لماذا ملة إبراهيم وليس ملة موسى أو عيسى؟
المسألة:
الآية التالية من سورة البقرة: ﴿وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.
لماذا ذُكر في الآية ﴿بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ ونعلم أن موسى وعيسى (ع) كانوا بعده وشريعتهما نسخت شريعة ابراهيم (ع)؟
الجواب:
شرائع الأنبياء قاطبة تدعو لدينٍ واحد لا فرق بينها في الأصول الإعتقادية، والتفاوت بينها إنَّما هو في بعض الأحكام المتصلة بأفعال المكلفين، فقد يجب فعلٌ في شريعةٍ ويكون في شريعةٍ أخرى مستحبا أو غير واجب، وقد يحرم فعلٌ في شريعةٍ ويكون مباحاً في شريعةٍ أخرى، وأما أصول الإعتقادات فهي متطابقة في عموم الشرايع الإلهية، وكذلك هي متطابقة فيما توصي به من قيم ومبادئ عامة.
لذلك أكد القرآن الكريم في مواضع عديدة على أنه جاء مصدِّقاً لما بين يديه من التوارة والإنجيل.
قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ.. ﴾(1).
وقال تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ..﴾(2).
وقال تعالى: ﴿وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا﴾(3).
وقال تعالى: ﴿قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾(4).
وقال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾(5).
وأفاد القرآن الكريم في مواضع عديدة أن موسى (ع) جاء مصدقاً لما بين يديه أي لمن سبقه من الأنبياء وأن الإنجيل جاء مصدقاً للتوراة.
قال تعالى: ﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾(6).
فالشرايع الإلهية متطابقة فيما جاءت به من أصول العقيدة، والتفاوت بينها إنَّما هو في بعض الأحكام المتصلة بأفعال المكلَّفين ، وكذلك ثمة تفاوت بينها من جهة السعة والضيق ، وفيما عدا ذلك فهي متطابقة.
ومعنى أن الشريعة اللاحقة تنسخ ما سبقها من شرائع ليس هو إلغاء الشرائع السابقة من الأساس وليس معناه إلغاء الأصول الإعتقادية التي جاءت بها الشرائع السابقة وإنما هو بمعنى لزوم اعتماد الأحكام الشرعية التي جاءت بها الشريعة اللاحقة إذا كانت منافية للأحكام التي جاءت بها الشرائع السابقة. فدائرة النسخ لا تتعدى الأحكام الشرعية الإعتبارية كالواجبات والمحرمات والتي ينشأ جعلها عن ملاكات في متعلَّقاتها أي أنَّ جعلها ينشأ عن ملاحظة المصالح والمفاسد الكامنة في متعلَّقات الأحكام، ومن الواضح أنَّ المصالح والمفاسد قد تتغير في بعض الفروض بتغيُّر الزمان والمكان وهذا ما ينشأ عنه النسخ لبعض الأحكام. وأما الأصول الإعتقادية كالتوحيد والصفات الثبوتية لله تعالى والوحي والمعاد فهي حقائق لذلك فهي لا تخضع للتغيير والنسخ، فشرائع الأنبياء قاطبة متطابقة من جهتها.
وأما لماذا منع القرآن من اعتماد الديانة اليهودية والنصرانية وأمرَ بإعتماد ملةَ إبراهيم (ع) رغم أنَّ شريعته متقدِّمة زمناً على كلا الشريعتين فجوابه أنَّ القرآن لم يمنع من اعتماد ما جاء به موسى واقعاً من شريعة، ولم يمنع من اعتماد ما جاء به عيسى واقعاً من شريعة بل أمر في مواضع عديدة باعتماد ما جاءا به من شريعة.
قال تعالى: ﴿قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾(7).
وقال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ..﴾(8).
فالدين الذي شرعه الله تعالى لأمة محمد (ص) هو ما أوصى به نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى.
ووصف القرآنُ التوراةَ بأنه هدى ونور وكذلك وصف الإنجيل.
قال تعالى: ﴿وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ / مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ﴾(9).
قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾(10).
قال تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُور﴾(11).
فشريعة الإسلام جاءت مصدِّقة ومتمِّمة لشريعتي موسى وعيسى (عليهما السلام).
وأما قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾(12).
فمعناه المنع من اعتماد ما عليه المنتسبون لهاتين الديانتين من معتقداتٍ وأحكام، وذلك لأنَّهم أي اليهود أدخلوا في شريعة موسى ما ليس منها، وأدخل النصارى في شريعة عيسى ما ليس منها، وهم حينما يدعون الناس إلى اليهودية والنصرانية فهم إنَّما يدعونهم إلى ما يعتقدونه مما جاء به موسى وعيسى (ع) ومما أضافوه من عند انفسهم وزعموا أنَّه قد جاء به موسى وعيسى (ع).
فمراد قول اليهود ﴿كُونُواْ هُودًا﴾ هو الدعوة إلى اليهودية التي أدخلوا عليها ما ليس منها وغيَّروا فيها ما كان منها، ومراد النصارى من قولهم للناس: كونوا نصارى هو الدعوة إلى النصرانية التي أدخلوا عليها ما ليس منها وبدَّلوا فيها ما كان منها.
فنفي الآية الكريمة تحقُّق الهداية عند قبول ما يدعو إليه اليهود والنصارى من اعتماد دينهم نشأ عن أنَّ ما يعتقدونه ويدعون إليه ليس هو الدين الخالص الذي جاء به موسى وعيسى عليهما السلام.
وقد صرَّحت آية أخرى بذلك وهي قوله تعالى: ﴿وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾(13).
فالآية المباركة اعتبرت اتَّباع ملَّتهم أتباعاً لأهوائهم وليس أتِّباعاً لشريعتي موسى وعيسى، إذ أنَّ ما يعتقدونه أبعد ما يكون عن شريعتي موسى وعيسى عليهما السلام.
هذا وقد تصدى القرآن الكريم لتبيان انحرافهم عن شريعتي موسى وعيسى في مواضع عديدة، ومن ملاحظتها يتضح منشأ النهي عن إتباع ملة كلٍّ منهم.
فمن ذلك قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾(14).
وقال تعالى: ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾(15).
وقال تعالى: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾(16).
وقال تعالى: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ﴾(17).
وقال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾(18).
وقال تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ﴾(19).
وآيات أخرى كثيرة تؤكِّد انحراف اليهود والنصارى عن شريعتي موسى وعيسى (عليهما السلام). ومن ذلك يتضح منشأ الأمر بإتباع ملة إبراهيم والإعراض عن ملتي اليهود والنصارى.
ثم إنَّ الآية المباركة قد اشتمل ذيلُها على منشأ الأمر بإتباع ملة إبراهيم والإعراض عن ملتي اليهود والنصارى قال تعالى: ﴿وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(20).
فالأمر بإتِّباع ملة إبراهيم منشأه أنَّ ملة إبراهيم تدعو إلى التوحيد وأما ما يدعو إليه اليهود والنصارى فهو الشرك. فهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله وقال بعضهم عزيز ابن الله وقال بعضهم المسيح ابن الله وقالوا إنَّ الله ثالث ثلاثة.
ثم إنَّ الآية التي تلت الآية -مورد البحث- قد بيَّنت معنى إتباع ملة إبراهيم (ع) وأفادت أنَّ المراد من الأمر بإتباع ملة إبراهيم (ع) هو الأمر بإتباع ما أنزله الله على نبيه محمد (ص) وما أنزله على مَن سبقه من الأنبياء بما فيهم موسى وعيسى (ع).
قال تعالى: ﴿قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾(21).
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
1- سورة المائدة / 48.
2- سورة الأنعام / 92.
3- سورة الأحقاف / 12.
4- سورة الأحقاف / 30.
5- سورة البقرة / 101.
6- سورة المائدة / 46.
7- سورة البقرة / 136.
8- سورة الشورى / 13.
9- سورة آل عمران / 3-4.
10- سورة المائدة / 44.
11- سورة المائدة / 46.
12- سورة البقرة / 135.
13- سورة البقرة / 120.
14- سورة التوبة / 30.
15- سورة التوبة / 31.
16- سورة المائدة / 17.
17- سورة المائدة / 73.
18- سورة المائدة / 116.
19- سورة المائدة / 64.
20- سورة البقرة / 135.
21- سورة البقرة / 136.