كيف يختلف حكام الشرع؟


المسألة:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

قال السيد الخوئي (قدس الله نفسه الزكية) في منهاج الصالحين -الجزء الثاني- في كتاب الوقف (مسألة 1172):

 

إذا قال: هذا وقف على سكنى أولادي فالظاهر أنه لا يجوز أن يؤجروها ويقتسموا الأجرة بل يتعين عليهم السكنى فيها فإن أمكن سكنى الجميع سكنوا جميعا وإن تشاحوا في تعيين المسكن فالمرجع نظر الولي فإن تعدد الأولياء واختلف نظرهم فالمرجع الحاكم الشرعي، وإذا اختلف حكام الشرع فالمرجع القرعة وإذا امتنع بعضهم عن السكنى حينئذ جاز للآخر الاستقلال فيها وليس عليه شيء لصاحبه، وإن تعذر سكنى الجميع اقتسموها بينهم يومًا فيومًا أو شهرًا فشهرًا أو سنةً فسنةً، وإن اختلفوا في ذلك وتشاحوا فالحكم كما سبق وليس لبعضهم ترك السكنى وعدم الرضا بالمهاياة والمطالبة بالأجرة حينئذ بالنسبة إلى حصته(1). قوله: (وإذا اختلف حكام الشرع فالمرجع القرعة)

 

السؤال: كيف يمكن أن يختلف حكام الشرع، إذ من الواضح أن حكم الحاكم الشرعي نافذ ولا يجوز نقضه، نعم يحتمل أن يكون المراد أن الولاية للحاكم على نحو النصيحة أو الرأي ولكن ذلك ليس ملزمًا لأي جهة من الجهات فإن الحاكم الشرعي إما أن يحكم فلا يجوز نقض حكمه حتى لمجتهد آخر فلا يمكن الاختلاف وإما أن لا يحكم فلا تكون له ولاية ولا إلزام.

 

أرجو الإجابة الوافية منكم ودمتم موفقين


الجواب:

قد يتَّفق اختلاف حكام الشرع في الحكم فيحكم أحدُهم بحكمٍ ويحكم الآخر بخلافه، وذلك بأنْ يرى الآخر أنَّ حكم الأول نشأ عن مقدمات خاطئة وحينئذٍ يكون حكمه بمثابة العدم، فلا يكون الحكم على خلاف حكمه من النقض لحكم الحاكم، لأنَّ حكم الحاكم الأول كان منتقِضًا في نفسه بنظر الحاكم الآخر.

 

وبيان ذلك:

إنَّه ليس لحكم الحاكم موضوعيَّة تامَّة بمعنى أنَّ حكم الحاكم لا يُغيِّر الواقع عمَّا هو عليه، ويدلُّ على ذلك مثل معتبرة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (ع) قال: قال رسول الله (ص): "إنَّما أقضي بينكم بالبينات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجَّته من بعض، فأيُّما رجلٍ قطعتُ له من مال أخيه شيئًا، فإنَّما قطعتُ له به قطعةً من النار"(2) فهذه المعتبرة تدلُّ على أنَّ حكم الحاكم ليس له موضوعيَّة تامَّة في فصل الخصومة فهو لا يقتضي انقلاب الواقع ليُطابق حكم الحاكم بل يبقى الواقع كما هو يُصيبه الحاكم ويُخطئه.

 

وكذلك هو مقتضى ما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله (ع) -في حديث طويل في رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دَيْنٍ أو ميراث- قال: "ينظران إلى من كان منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكما، فإنِّي قد جعلتُه عليكم حاكمًا، فإذا حكم بحكمنا فلم يُقبل منه فإنَّه استخفَّ بحكم الله، وعلينا رد، والرادُّ علينا الراد على الله، وهو على حدِّ الشرك بالله"(3).

 

فإنَّها وإنْ كانت قد نزَّلت الرد لحكم الحاكم بمنزلة الرد على أهل البيت (ع) وهو على حدِّ الرد الشرك بالله تعالى إلا أنَّ معنى ذلك لا يقتضي حرمة الرد على الحكم المنافي جزمًا لحكم الله تعالى فإنَّ من المقطوع به أنَّ الحكم المنزَّل منزلة حكم أهل البيت (ع) لا يشمل المنافي جزمًا لحكم الله تعالى، ويؤكد ذلك قوله (ع): "فإذا حكم بحكمنا" فإنَّ الحكم المنافي جزمًا لحكم الله تعالى منافٍ جزمًا لحكم أهل البيت (ع) إذ إنَّ حكمهم هو حكم الله تعالى.

 

وعليه فلو حكم الحاكم مثلاً بصحة طلاق زيدٍ لهند اعتمادًا على بعض المقدمات وتبيَّن للحاكم الآخر أنَّ تلك المقدمات كانت خاطئة جزمًا كبرى أو صغرى فإنَّ هذا الحكم يكون منتقِضًا في نفسه، فلو كان قد اعتمد في الحكم بصحَّة الطلاق على كبرى صحة إشهاد النساء في إيقاع الطلاق والحال أنَّ الواقع هو عدم صحة إشهاد النساء في الطلاق فإنَّ للحاكم الآخر الحكم بما تقتضيه المقدمات الصحيحة ولو أدَّى ذلك إلى الحكم بخلاف حكم الأول، فإنَّ حكم الأول بمنزلة العدم نظرًا لاعتماده على مقدمات خاطئة فلا يكون الحكم على خلاف حكمه من النقض لحكم الحاكم.

 

وكذلك لو حكم بصحة الطلاق اعتمادًا على ما يراه من عدالة شهود الطلاق ورأى الحاكم الآخر أنَّ الشهود فُسّاقٌ جزمًا فإنَّ له أنْ يحكم بخلاف حكم الحاكم الأول.

 

وبما ذكرناه يتَّضح أنَّه قد يتَّفق اختلاف حكام الشرع في الحكم، وذلك بأنْ يرى الثاني أنَّ حكم الأول منافٍ جزمًا للشرع فله في هذا الفرض القبول بالمرافعة والحكم على خلاف حكم الأول، وكذلك بالنسبة للخصم المحكوم عليه فإنَّ له أن يرفع أمره لحاكمٍ آخر إذا علم بأنَّ حكم الأول منافٍ للواقع جزمًا، ولا يكون رفعه لأمره في الفرض المذكور من الردِّ والنقض لحكم الحاكم. ولذلك صحَّح الفقهاء المقاصَّة في بعض صور هذا الفرض.

 

ومن هنا لو كان الرجوع للحاكم الشرعي في المسألة المذكورة من الترافع لفصل الخصومة الواقعة بين الموقوف عليهم فإنَّه قد يتَّفق أن يحكم استنادًا إلى مقدمات خاطئة قصورًا أو تقصيرًا فيأبى أحد طرفي الخصومة القبول بحكمه لعلمه بأنَّ ثمة مستندات لم يطلع عليها الحاكم وهي قاضية بخلاف ما يقتضيه حكم الحاكم فيصر على الرجوع لحاكمٍ آخر ويتَّفق أن يعلم الحاكم الآخر بمنافاة حكم الأول للواقع فيقبل بالمرافعة عنده فيحكم بخلاف حكم الأول، فإذا افترضنا أنَّ كلا الحاكمين غير مبسوطي اليد ووقع التشاح بين الخصمين فإنَّ الخصومة لم تُفصل في هذا الفرض، ولم يكن من سبيل لفصل الخصومة بالرجوع لحكام الشرع بعد افتراض اختلافهم.

 

هذا لو كان الرجوع لحكَّام الشرع في مفروض المسألة المذكورة من باب الترافع لفصل الخصومة وكان اختلافهم من الاختلاف في الحكم القضائي، وأما لو كان الرجوع لهم باعتبار ما لهم من الولاية بعد اختلاف نظر الأولياء فإنَّ صحة الاختلاف بين حكام الشرع مبنيٌّ -كما أفاد بعض الأعلام- على ما هو دليل جعل الولاية لهم، فإنْ كان الدليل هو التوقيع الشريف: "وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنَّهم حجتي عليكم وأنا حجة الله"(4) فهو مقتض لصيرورة الولاية المجعولة للفقهاء بمنزلة الولاية المجعولة للأب والجد للأب على الصغير، فحيث إنَّ الولاية المجعولة لهما عرضية وإنَّ لكلٍ منهما إعمال ولايته استقلالاً، وإنَّ إعمال أحدهما لولايته لا يمنع الآخر من إعمال ولايته حتى في فرض المزاحمة، فلو أنَّ أحدهما وضع يده على مال الصغير المولَّى عليه فإنَّ ذلك لا يمنع من جواز تصرُّف الآخر في المال ببيعٍ أو إجارة مثلاً.

 

وكذلك هو الحال بالنسبة للولاية المجعولة للفقهاء فإنَّها مجعولة لهم في عرضٍ واحد بمقتضى التوقيع الشريف، فكلٌّ منهم له الولاية استقلالاً، وهذا يقتضي أنَّ ولاية الثاني لا تنتفي بإعمال الأول لولايته، ولذلك يصحُّ للثاني إعمال ولايته بما يُزاحم ولاية الأول وهكذا، فلو أنَّ الأول باع مال اليتيم ببيعٍ خياري جاز للثاني إعمال الخيار وفسخ البيع.

 

نعم لو كان مستند الولاية المجعولة للفقهاء هو ما دلَّ على نيابة الفقهاء للإمام (ع) وأن الفقيه منزَّل منزلة الإمام فبناءً على ذلك لا تصح المزاحمة، لأنَّ تصرُّف الأول في المولَّى عليه بمنزلة تصرُّف الإمام (ع) ومما لا ريب فيه أنَّ مزاحمة الإمام غير جائزة والتصرُّف على خلاف ما أعمله من ولايته غير نافذ.

 

وعليه فلو كان البناء هو أنَّ الولاية المجعولة للفقهاء من قبيل ولاية الأب والجد للأب فالاختلاف قد يتَّفق وقوعُه بين حكام الشرع، ولا يكون ذلك من النقض لحكم الحاكم لأنَّ تصرف أحدهما في المولَّى عليه ليس من قبيل الحكم وإنَّما هو من قبيل إعمال الوليِّ لولايته في الشيء المولَّى عليه، ولذلك لا تكون مزاحمة الوليِّ الآخر من النقض لحكم الحاكم الشرعي، ولا يستلزم ذلك اختلال النظام بعد أنْ كان اتَّفاق وقوع ذلك محدودًا ولا ينشأ عن التشهِّي بعد افتراض أنَّ المجعول لهم الولاية هم الفقهاء العدول الذين لا يألون جهدًا في سبيل الحفظ للمصالح الدينيَّة والعامة.

 

ومن هنا لو تشاحَّ الموقوف عليهم في تعيين موضع سكنى كلٍّ منهم أو فيمن يسكن أولاً أو مقدار الزمن واختلفت أنظار الأولياء المنصوبين من قِبل الواقف أو لم يجعل الواقف أولياء على الوقف فعلم أحد حكَّام الشرع بتشاحهم فأعمل ولايته ففرض لكلٍّ من الموقوف عليهم موضعًا لسكناه فرأى الآخر أنَّ الأول قد غفل عن أنَّ ذلك منافٍ لمصلحة الوقف أو أنَّ فيه إجحافاً لبعض الموقوف عليهم فأعمل ولايته ففرض أمرًا آخر بأنْ جعل السكنى بينهم تعاقبيَّة، فبقي تشاحُّ الموقوف عليهم دون حسم نظرًا لكون الحاكمين غير مبسوطي اليد.

 

بل قد يقال -وقد قيل- إنَّ الولاية بملاك النيابة لا تمنع أيضًا من جواز المزاحمة بعد القبول بأنَّ الولاية المجعولة للفقهاء عرضية وأنَّ لكلِّ فقيه الولاية استقلالاً. وتحقيق المسألة له موضع آخر.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- منهاج الصالحين -السيد الخوئي- ج 2 ص 244.

2- الكافي -الشيخ الكليني- ج 7 ص 414.

3- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 1 ص 34.

4- كمال الدين وتمام النعمة -الشيخ الصدوق- ص 484.