلى هذا الخيار.

ويمكن التنظير للحكم بحلِّيَّة الطلاق والحكم في ذات الوقت بكراهته بما حكم به الشارع من كراهة التداين دون إشهاد ولا توثيق، فالشارع وإنْ كان قد حكم بإباحة التداين دون إشهاد ولا توثيق ولكنَّه أكَّد على كراهته لأنَّ في ذلك مظنَّة الضياع للمال.

فهو قد أباح التداين دون توثيق لأنَّ تحريمه يُفوِّت مصالح كثيرة وكبيرة على عموم الناس خصوصًا لأصحاب التجارات الصغيرة ومن يتعامل معهم من سواد الناس لذلك كانت الرعاية لهذه المصالح الحيوية مقتضية للإباحة رغم أن الحكم بالإباحة سينشأ عنه الضياع لأموال بعض الناس إلا أن هذه المفسدة لا تُضاهي المصالح التي ستفوت لو حكم الشارع بالحرمة.

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- الكافي -الشيخ الكليني- ج 6 ص 54.

2- الكافي -الشيخ الكليني- ج 5 ص 328.

3- الكافي -الشيخ الكليني- ج 6 ص 54.