حقيقة أم الصبيان


المسألة:

ما هي حقيقة أم الصبيان؟، وهل صحيح انها ذكرت في الروايات التي وردت عن النبي (ص) وأهل بيته (ع)؟، وهل ان ما يذكرونه من آثارها صحيح؟

الجواب:

(أم الصبيان) عنوان ورد في بعض الروايات إلا شيئاً منها لم يتصد لبيان المراد منه، ويظهر من كلمات اللغويين أن المراد من هذا العنوان هو داء يُصيب بعض الصبيان، فقد أفاد ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث أنَّ أم الصبيان ريحٌ تعرض للصبي وربما أدَّت إلى إصابته بالإغماء وقريب من ذلك ما أفاده ابن منظور في لسان العرب والطريحي في مجمع البحرين وكذلك فُسَّر هذا العنوان في الطب القديم فقد أفاد أبو علي ابن سينا في كتاب القانون أن ام الصبيان نوع من الصرع(1).

وفي تذكرة أولى الألباب للشيخ داود الأنطاكي: (أنَّ ام الصبيان مرض يعتري الأطفال سببه عند الأطباء فرط الرطوبة المزاجية واللبنية وضعف الحرارة فتصعِّد الرطوبة بخاراً رطباً يضرب الرأس فيخمِّره ثم يسيل الصاعد فيحبِس النفس ويغشى وقد يبرَّد الأطراف، ولا فرق بينه وبين الصرع إلا عدم الزبد على الفم هنا، والأولى عدَّه من أمراض الدماغ، وبعضهم أدرجه في الاختناق، وبعضهم في الحميات ..)(2)

وقال: في موضع آخر من كتابه: أن ام الصبيان انصباب مواد من الصدر تُعسِّر النفس وتُغيِّر العين وتُمسك أعصاب اليد والرجل ثم تنحل، وقلَّ مَن يخلص منها من الأطفال. وسببها كثرة الرطوبة وسوء هضم المراضع وتناولهن ما غلظ، وقد تكون عن سقطة ونحوها وهي أشبه شيء بالصرع وقد ينسبها كثير من العامة إلى القرناء وليس كذلك(3).

وأما ما يتوهمه بعض عوام الناس من أنَّ ام الصبيان اسم لبعض الجان يترآى لبعض الأطفال أو يمَسُّهم فيفزعون من ذلك وهو منشأ بكائهم الدائم كما قد يكون منشأً لإصابتهم ببعض الأمراض كالجنون أو التخلُّف العقلي أو الصرع أو الشلل فكلُّ ذلك لا أساس له في الشريعة فلم نجد فيما ورد عن الرسول وأهل بيته (ع) ما يقتضي هذا الفهم من عنوان (أم الصبيان) وكل ما أفادته الروايات هو انه يُستحب لمن رُزق بمولود ان يُؤذَّن في اذنه اليمنى ويُقام في أذنه اليسرى فإن مَن فُعل به ذلك لا تُصيبه ام الصبيان، وذلك لا يظهر منه أنّ (ام الصبيان) هي التابعة من الجن كما فهم ذلك بعض علماء السنة، إذ ليس في الرواية ما يقتضي فهم هذا المعنى، والتعبير بالإصابة يُناسب أن يكون متعلقه المرض، لذلك يصح أن يُقال أصابته الحمى وأصابه الفزع، بل في الروايات ما يعبِّّّّّّّّّّّّر عن أن (أم الصبيان) ليس سوى داءٍ تعارف بين الناس تسميته بام الصبيان، فقد روى الحرُّ العاملي في الفصول المهمة عن الحسين بن بسطام في طب الأئمة عن عبد الله بن زهير عن عبد الله بن الفضل النوفلي عن أبيه قال: شكى رجل إلى أبي عبد الله الصادق (ع) فقال: إنَّ لي صبياً ربما أخذه ريح ام الصبيان فآيس منه لشدة ما يأخذه، فإن رأيت يا ابن رسول الله أن تدعو له بالعافية قال: "فدعا الله عز وجل له .."(4).

فإن الواضح من هذه الرواية أنَّ ام الصبيان ليست سوى ريح تُصيب الصبي، وذلك تعبير عن نوع من الداء ينتاب الأطفال، ولذلك سمِّي بأم الصبيان.

وأما أنَّ الأذان والإقامة يدفعان عن الصبي هذا الداء فهو بمعنى أنَّهما يقتضيان ذلك، فلأنَّ الله تعالى هو الدافع للبلاء فجعل أسباباً لذلك فكان منها العلاج بالأدوية وجعل منها الصدقة والدعاء وتلاوة القرآن وجعل منها كما هو مقتضى هذه الرواية الأذان في أُذن الصبي اليمنى والإقامة في أذنه اليسرى. وكلُّ ذلك إنما هو مقتضٍ للشفاء وليس علةً تامةً له فقد يحول دون الاستفادة من هذه المقتضيات مانع فلا يترتب عليها الأثر المُنتظَر منها.

وبذلك يتبين أن ما عليه بعض الناس من اعتقادٍ بأنَّ تابعةً من الجن تُسمى بام الصبيان تكون هي السبب في إجهاض المرأة لجنينها وقد تكون سبباً في إصابة الأطفال بالجنون أو الصرع لأنها تترآى لهم بوجهها البشع القبيح فيفزعون منها فإما أن يترتب على ذلك بكاء دائم أو يترتب عليها إصابتهم بالخبال أو الشلل فإنه مما لا أساس له في الشريعة، ويذكر البعض أنَّ أم الصبيان فزعٌ ينتاب الطفل نتيجة أن الشيطان يُمسك به عند الولادة وهو من الرجم بالغيب حيث لم يقم عليه دليل.

وأما ما نُسب إلى الرسول (ص) في بعض كتب العامة من أنّه التقى في المدينة بأم الصبيان فسألها: "أين تريدين؟" فقالت: جئت للذي في حجر أمه آكل لحمه وأشرب دمه وأدقُّ عظمه، فلعنها فقالت: لا تلعنِّي يا رسول الله فإنَّ لي اثني عشر اسماً من عرفهن وعلَّقهن فإني لا أقربه. فإنه من حديث الخرافة ولم يثبت حتى عند علماء السنة فإنها من الموضوعات التي يستأكل بها المشعوذون.

وكذلك ما نسبه بعضهم أنَّ سليمان النبي (ع) التقى بأم الصبيان فوجدها عجوزاً ناشرة شعرها فاتحة فمها رافعة يديها محدودة أنيابها أسنانها نيران ومن أنفها دخان تبحث الأرض بأنيابها عيناها كالبرق الخاطف وصوتها كالرعد القاصف فقال لها: "أيتها الملعونة لم أر في طريقي أوحش منك منظراً ولا أقبح منك لوناً". قالت: أنا سخَّرني ربي وسلَّطني على بني آدم وحواء، فقال لها: "لا بدَّ من أن أقيدك بالقيود الحديدية". فقالت: لا تقيِّدني، لا أفعل إلا بأمر الله فيمن لم يُحرِّز نفسه مني. فسألها سليمان عن الحرز الذي يُتحرَّز به منها، فقالت: جلوش عيروش حراش هواش بنت الدهيم ام الصبيان... ثم قالت: ما طفت صغيراً ونجا ولا كبيراً ومشى... .

فعلى مثل هذه الأساطير يعتاش السحرة والمشعوذين، فهم يروِّجون لهذه الأكاذيب فيملئون قلوب الناس رعباً وخوفاً على أنفسهم وأطفالهم فيلجئون حينذاك إلى هؤلاء المشعوذين الذي يتظاهرون بالنسك والصلاح.

فإنا لله وإنا إليه راجعون

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

 

1- كتاب القانون: ج2/77.

2- تذكرة أولى الألباب: ج2/14.

3- تذكرة أولى الألباب: ج2/180.

4- الفصول المهمة: ج3/196.