إجهاض المُغتصبة لجنينها


المسألة:

هل يجوز للمرأة المُغتصَبة إجهاض جنينها؟ وإذا كان لا يجوز فما هو المبرِّر لذلك؟

أليس في تحريم الإجهاض في مثل هذا الفرض إيقاع للمرأة في الحرج الدائم حيث سيظلُّ شبح هذه الجريمة التي ارتُكبت في حقها ماثلاً أمامها كلَّما شاهدت مولودها؟ أليس من حقها أن تنسى ما ارتُكب في حقها من ظلم؟

ثم إنَّ المنع من الإجهاض والذي يترتب عليه بقاء الولد سوف يجعل هذه المرأة المسكينة في وضعٍ اجتماعيٍّ سيء، إذ أن كلَّ مَن لم يكن يعلم فإنه سوف يعلم، وهو ما قد يُساهم في خلق أزمة نفسية حادة لهذه المرأة.

الجواب:

المنشأ من دعوى الاستحقاق للإجهاض هو حماية المرأة من الوقوع في الحرج الشديد وحتَّى لا تكون في وضع اجتماعيٍّ سيء، وهذا الملاك لو تمَّ فهو غير مطَّرد، وذلك لأن قابليات الناس ونفسياتهم متفاوتة بل ومتباينة، فهناك من النساء يمتلكن من الوعي والنضوج ما يُؤهلهن لاستيعاب المشكلة والتعاطي معها بواقعية تامة، وهو ما يَنتج عنه عدم الشعور بالحرج من بقاء الولد الناشئ عن الاغتصاب، فمثل هؤلاء النساء لا يكون ثمة من مسوِّغٍ شرعي أو عقلاني لإجازتهن في الإجهاض.

وكذلك فإنَّ المجتمعات مختلفة في أعرافها وثقافتها، فهناك من المجتمعات مَن لا تكون أعرافها وثقافتها مقتضية لخلق وضع اجتماعي سيء للمرأة المغتصبة أو لوليدها الناشئ عن الاغتصاب، فقد تقتضي ثقافة بعض المجتمعات وأعرافها عدم الاعتناء والاهتمام بمنشأ تخلُّق الأولاد وأنهم نشأوا عن نكاح أو سفاح، كما قد تقتضي التعاطي مع بعضهم البعض بمنأى عن أحوالهم الشخصية والخاصة. ثم أن هناك مَن المجتمعات من لا تكون بينهم روابط خاصة تقتضي التعرُّف على خصوصيات بعضهم للبعض الآخر، وكلُّ ذلك ينفي المسوِّغ الثاني المذكور، فلا يترتب على بقاء الولد -الناشئ عن الاغتصاب في الظروف الاجتماعية المذكورة- وقوع الأم أو وليدها في أزمةٍ نفسيَّةٍ حادَّة.

ثم إن الحرج النفسي الذي قد ينتاب المرأة المغتصبة لو كان ناشئًا عن ثقافة مجتمعها وأعرافه وأمكنها دون مشقة نفسية أن تنتقل إلى مجتمع آخر لا علم له بها بما وقع لها فإنه في مثل هذا الفرض وما يماثله لا يكون ثمة من مسوِّغ شرعي أو عقلاني لإجازتها في إجهاض جنينها.

والنتيجة المتحصَّلة مما ذكرناه هي إنَّ معالجة هذه القضية بإعطاء حكمٍ عام مفاده أنَّ للمُغتَصبة الحق في إجهاض جنينها مطلقًا مما لا مساغ له عقلائيَّاً وشرعًا.

نعم في الفرض الذي يكون فيه عدم الإجهاض للجنين منتج لا يقاع المرأة المغتصبة في الحرج الشديد ولا يكون ثمة من مخرج ينفي عنها الحرج بغير الإجهاض يمكن القول بجواز الإجهاض، وذلك لقاعدة نفي الحكم الذي ينشأ عنه الحرج المستفاد من قوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾(1).

هذا إذا لم تكن الروح قد ولجت في الجنين وكان في بداية التخلُّق والنمو، وأما لو كان قد ولجته الروح فإن الحكم يختلف، وذلك فإنَّ حقَّ المرأة في نفي الحرج عن نفسها يتعارض مع حق الولد في الحياة، وحينئذٍ لا يصح التمسك بقاعدة نفي الحرج، فقاعدة نفي الحرج من القواعد الامتنانية على جميع الأمة لذلك فهي لا تجري في أي موردٍ يكون في إجرائها امتنانٌ على بعض أفراد الأمة ونقمة على البعض الآخر.

فلأن إجهاض الجنين بعد ولوج الروح فيه يكون من قتل النفس المحترمة، لذلك لا يسوِّغه لا -شرعًا- خوف الأم من الوقوع في الحرج الشديد كما أن العقل يستبشعه ويستفظعه، لأنه من الظلم المُستقبَح، فهو لا يختلف روحًا عن الوأد الذي كانت تمارسه بعض قبائل العرب في الجاهلية، وهم أيضًا كانوا يُبرِّرن الوأد للبنات بالخشية من الوقوع في الحرج الشديد نظرًا لما يتعرض له البنات كثيرًا من سطوٍ وسبي، وهو ما يَنتج عنه دخول العار والمسبَّة على ذويهنَّ والذي كان أشد وقعًا على نفوسهم من ضربات السيوف.

قال تعالى: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ / يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ﴾(2).

فلم يكنّ شعورهم بالحرج من بقاء بناتهم على قيد الحياة مسوِّغًا في الشريعة لوأدهن ودسِّهن في التراب، وكان العلاج لما يستشعرونه من حرج هو التغيير لهذه الثقافة وهذه الأعراف، فالقيم والمبادئ التي كانت سائدة هي المنشأ لاستشعار الحرج من وجود البنات، لذلك كان تصدي الإسلام متركزًا على استئصال جذور ومناشئ هذه الأعراف.

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

 

1- سورة الحج / 78.

2- سورة النحل / 58-59.