النهيُ عن المنكر في موارد العلم الإجمالي


المسألة:

لو ارتكب طرفي العلم الاجمالي للحرام أو أحد الأطراف يجب في الأول نهيه، ولا يبعد ذلك في الثاني أيضا، إلا مع احتمال عدم منجزيَّة العلم الإجمالي عنده مطلقا، فلا يجب مطلقا، بل لا يجوز، أو بالنسبة إلى الموافقة القطعية فلا يجب، بل لا يجوز في الثاني، وكذا الحال في ترك أطراف المعلوم بالإجمال وجوبه.

 

السؤال الأول: في الصورة الأولى من المسألة ما إذا ارتكب جميع الأطراف كيف لا يجب وهنا نقطع بأنَّه ارتكب جميع الأطراف وقطعًا أحدها هو الحرام؟

 

السؤال الثاني: ما المراد بهذه العبارة أو بالنسبة إلى الموافقة القطعية؟


الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة تشتمل على عددٍ من الفروض:

وقبل بيانها نُشير إلى مقدِّمة توضيحيَّة وهي أنَّ الشبهة تارةً تكون تحريميَّة وأخرى تكون شبهة وجوبيَّة، وكلٌّ من الشبهتين تارةً تكون بدْويَّة، وأخرى تكون مقرونة بالعلم الإجمالي فهذه أقسامٌ أربعة للشبهة:

 

القسم الأول: شبهة تحريميَّة بدويَّة، وهي ما لو وقع الشك في شيءٍ واحد معيَّن أنَّه حرام أو ليس بحرام، كما لو شككتُ أنَّ هذا السائل خمرٌ فيكون حراماً أو هو ماء فيكون حلالاً، فهذه شبهة بدويَّة، والأصل الجاري فيها هو أصالة الحِل والبراءة من الحرمة، وتسمَّى هذه الشبهة التحريميَّة شبهة موضوعيَّة جزئيَّة، وقد يقع الشك في حكم شيء كلِّي أنَّه حرام أو ليس بحرام كما لو وقع الشك في أنَّ لحم الأرنب حرام أو ليس بحرام، فهذه أيضاً شبهة تحريميَّة بدوية ولكنَّها شبهة كليَّة وتُسمى شبهة تحريميَّة حكميَّة، والأصل الجاري فيها هو أصالة الحل والبراءة أيضاً.

 

القسم الثاني: شبهة تحريميَّة مقرونة بالعلم الإجمالي كما لو دارت الحرمة بين طرفين أو أطراف متعدِّدة فأنا أعلم أنَّ الحرمة موجودة قطعاً ضمن واحدٍ من هذه الأطراف ولكنِّي لا أعلم أيَّ الأطراف بالتحديد هو المحرَّم واقعاً، ومثاله ما لو علمتُ أنَّ واحداً من هذين الإناءين خمر ولكنِّي لا أعلم أنَّ الخمر في موجودٌ في الإناء الأبيض أو الأحمر، فهذه شبهة تحريميَّة مقرونة بالعلم الإجمالي، والأصل الجاري في هذا القسم هو المنجزيَّة أي منجزيَّة العلم الإجمالي، بمعنى أنَّ على المكلَّف أن يترك الشرب لكلا الإناءين، لأنَّه لو شرب منهما معاً لعلم أنَّه قد شرب خمراً قطعاً، وهل يجوز له أنْ يشرب من أحدهما ويترك الآخر فيه خلاف كما سنبيِّن.

 

القسم الثالث: شبهة وجوبيَّة بدوية وهي ما لو وقع الشك أنَّ هذا الفعل واجب أو ليس بواجب كما لو شكَّ المكلَّف أنَّه وقع الكسوف لتجب عليه الصلاة أو لم يقع فلا تجب الصلاة، فهذه شبهة بدويَّة وجوبيَّة، والأصل الجاري هو البراءة من الوجوب، وكذلك لو وقع الشكُّ أنَّ صلاة الجمعة واجبة أو ليست واجبة، فهذه شبهة وجوبية بدويَّة والأصل الجاري فيها هو البراءة من الوجوب أيضاً.

 

القسم الرابع: شبهة وجوبيَّة مقرونة بالعلم الإجمالي كما لو دار الوجوب المعلوم إجمالاً بين شيئين أو قل بين طرفين أو أطراف متعدِّدة، ومثاله ما لو علم المكلف أنَّه يجب عليه إما قضاء صلاة الصبح أو صلاة المغرب أو وقع الشك أنَّ القبلة إمَّا في أقصى اليمين أو أقصى اليسار، فهذه شبهة وجوبيَّة مقرونة بالعلم الإجمالي، والأصل الجاري فيها هو المنجزية بمعنى أنَّه لا يجوز له ترك كلا الصلاتين لأنَّه لو تركهما معاً لحصل العلم أنَّه قد ترك واجباً قطعاً، وهل يجب عليه الإتيان بكلا الصلاتين المغرب والصبح وأنْ يصلي إلى كلا الجهتين أقصى اليمين وأقصى اليسار فيه خلاف.

 

وتحرير الخلاف هو أنَّ منجزيَّة العلم الإجمالي هل تقتضي حرمة المخالفة القطعية فقط أو تقتضي حرمة المخالفة القطعيَّة ووجوب الموافقة القطعية معا؟.

 

ومعنى حرمة المخالفة القطعية في الشبهات الوجوبية هو أن لا يترك المكلَّف جميع أطراف العلم الإجمالي لأنَّه لو ترك جميع الأطراف فإنَّه يكون قد ترك الواجب المعلوم قطعاً فلو ترك المكلَّف في المثال كلاً من صلاة الصبح والمغرب فإنَّه يكون قد ترك الواجب قطعاً، لأنَّ الواجب إمَّا أنْ يكون صلاة الصبح أو المغرب وهو قد تركهما معاً فيكون قد ترك الواجب قطعاً، وهذا هو معنى المخالفة القطعيَّة، لكنه لو ترك الصبح وجاء بالمغرب فإنَّه لا يكون قد خالف قطعاً لاحتمال أنَّ الذي جاء به وهي صلاة المغرب هي الواجب واقعاً. نعم الإتيان بصلاة المغرب وحدها لا توجب القطع بامتثال التكليف لاحتمال أنَّ الواجب واقعاً هي صلاة الصبح فلذلك يكون الإتيان بصلاة المغرب وحدها موافقة احتماليَّة للواجب.

 

أما لو جاء بكلا الصلاتين فإنَّه يقطع بامتثال التكليف لأنَّه إمَّا أن يكون مكلَّفاً بصلاة الصبح واقعاً أو بصلاة المغرب وقد جاء بهما معاً وبذلك حصلت الموافقة القطعيَّة فبناء على أنَّ منجزيَّة العلم الإجمالي تقتضي الموافقة القطعيَّة فإنَّ اللازم هو الإتيان بكلا طرفي العلم الإجمالي ليحصل القطع بموافقة الواقع.

 

وأما معنى وجوب الموافقة القطعيَّة في الشبهات التحريمية فهو الترك لجميع أطراف العلم الإجمالي فلو دارت الحرمة بين إناءين، فالموافقة القطعية تكون بترك كلا الإناءين والمخالفة القطعيَّة تكون بشرب كلا الإناءين، وأما الموافقة الاحتمالية فتكون بترك أحد الإناءين وشرب الآخر، فهي موافقة احتمالية لاحتمال أنَّ الإناء الذي تركه هو الخمر واقعاً وهي في ذات الوقت مخالفة احتمالية لاحتمال أنَّ الإناء الذي شربه هو الخمر واقعاً.

 

إذا اتَّضحت هذه المقدِّمة يقعُ الكلام في توضيح المسألة التي أفادها السيِّد الإمام (رحمه الله) فهي تشتمل على عددٍ من الفروض:

 

الفرض الأول: هو ما لو ارتكب المكلَّف في شبهةٍ تحريميَّة كلا طرفي العلم الإجمالي فهنا يكون عاصياً قطعاً، ولذلك يجب نهيه عن المنكر، فلو كان هناك إناءان أحدهما لا بعينه خمر فشربهما معاً أو أراد شربهما معاً فإنَّه يكون عاصياً، وذلك للعلم بارتكابه للحرام قطعاً، لأنَّ الخمر إما أنْ يكون في الإناء الأول أو الثاني وقد شربهما معاً، فهذه مخالفة قطعية، لذلك يكون عاصياً فيجب نهيه عن المنكر. وهذا هو معنى قوله:"يجب في الأول نهيه" يعني يجب -في حالة ارتكابه لطرفي العلم الإجمالي بالحرام- نهيه.

 

الفرض الثاني: هو ما لو ارتكب المكلَّف في شبهةٍ تحريميَّة أحد طرفي أو أطراف العلم الإجمالي كما لو شرب أو أراد أنْ يشرب أحد الإناءين المعلوم أنَّ أحدهما لا بعينه خمرٌ، وهنا أفتى السيد الإمام (رحمه الله) بوجوب نهيه عن شرب أحد الإناءين، وهذا هو معنى قوله: "ولا يبعد ذلك في الثاني أيضا" أي ولا يبعد وجوب نهيُه عن ارتكاب أحد طرفي أو أطراف العلم الإجمالي.

 

ومقتضى ذلك أنَّ السيد (رحمه الله) يبني على أنَّ منجِّزيَّة العلم الإجمالي تقتضي وجوب الموافقة القطعيَّة في الشبهات التحريمية، ولا تحصل الموافقة القطعية لامتثال التكليف بترك الحرام إلا بترك جميع أطراف العلم الإجمالي.

 

الفرض الثالث: لو رأينا المكلَّف يرتكب أحد أطراف العلم الإجمالي بالحرام أو يرتكب جميع الأطراف واحتملنا أنَّ هذا المكلَّف يُفتي أو يُقلِّد مَن يفتي بعدم منجزية العلم الإجمالي مطلقاً أي أنَّه يفتي بعدم وجوب الموافقة القطعيَّة وعدم وجوب الموافقة الاحتمالية وجواز المخالفة القطعية، فهنا لا يجب نهيه عن ارتكاب أطراف العلم الإجمالي لأنَّ ارتكابه لها ليس معصيةً بحسب الحجَّة الشرعية عنده. ثم ترقَّى السيد (رحمه الله ) وقال إنَّه لا يجوز في هذا الفرض نهيُه لأنَّ في نهيه عن ارتكاب جميع أطراف العلم الإجمالي اتِّهاماً له بارتكاب المعصية وهو من الإيذاء للمؤمن والذي هو حرام.

 

وأمَّا كيف أنَّه كيف لا يجب نهيه ونحن نعلم أنَّه ارتكب الحرام قطعاً فذلك لأنَّ هذا الحرام الذي ارتكبه ليس حراماً عليه ظاهراً لقيام الحجَّة الشرعيَّة عنده بعدم الحرمة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنَّما يجب في فرض علم المأمور بأنَّ ما يرتكبه معصية وأما الجاهل فلا يجب نهيه، نعم قد يجب تعليمه وهذا بحث آخر.

 

الفرض الرابع: لو رأينا المكلَّف يرتكب أحد أطراف العلم الإجمالي بالحرام واحتملنا أنَّ هذا المكلَّف يفتي أو يقلِّد من يفتي بعدم وجوب الموافقة القطعيَّة كما لو رأيناه يشرب أو يريد أنْ يشرب أحد الاناءين دون الآخر فهنا لا يجب نهيه بل لا يجوز لما ذكرناه في الفرض السابق.

 

ومن ذلك يتَّضح الحال في الفروض المتصلة بالشبهات الوجوبيَّة فلو كان المكلَّف متردِّداً بين وجوب قضاء صلاة الصبح أو صلاة المغرب وقد عزم على تركهما معاً فهنا يجب أمره بالصلاتين لأنَّ العلم الإجمالي يقتضي حرمة المخالفة الاحتمالية، ولو جدناه قد عزم على ترك إحدى الصلاتين فهنا يجب أمره بقضاء الصلاة التي عزم على تركها وذلك لوجوب الموافقة القطعية والتي لا تحصل إلا بالإتيان بكلا الصلاتين، نعم لو احتملنا أنَّه يفتي بعدم منجزية العلم الإجمالي مطلقا فهنا لا يجب أمره حتى لو ترك الصلاتين، ولو احتملنا أنَّه يُفتي بمنجزية العلم الإجمالي ولكن بمقدار حرمة المخالفة القطعية دون وجوب الموافقة القطعيَّة فهنا يجب أمره بالإتيان بأحد الصلاتين لو كان يريد تركهما معا، وأما لو جاء بأحد الصلاتين فلا يجب أمره بالصلاة الثانية لأنَّه لا تجب الموافقة القطعية عنده، فلا يكون تركه للصلاة الثانية معصية. لذلك لا يجب أمرُه بل لا يجوز اذا استلزم أمره الاتِّهام له بالمعصية وإدخال الأذى على قلبه.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

16 / 1 / 2021م

2 / جمادى الثانية / 1442ه