معنى قوله تعالى للرسل (ص): ﴿مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾


المسألة:

يذهب أهل السنة والجماعة إلى أن رسول الله (ص) لم يكن عارفاً ببعثته قبل نزول الوحي مستدلين بالآية ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾. وهو ما يعاكس رأي الشيعة الإمامية، حسب علمي. فكيف يمكننا إثبات عكس معتقدهم. خاصةً يذكرون في شروحهم لسيرة النبي (ص) أموراً مسيئة لمقامه (ص).


الجواب:

الآية المباركة لا تنفي عن النبيّ الكريم (ص) الإيمان بالتوحيد والعبوديّة لله تعالى قبل البعثة كما أنَّها لا تنفي عنه العلم بأنَّه سيُبعث نبيًّا في مستقبل الأيام. وكلّ ما تنفيه الآية المباركة هو علمه بالكتاب والمعارف التفصيليَّة التي اشتمل عليها وتنفي عنه الإيمان بهذه المعارف التفصيليّة نظرًا لعدم علمه بها.

 

ثم إنَّ الآية المباركة إنَّما نفت عنه العلم بذلك في آنٍ واحد من آنات وجوده الشريف فمن الممكن أنَّ علمه بالكتاب قد سبق بعثه بالرسالة بزمنٍ طويل.

 

فمفاد ما تقتضيه الآية المباركة أنَّه لم يعلم بالكتاب والإيمان من عند نفسه وإنَّما كان ذلك بتعليم الله جلَّ وعلا، ولذلك لم يكن يعلم بهما ثمَّ علم وأمَّا الزمن الّذي مُنِحَ فيه العلم بهما وهل هو حين البعث بالرسالة أو قبل ذلك بزمنٍ يسير أو طويل فلا دلالة للآية المباركة على شيء من ذلك، ولهذا لا يصحّ التمسّك بها لإثبات عدم علمه وإيمانه قبل الرسالة.

 

وأما القول بأنَّ الآية المباركة أفادت أنَّ العلم بالكتاب والإيمان كان بواسطة الوحي كما هو مفاد قوله: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾(1) وإذا كان بواسطة الوحي فهذا يقتضي أنَّ العلم بهما كان حين بُعِثَ بالرسالة.

 

فالجواب أنَّ الوحي قد يسبق البعث بالرسالة فيكون الإنسان نبيًّا قبل أن يكون رسولاً. وعليه يمكن أنْ يكون الوحي الّذي نزل على قلب محمَّد (ص) بالكتاب والإيمان كان قد وقع في أوائل عمره الشريف فيكون قد نال شرف النبوّة منذ ذلك الحين، لأنَّ الوحي لا يكون إلا للأنبياء فإذا كان قد أُوحي إليه في ذلك الحين فهو نبيٌّ منذ ذلك الحين.

 

وليس ذلك بمستبعد فقد سبق النبيَّ الكريمَ أنبياء أُوحي إليهم منذ نعومة أظفارهم ولم يكونوا حينذاك رسلاً بل كانوا أنبياء وحسب، قال تعالى على لسان عيسى (ع): ﴿.. إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا / وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا ..﴾(2) فلم يكن عيسى حينذاك رسولاً ولكنَّه كان نبيًّا وقد منحه الله تعالى علم الكتاب رغم أنَّه كان في المهد.

 

ويمكن تأكيد ذلك بأنَّه لو كان رسولاً حينذاك لكان المناسب هو التنويه والإشارة إلى أنَّه واجد لهذا المقام، فليس هو بالمقام الّذي يصحّ إغفاله خصوصًا وأنَّه قد أشار إلى ما هو دون هذا المقام فأفاد أنَّه مبارك وأنَّ الله تعالى أوصاه ببرِّ والدته، فعدم الادِّعاء لمقام الرسالة يعبِّر عن عدم كونه رسولاً حينذاك ولكنَّه كان نبيًّا عالمًا بالكتاب.

 

ويؤيِّد ما ذكرناه ما رواه الكافي بسندٍ معتبر عن يزيد الكناسي قال: سألت أبا جعفر (ع) أكان عيسى بن مريم (ع) حين تكلم في المهد حجة لله على أهل زمانه؟

 

فقال (ع): حين تكلَّم بالمهد حجَّة لله غير مرسل، أما تسمع لقوله حين قال: ﴿.. إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾(3).

 

وبما ذكرناه يتضِّح أنَّه لا دلالة في الآية المباركة على أنَّ علم النبيّ (ص) بالكتاب والإيمان كان بعد أن بُعِثَ بالرسالة بل قد يكون علمه بهما بواسطة الوحي قد سبق الرسالة بزمنٍ طويل. وعليه لا تكون هذه الآية المباركة منافية لما دلَّ على أنَّ النبيّ (ص) كان موحِّدَا متعبِّدًا وكان عارفًا بالكتاب والإيمان.

 

ويكفي لإثبات أنَّ النبي محمد (ص) كان كذلك ما ورد من طرق العامة بأسانيد معتبرة عندهم أنه (ص) كان نبياُ وآدم بين الروح والجسد.

 

منها: ما رواه الترمذي في سننه بسندٍ وصفه بالصحيح عن أبي هريرة قال: قالوا يا رسول الله متى وجبت لك النبوة؟، قال (ص): "وآدم بين الروح والجسد".

 

ومعنى الوجوب هو الثبوت، والثبوت ظاهر في الفعلية، فليس المراد من الرواية أن الله عزّ وجل قد انعقدت إرادته على أن يجعل محمداً (ص) نبياً في مستقبل الزمان، وإن هذه الإرادة انعقدت وآدم بين الروح والجسد، فإنَّ ذلك لا يجعل للنبي (ص) خصوصية، إذ ما من نبيٍّ إلا وقد أراد الله أن يكون نبياً من الأزل، أي حتى قبل أن يُخلق آدم (ع) وهذا ثابت بالضرورة، فالظاهر من الرواية أنّ الله صيَّر محمداً نبياً وآدم بين الروح والجسد، فإذا كان محمدٌ نبياً من ذلك الحين فلا بد وأن يكون واجداً حينذاك لملكات النبوة، ويؤيد ذلك الكثير من الروايات الدالة على أن الله تعالى أول خلقٍ خلقه هو نور محمد (ص)، أو انَّه خلقه قبل ان يخلق آدم بألفي عام.

 

ومنها: ما رواه الحاكم النيسابوري في المستدرك بسندٍ وصفه بالصحيح عن ميسرة الفخر قال: قلت لرسول الله (ص) متى كنت نبياً، قال (ص): "وآدم بين الروح والجسد".

 

ودلالة هذه الرواية على الدعوى واضحة حيث أن ظهورها في الفعلية ظهور بيِّن. فحينما يقال: كنتُ عالماً منذ سنة فمعناه انَّ التلبُّس بصفة العالمية كان فعلياً منذ سنة، وهكذا حينما يقال كان زيد قاضياً منذ عشر سنين فإن معناه أن التلبُّس والاشتغال بهذه الوظيفة كان متحققاً لزيدٍ منذ عشر سنين.

 

ومنها: ما رواه الهيثمي في مجمع الزوائد عن عبد الله بن عقيق عن رجل قال: قلت يا رسول الله متى جُعِلتَ نبياً؟، قال: "وآدم بين الروح والجسد". قال رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

 

وهذه أيضاً واضحة الدلالة حيث أن الجعل ظاهر في الفعلية، إذ لو كان الجعل بمعنى التقدير لما كانت للنبي (ص) خصوصية، فما من نبي من الأنبياء إلا وقد قُدّر له أن يكون نبياً من الأزل قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾(4)، فيتعيَّن أن يكون المراد من الجعل في الرواية هو أنه تعالى قد أعطاه مقام النبوة وآدم بين الطين والجسد.

 

هذا وقد وردت بهذا المضمون روايات كثيرة من طرق العامة إلا أن فيما ذكرناه كفاية، فإذا أضفنا إلى هذه الروايات ما ورد من طرقهم في كيفية ولادته والأمور الخارقة التي وقعت قبله وحينه وبعده فإن الأمر يكون أكثر إلزاماً لهم.

 

فقد ورد من طرقهم أنه (ص) حين وُلِد خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق والمغرب، وأنه حين ولد وقع على كفَّيه وركبتيه شاخصاً ببصره نحو السماء، وذكر بعضهم أنه وقع حين وُلد معتمداً على يديه ثم أخذ قبضةً من تراب فقبضها ورفع رأسه إلى السماء وأنه خرج معه نور أضاءت له قصور الشام أي كان ذلك النور باتجاه الشام. ورووا أن النبي (ص) حين رجع من تجارته لخديجة رأته حين دخوله مكة وهو على بعيره وملكان يُظلان عليه فأرته نساءها وعجبن لذلك، ونقلوا أن ميسرة والذي صحبه للتجارة بأموال خديجة ذكر أنه إذا كانت الهاجرة واشتد الحر يرى ملكين يُظلان النبي (ص) من الشمس. ونقلوا أيضاً أنه كان في صباه في بني ساعدة تُظلِّله الغمام، فكانت غمامة تُظِل عليه إذا وقف وإذا سار سارت معه، وذكروا له ذلك حينما سافر إلى الشام.

 

ونقلوا روايات أفادت أن الأحجار والأشجار كانت تسلّم عليه قبل المبعث، فقد روى مسلم في صحيحه عن رسول الله (ص) أنه قال: "إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلّم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن".

 

ورووا أن رسول الله (ص) حين أراد الله كرامته وابتدأه بالنبوة كان لا يمرُّ بحجرٍ ولا شجر إلا سلّم عليه وسمع منه فيلتفت رسول الله (ص) خلفه وعن يمينه وشماله فلا يرى إلا الشجر وما حوله من الحجارة وهي تحيّيه بتحية النبوة (السلام عليك يا رسول الله).

 

هذه مضامين بعض الروايات الواردة من طرق العامة ومثلها كثير، وكل هذه الروايات تعبِّر عن أنه كان (ص) واجداً لمقام النبوة وإنَّ الذي وقع بعد بلوغه الأربعين هو انَّه بُعث بالرسالة.

 

فإذا أضفنا إلى مروِّياتهم ما ورد من طرق أهل البيت (ع) من روايات تفوق حدَّ التواتر الإجمالي والمصرِّحة بواجديته لهذا المقام منذ نعومة أظفاره فحينئذٍ يمتنع على المنصف التنكُّر لهذا الدعوى بعد توافق الفريقين على نقل ما يقتضي الإذعان بصوابيتها، وبذلك تكون الروايات الآحاد المرويّة من طرق العامة والمُسيئة لمقام الرسول (ص) قبل البعثة ساقطة عن الاعتبار جزماً.

 

وأختم هذا الجواب الموجز بنقل فقرة -تيمُّناً- من خطبة أمير المؤمنين (ع) الواردة في نهج البلاغة والمشهورة بالقاصعة والتي كان يصف فيها أحوال النبي (ص): ".. ولقد قرن الله سبحانه به (ص) من لدنْ انْ كان فطيماً أعظم ملَكٍ من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره..."

 

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

 

 

1- سورة الشورى / 52.

2- سورة مريم / 30-31.

3- سورة مريم / 30

4- سورة الحديد / 22.