هل هذا هو علَّةُ النهي عن إنقاص المكيال؟!


المسألة:

﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ﴾ قوله تعالى على لسان شعيب: ﴿إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ﴾ هل معناه أنَّهم لولم يكونوا بخيرٍ لساغ لهم أنْ يُنقصوا المكيال والميزان؟!


الجواب:

إنَّ الغاية –كما هو مقتضى الظهور- من قوله: ﴿إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ﴾ هو المبالغة في التشنيع على قوم شعيب، إذ إنَّ بخس المكيال والميزان وإنْ كان مشينًا وشنيعًا في نفسه لكنَّه حين يصدر من المُستغني عنه لوفور ماله وسِعة أحواله يكون أكثر شناعة وقبحًا، وحيثُ إنَّ قوم شعيب كانوا بخيرٍ -كما أفادت الآية المباركة– فإنَّ إنقاصهم للمكيال والميزان والذي هم في غنًى عنه يكون غايةً في الشناعة لأنَّه يجمع ظلمًا وخِسَّة ولؤمًا، فهو ظلم لأنَّه بخسٌ للناس أشياءهم، وهو خِسَّةٌ ولؤمٌ لأنَّه يُعبِّر عن تعلُّق نفوسِهم بالحقير من المال رغم استغنائم عنه، فأراد شعيبٌ (ع) من قوله: ﴿إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ﴾ تعييرَهم بهذه الصفة الوضيعة -التي يربأُ عن مساورتها حتى الطغاة- لعلَّ ذلك يُساهم في ردعهم عن مقارفة هذا الفعل المشين، فليس المقصود من قوله: ﴿إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ﴾ أنَّه لولم يكونوا بخيرٍ فإنَّ البخس للمكيال يكون سائغًا بل كانت مقصوده من هذا القول هو الوعظ بكلِّ ما يُسهم في تزهيدهم وإقلاعهم عن هذه الموبقة.

 

عينًا كما يقول الرجلُ لمن وجد آخر يُريد قتل أبيه: لا تقتله فإنَّه أبوك الذي كان له الفضل في وجودك وتربيتك، فإنَّ أحدًا لا يفهم من هذا الخطاب أنَّ قصد التكلِّم هو أنَّه لولم يكن أباه لساغ له قتله بل يفهم كلُّ متلقٍّ لهذا الخطاب أنَّ المتكلِّم كان بصدد ثنيِ المُخاطب عن جريمة القتل، فهو يتوسَّل بمثل التحريك لعاطفة البنوَّة للمنع من وقوع هذه الجريمة، فقد لا يُثني المُخاطب عن الإقدام على القتل تذكيرُه بكون القتل للنفس المحترمة قبيحًا وحرامًا لكنَّ التحريك لمشاعره قد يمنع من الإقدام على هذا الفعل لهذا يكون المناسب هو التوسُّل بذلك، وهذا هو عينُه منشأ التبرير الذي أفاده شعيب (ع) في مقام الوعظ لقومه بعدم البخس في المكيال والميزان، فهو قد عدل عن بيان قبح أصل العمل لوضوحه أولًا ولأنَّه لن يجدي في الردع واختار التعيير بالخسَّة والدناءة -التي يربأُ عنها ذوو المروءات وإنْ كانوا طغاة- لأنَّه قد يُجدي في الردع عن هذا الفعل الشنيع.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور