خطاب جعفر (ع) في محضر النجاشي


المسألة:

السلام عليكم شيخنا

هل ورد على لسان جعفر بن ابي طالب أية خطبة أمام ملك الحبشة إبَّان هجرتهم إليها؟ وهل الخطبة المنسوبة إليه الواردة في مصادر العامَّة صحيحة ومعتمدة؟


الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

نعم ورد في تفسير علي بن إبراهيم عند قوله تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾ فإنَّه كان سبب نزولها أنَّه لمَّا اشتدَّت قريش في أذى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأصحابه الذين آمنوا بمكة قبل الهجرة أمرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنْ يخرجوا إلى الحبشة، وأمر جعفر بن أبي طالب أنْ يخرج معهم، فخرج جعفر ومعه سبعون رجلاً من المسلمين حتى ركبوا البحر، فلمَّا بلغ قريشاً خروجهم بعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد إلى النجاشي ليردَّهم إليهم .. فوردوا على النجاشي، وقد كانوا حملوا إليه هدايا، فقبلها منهم، فقال عمرو بن العاص: أيُّها الملك إنَّ قوماً منَّا خالفونا في ديننا، وسبُّوا آلهتنا، وصاروا إليك فردَّهم إلينا، فبعث النجاشي إلى جعفر فجاء فقال: يا جعفر ما يقول هؤلاء؟ فقال جعفر: أيُّها الملك وما يقولون؟ قال: يسألون أنْ أردَّكم إليهم، قال: أيُّها الملك سلهم أعبيدٌ نحن لهم؟ قال عمرو: لا بل أحرارٌ كرام، قال: فأسألهم أَلهم علينا ديون يطالبوننا بها؟ فقال: لا مالنا عليكم ديون، قال: فلكم في أعناقنا دماء تطالبوننا بذحول؟ فقال عمرو: لا، قال، فما تريدون منا؟ آذيتمونا فخرجنا من بلادكم، فقال عمرو بن العاص: أيُّها الملك خالفونا في ديننا، وسبُّوا آلهتنا، وأفسدوا شباننا، وفرَّقوا جماعتنا، فردَّهم إلينا لنجمع أمرنا، فقال جعفر: نعم أيُّها الملك خالفناهم: بعث اللهُ فينا نبيَّاً أمرنا بخلع الأنداد، وترك الاستقسام بالأزلام، وأمرنا بالصلاة والزكاة، وحرَّم الظلم والجور وسفك الدماء بغير حقِّها، والزنا والربا والميتة والدم، وأمرنا بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى، ونهانا عن الفحشاء والمنكر والبغي، فقال النجاشي: بهذا بعث اللهُ عيسى بن مريم (عليهما السلام)، ثم قال النجاشي: يا جعفر هل تحفظ مما أنزل الله على نبيِّك شيئاً؟ قال: نعم، فقرأ عليه سورة مريم، فلمَّا بلغ إلى قوله: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا / فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا﴾ فلما سمع النجاشي بهذا بكى بكاءً شديدا، وقال: هذا والله هو الحقُّ، وقال عمرو بن العاص: إيُّها الملك إنَّ هذا مخالف لنا فردَّه إلينا، فرفع النجاشي يده فضرب بها وجه عمرو، ثم قال: اسكت، والله لئن ذكرتَه بسوء لأفقدنك نفسك، فقام عمرو بن العاص من عنده والدماء تسيل على وجهه وهو يقول: إنَّ كان هذا كما تقول أيُّها الملك فإنَّا لا نتعرض له .. ورجع عمرو إلى قريش فأخبرهم أنَّ جعفرا في أرض الحبشة في أكرم كرامة، فلم يزل بها حتى هادن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قريشا وصالحهم وفتح خيبر أتى بجميع من معه ..". تفسير القمي -القمي- ج1/ 176

 

 

وكذلك أورد قطب الدين الراوندي في كتاب الخرائج قال: روي عن ابن مسعود قال: بعثنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى أرض النجاشي ونحن ثمانون رجلا، ومعنا جعفر بن أبي طالب، وبعثت قريش خلفنا عمارة بن الوليد، وعمرو بن العاص مع هدايا فأتوه بها، فقبلها، وسجدوا له. فقالوا: إن قوما منا رغبوا عن ديننا وهم في أرضك.

 

فبعث إلينا، فقال لنا جعفر: لا يتكلَّم أحدٌ منكم أنا خطيبكم اليوم، فانتهينا إلى النجاشي، فقال عمرو، وعمارة: إنَّهم لا يسجدون لك. فلمَّا انتهينا إليه زبرنا الرهبان أنْ اسجدوا للملك. فقال لهم جعفر: لا نسجدُ إلا لله.

 

فقال النجاشي: وما ذاك؟ قال: إنَّ الله بعث فينا رسولَه، وهو الذي بشَّر به عيسى اسمه أحمد فأمرنا أنْ نعبد الله لا نُشرك به شيئا، وأنْ نقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، وأمرنا بالمعروف، ونهانا عن المنكر. فأعجب النجاشي قوله.

 

فلمَّا رأى ذلك عمرو قال: أصلح الله الملك، إنَّهم يخالفونك في ابن مريم. فقال النجاشي لجعفر: ما يقول صاحبُك في ابن مريم؟ قال: يقول فيه قول الله: هو روح الله وكلمته، أخرجه من العذراء البتول التي لم يقربها بشر. فتناول النجاشي عودا من الأرض، فقال: يا معشر القسيسين والرهبان ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذا.

 

ثم قال النجاشي لجعفر: أتقرأ شيئاً ممَّا جاء به محمد (صلى الله عليه وآله)؟ قال: نعم. قال: اقرأ وأمر الرهبان أن ينظروا في كتبهم فقرأ جعفر "كهيعص .." إلى آخر قصَّة عيسى (عليه السلام) وكانوا يبكون.

 

ثم قال النجاشي: مرحباً بكم وبمَن جئتم من عنده، فأنا أشهد ( أنَّه رسول الله ) وأنَّه الذي بشَّر به عيسى بن مريم، ولولا ما أنَّه فيه من الملك لأتيتُه حتى أحمل نعليه، اذهبوا أنتم "سيوم" -أي آمنون-. وأمر لنا بطعام وكسوة، وقال: ردوا على هذين هديتهما .." الخرائج والجرائح -قطب الدين الراوندي- ج1 / ص133.

 

 وهذا الذي ورد في طرقنا أورد قريباً من ابنُ إسحاق (رحمه الله ) في السير والمغازي بسنده عن أم سلمة زوج النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّها قالت: لما ضاقت علينا مكة وأُوذي أصحاب رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفُتنوا ورأوا ما يُصيبهم من البلاء والفتنة .. فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه فخرجنا إليها أرسالا حتى اجتمعنا بها فنزلنا بخير دار إلى خير جار امناً على ديننا ولم نخش منه ظلما فلمَّا رأت قريش أن قد أصبنا داراً وأمناً أجمعوا على أن يبعثوا إليه فينا ليُخرجنا من بلاده وليردَّنا عليهم فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة فجمعوا له هدايا .. فأرسل إليهم النجاشي فجمعهم ولم يكن شيء أبغض إلى عمرو بن العاص وعبد الله ابن أبي ربيعة من أن يسمع كلامهم .. فلما دخلوا عليه كان الذي تكلم منهم جعفر بن أبي طالب فقال له النجاشي ما هذا الدين الذي أنتم عليه فارقتم دين قومكم ولم تدخلوا في يهودية ولا نصرانية فما هذا الدين فقال جعفر: أيُّها الملك كنَّا قوماً على الشرك نعبد الأوثان ونأكل الميتة ونُسيء الجوار ونستحلُّ المحارم بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها لا نحلُّ شيئاً ولا نحرمه فبعث الله إلينا نبياً من أنفسنا نعرف وفاءه وصدقه وأمانته فدعانا إلى أنْ نعبد الله وحده لا شريك له ونصِلُ الرحم ونُحسن الجوار ونصلي ونصوم ولا نعبد غيره.

 

فقال هل معك شيء ممَّا جاء به وقد دعا اساقفتة فأمرهم فنشروا المصاحف حوله فقال له جعفر: نعم، قال: هلمَّ فأتلُ عليَّ ما جاء به فقرأ عليه صدرا من كهيعص فبكى والله النجاشي حتى اخضلَّ لحيته وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم ثم قال: إنَّ هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها موسى انطلقوا راشدين، لا واللهِ لا أردُّهم عليكم ولا أُنعمكم عيناً.

 

فخرجا من عنده وكان أتقى الرجلين فينا عبد الله بن أبي ربيعة فقال له عمرو بن العاص: والله لآتينَّه غدا بما استأصل به خضراءهم لأخبرنَّه أنَّهم يزعمون أنَّ الهه الذي يعبد عيسى بن مريم عبد فقال له عبد الله بن أبي ربيعة وكان أتقى الرجلين لا تفعل فإنَّهم وإن كانوا خالفونا فإنَّ لهم رحماً ولهم حقَّا فقال: والله لأفعلنَّ، فلمَّا كان الغد دخل عليه فقال: أيُّها الملك إنَّهم يقولون في عيسى قولا عظيماً فأرسِلْ إليهم فسلهم عنه .. فدخلوا عليه وعنده بطارقته فقال: ما تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال له جعفر: نقول هو عبد الله ورسولُه وكلمتُه وروحه ألقاها إلى مريم العذراء البتول فدلَّى النجاشي يدَه إلى الأرض فأخذ عويدا بين أصبعيه فقال: ما عدا عيسى بن مريم ممَّا قلتَ هذا العود .. اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي والسيوم الآمنون .." سيرة ابن إسحاق السير والمغازي ج4/ 193.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور